خطيئة آدم وخلاصنا

خطيئة آدم وخلاصنا

القديس سمعان اللاهوتي الحديث

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

لن يجد أحد أن الفردوس خُلِق بسبب الضرورة أو العجز، ولا لأي سبب حاسم آخر، إنّما فقط بسبب الازدراء بوصية الله، بسبب العقوق والردة اللذين أظهرهما آدم نحو الله خالقه. إلى هذا، فقد أعطاه الله فرصة للتوبة كي يحصل على الغفران. هذا كان لسببين: أولاً، لأنه لم يبتكر الشر بنفسه، لكنه خُدِع واقتيد إلى الخطأ بمشورة الشيطان، وثانياً، لأنّه كان يلبس بَشَرة، إذ إن آدم كمخلوق كان عُرضَةً للتغيّر، لكنّه لم يكن ممكناً له السقوط الكليّ في الارتداد عن الله، لى غرار ما فعل الشيطان والأبالسة غير المتجسّمين الذين تبعوه.

إذاً، لقد تُرِك للإنسان أمل كبير باقتناء المغفرة، إذ أنه لابس ذلك العيب الطبيعي الذي اكتسبته الطبيعة البشرية بعد السقوط، وبسببه هو يخطأ. مع هذا، هذا لا يبرّر خطاياه، لكن ينبغي فقط أن يوحي إليه بأن يستعجل إلى الله بأسرع ما يمكن مع إحساس بعرفان الجميل نحوه لأنه أعطاه فرصة أن يتوب، وأن يطلب منه المغفرة والقوة: المغفرة عن خطاياه، لأنه وإن أخطأ بسبب الضعف البشري، فعليه أن يقاوم إلى الموت. والقوة، حتى يتلقّى من الله القدرة، بنعمة المسيح، على ألاّ يخطأ، بل ليقوم فقط بالأعمال الحسنة التي ترضي الله.

لم يخطأ أحد، ولا يستطيع أحد أن يخطأ أبداً، كما فعل آدم، لأن أحداً لم يساوِه ولن يساويه في كل شيء. هذا يعني أن لا أحد مثله في كونه غير معرَّض للمِحَن، بلا اهتمام، ومتحرراً من كل الحاجات الطبيعية. إذ، لاحظوا، أي عقاب عُيِّن لآدم وذريته لانتهاك الوصية في الفردوس: العطش، الجوع، البرد في الشتاء، الحر في الصيف، ومن كل هذه الحاجة للطعام والشراب واللباس والمأوى، وكل هذه تتطلّب عملاً وإقلاقاً للنفس وعرقاً مدى الحياة. وماذا يتبع أيضاً؟ نفاد الصبر بسبب كل الحاجات التي ذكرناها، ومعارضة لحُكْم الله لأن كل إنسان مخلوق لهذه الحياة الحاضرة، ولا يعلم أن كل هذا العقوبات المؤقَّتة قد وُضعَت على كل الجنس البشري بسبب معصية الجد الأول آدم، يتلقّاها لا بالشك بل بالتأفف الوقح منها. وإذ يرغب بالراحة من حاجاته فهو يحسد ويجاهد ليكسب أكثر من حاجته فيأخذ ما لغيره، ويكون غير عادل.

وهكذا، هذه هي خطايانا، أي أننا لا نحمل العقوبات الوقتية التي من الله ولا نشكره عليها بل نتواقح ونتصرّف كأننا أعداء الله فنكون ضد الحكم الإلهي القائل بعرق جبينك تأكل خبزك (تكوين 19:3)، ونبذل كل قوتنا لكي نجد الراحة ولا نجدها لأنه لا يوجد أي فرصة لدينا للهروب من الأعمال والأعراق، ولا من هذا الاستعباد للحاجات، مهما عملنا.

لهذا، مغبوط هو ذلك الذي يحتمل كل هذه التأديبات الوقتية بامتنان، معترفاً بأنه أدين عن حق بسبب الخطيئة الجدية. نعم هو سوف يجد الراحة من أعماله لأن بسبب هذه الضربات أعطى الله الكلي الصلاح الموتَ للبشر حتى أن الذين يحتملون هذه الآلام بالشكران يرتاحوا منها لبعض الوقت ومن ثم يُقامون ويمجَّدون في يوم الدينونة من خلال آدم الجديد، يسوع المسيح البريء من الخطأ والرب الذي “أُسلِم من أجل خطايانا و أٌقيم لأجل تبريرنا”(روما 25:4).

إن الرب الذي أتى إلى العالم وتأنّس قدّم للبشر الصلاحين العظيمين التاليين: لقد وحّد الطبيعة الإلهية مع البشرية حتى يُتاح للإنسان أن يصير إلهاً، وفي هذا الإنسان الذي صار إلهاً بالنعمة، سكن الثالوث الفائق القداسة سرياً. فكيف يستطيع مَن مُنِح هذه العطايا العظيمة أن يخطأ بعد هذا. كما يقول الإنجيلي يوحنا: “كلّ مّن هو مولود من الله لا يفعل خطيئة لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنّه مولود من الله” (1يوحنا 9:3).

وما هي الخطيئة؟ الأفكار والكلمات والأعمال الشريرة. فإن الذي مُنِح فعلاً أمور الله الصالحة في تأنّس الإله لا يستطيع أن يأذن لهذه الأشياء بأن تحدث له. لا يمكن له بأن يسمح بها، وإذا سمح بها ولو قليلاً، فهو يكف عن كونه ما هو عليه. إن مَن يفتكر أحياناً بأمور حسنة وأحياناً بأمور سيئة، مَن كلامه أحياناً حسن وأحياناً سيء، مَن أعماله أحياناً صالحة وأحياناً شريرة، هو مثل إنسان يذهب أحياناً إلى هيكل الله وأحياناً إلى هيكل الأصنام، أحياناً يعبد الله وأحياناً الشياطين. أيمكن لإنسان يقيم الله فيه أن يكون على هذا المنوال؟

إذاً، على المسيحي دائماً أن يفكّر ويتكلّم ويعمل فقط ما هو صالح، إذ بحسب قول السيد “لا يقوم بيت مقسوم على ذاته” (متى 25:15). لكن على المرء أن يحفظ دائماً في فكره أنه من المستحيل على الأفكار أن تكون دائماً حسنة، ومن هذه الأفكار تنشأ عادةً الكلمات والأعمال المشابهة لها، إلاّ إذا أتى المسيح السيد وسكن أولاً في الفكر، وهذا ما ينبغي بنا أن نبذل من أجله ما في استطاعتنا، أي أن يأتي المسيح السيد ويسكن في فكرنا.

يقول يوحنا الإنجيلي “لأجل هذا أُظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس” (1يوحنا 8:3). أعمال الشرير هي كل أنواع الخطايا: حسد، كذب، مكر، كراهية، خصومة، حقد، افتراء، غضب، غيظ، غرور، زهو، فقدان للرحمة، اشتهاء ما للغير، اغتصاب، إثم، شهوة رديئة، مخاصمة، استياء، اهتياج، سخرية، تجديف، نسيان لله، وكل ما عداها من الشرور. وهكذا، ماذا يجني المسيحيون الذين يقومون بهذه الأعمال من تسميتهم مسيحيين، ما لم يقضِ تجلِّ ابن الله فيهم على أعمال الشرير هذه؟

إذا قال أحد ما أن الذين على هذه الحال يشرحون الكتاب المقدس ويتفوّهون باللاهوت ويعلّمون العقائد الأرثوذكسية، فليعلم أن عمل المسيح ليس في هذا. لا يقول يوحنا الإنجيلي أن ابن الله ظهر لهذا الهدف، أي لكي يتفوّه البعض باللاهوت ويفاخروا بأرثوذكسيتهم، بل لكي يبيد أعمال الشرير. في ما يختص بهؤلاء، أقول أن على الإنسان أن يطهّر الإناء أولاً ومن ثم يضع فيه الطيب حتى لا يتدنّس الطيب نفسه وبدل العبير يخرِج رائحة رديئة. إن ابن الله، الكلمة، لم يتأنّس فقط لكي يؤمن الناس بالثالوث الأقدس ويمجدوه ويتكلّموا لاهوتياً عنه، بل لكي يهدم أعمال الشرير. من بين كل الذين تسلّموا إيمان المسيح، يُعهَد بأسرار اللاهوت والعقائد الأرثوذكسية إلى الذي أبيدَت فيه أعمال الشرير. أمّا الذين لم تزل فيهم هذه الأعمال وما زالوا مرتبكين بها بما فيه الإهانة لله والتجديف عليه، فهم بالجوهر في نفس درجة الوثنيين الممنوعين المحظورين، ليس فقط من قراءة الكتاب المقدس وشرحه، بل حتى من دخول هيكل السيد للصلاة هناك، كما هو مكتوب: “وللشرير قال الله ما لك تحدّث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك. وأنتَ أبغضتَ التأديب وألقيت كلامي خلفك” (مزمور 16:49-17).

إن الذي لا يحمل في قلبه ناموس الله يكره التأديب والإصلاح اللذين توحي بهما كلمات السيد ويسدّ إذنيه حتى لا يسمع كلمة الله التي تعلن عن الدينونة الآتية وعقاب الخطأة، أو نار جهنم التي لا تُطفأ والعذابات الأخرى في الجحيم، والحكم الأبدي الذي لا ينجو منه أي إنسان متى خضع له. إن الذي لا يكافح بكل قوته لأن يضع دائماً أمام عينيه وصايا الله ويحفظها، بل بالمقابل يزدري بها ويفضّل عكسها عليها ويتصرّف على هذا الأساس، يطرح كلمات الرب وراءه.

سوف أفسّر بهذا المثل. عندما يسمع أحدهم وصايا الرب “توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات” (متى 17:4)، وأيضاً “؟؟؟ لتدخلوا في الباب الضيق” (لوقا 24:13)، فلا يتوق إلى التوبة وإلى إلزام نفسه بالعبور بالباب الضيق، بل يقضي أيام حياته في طيش عظيم مضيفاً إلى خطاياه السابقة في كل ساعة خطايا جديدة، مقدماً الراحة لجسده على حساب ما هو ضروري لا بل وما هو لائق، ما يقدم إشارة إلى الطريق الواسع العريض الذي يؤدي إلى الضياع، وليس إلى الطريق الضيق المحزِن الذي يقود إلى الحياة الأبدية، أليس جلياً أن هذا الإنسان يطرح وراءه كلمات الله أي أنه يزدري بها ويفعل إرادته، أو بتعبير أفضل، إرادة الشيطان؟ بالواقع، يصف داود النبي مَن يلقي وراءه كلمات الله: “أطلقتَ فمَك بالشرّ ولسانك يخترع غشاً. تجلس تتكلّم على أخيك. لابن أمّك تصنع معثرة. هذه صنعتَ وسكتُّ. ظننتَ أني مثلك. أوبخك وأصف خطاياك أمام عينيك. افهموا أيها الناسون الله لئلاّ أفترسكم ولا منقذ. ذابح الحمد يمجدني والمقوّم طريقه أريه خلاص الله” (مزمور 19:49-23).

ألا ترون أن هذا الإنسان قد نسي الله وهو يستحق عقاباً أعظم من الكافر الذي لم يعرف الله أبداً؟ إذ، كونه عرف الله، كما يقول الرسول، هو لا يمجده بل يسيء إليه في عَمْلِه أعمال الشرير. وهكذا فهو عدو الله، حتى ولو بدا وكأنه الأكثر جدارة بالثقة بين معلمي العقائد الإلهية واللاهوت الأرثوذكسي. ومن المستحيل أن يقدر هكذا إنسان على إعلان العقائد الإلهية والتفوّه باللاهوت بأمانة، إذ كيف للفكر المعتّم بضمير مدنس أن يفكر على نحو صحيح وبطهارة؟ وحده الذي تحرر من أعمال الشرير وهو ثابت في احتواء الله في فكره يستطيع أن يعلن أسرار الله بأمانة كونه لم يعد مربوطاً بأعمال الشيطان. فلينجّنا جميعنا سيدنا يسوع المسيح من هذه الأعمال حتى ندخل ملكوته، له المجد إلى الأبد. آمين.

Leave a comment