الحق والمحبة في كتابات القديس يوحنّا الإنجيلي

الحق والمحبة في كتابات القديس يوحنّا الإنجيلي

القديس الأسقف ثيوفانس الحبيس

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

إن القديس يوحنّا اللاهوتي، الرسول والإنجيلي، تلميذ الرب المحبوب، هو قبل كل شيء مثال للمحبة ومعلّم لها، فالمحبة تتنفس من خلال إنجيله، فيما دروسها تملأ رسائله، وحياته هي مثال واضح عنها.

لقد شرح حول كل أسرار المحبة: مصدرها، حركتها في الأعمال، تأوّجها، والقمم التي تقود تابعها إليها. إن القديس يوحنا معروف جداً وبشكل خاص في موضوع المحبة هذا. وإذا تأمّل أيّ كان بموضوع المحبة، لا بد أن يفتكر مباشرة بالقديس كمثال لها وأن يتحوّل إليه كمعلم عنها.

فلنتفحّص الآن كيف استعمل حكماء هذا العصر تعليمه. إن عندهم نوع خاص من الحكمة التافهة تسمّى “اللاتفريقيّة” (Indifferentism)1. وهم يقولون بحكمتهم: أمِن بما يحلو لك فهذا لا يهم، إنما أحبب الجميع كإخوتك، كن محسناً إليهم، وليكن لك تأثير مفيد عليهم. إنهم يشيرون إلى أن الإنجيلي يوحنّا يحكي عن المحبة فقط. بالنسبة إليه، المحبة هي النور والحياة وكل الكمال. وبحسب كلماته، مَن لا يحب يمشي في الظلام ويسكن في الموت ويكون قاتلاً.

كما نعرف، عجز القديس يوحنّا عن المشي في شيخوخته، فكانوا يحملونه إلى الكنيسة. هناك يحذّر “إيها الإخوة، لنحب بعضنا بعضاً”. إذاً هو أعطى المحبة قيمة كبرى. لكنهم يخبروننا بأنه علينا أن نحب مثل تلك المحبة الغريبة، أقله إذا كنا نرغب بذلك.

أنا شخصياً اضطررت لسماع هذه “الحكمة”. قد تضطرون إلى سماع شيء مماثل. فلنقابل تعليمهم المضلِّل بتعليم القدّيس يوحنّا اللاهوتي الصحيح ولنحفظ أفكارنا من الميل عن أصول الحس المسيحي الصحيح إلى حكمة اللاتفريقيين العبثية. يرغب هؤلاء المدعوين حكماء ببناء كل شيء بمعزل عن الله بما فيها سعادتهم الخارجية وفضيلتهم. ومن هذا هم يجاهدون حيثما استطاعوا لكي ينسجوا بحنكة مدرسةً فكريةً لا حاجة فيها للكلام عن الله. إنهم يقرعون طبول المحبة ويخبروننا بأن نحب بعضنا البعض لكن من دون داعٍ للتفكير بالله. إن الإنجيلي القديس يهزمهم عند هذه النقطة. مع أنه يذكّرنا دائماً وبشكل دقيق بمحبة أحدنا الآخر، لكنه يضع المحبة في ارتباط قوي مع الله، مع محبته ومعرفته المستحيل فصلهما. لاحظوا أين تنشأ محبة القديس يوحنا لله، ليس في أننا نحبه بل في أنه هو يحبنا، وقد أرسل ابنه ليكون الكفارة عن خطايانا. ويضيف، أيها الأحباء، إن كان الله قد أحبنا هكذا ينبغي أن يحب بعضنا بعضاً (1يوحنا 10:4-11). بحسب تفكيره، يجب أن تُبنى محبتنا المتبادلة بعمل الإيمان بالرب الذي أتى ليخلصنا، وبالتالي ليس صحيحاً أن يؤمن المرء كما يحلو له.

ثم يعلّم، أيها الأحباء، لنحب بعضنا بعضاً  لأن المحبة هي من الله (1يوحنا 7:4). إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا (1يوحنا 12:4)، الله محبة ومَن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه (1يوحنا 16:4). كما ترون، إنه لا يقول أي كلمة عن المحبة بدون ذكر الله والمخلّص. المحبة هي من الله وتقود إليه. إذاً مَن يقول أنه يحب أخاه ولا يعرف الله والمخلص، هو كاذب والحق ليس فيه (1يوحنا 4:2 و20:4). وهكذا من الممكن أن نلخّص كل تعليم الإنجيلي عن المحبة بالكلمات التالية: حتى تحبّ أخاك يجب أن تحبّ الله، ولكي تحبّ الله، عليك بالتأكيد أن تعرفه في داخلك وتعرف بشكل خاص عمله الخلاصي لنا. يجب أن نعرف ونؤمن. بمَ تكمن إرادة الله؟ بالمحبة والإيمان، هكذا تقول الوصية: أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح ونحب بعضنا بعضاً (1يوحنا 23:3). إنه لا يوصينا فقط بأن نحب بل أيضاً بأن نؤمن بالرب، وبطريقة يكون الإيمان مصدر المحبة. إذا شاء أحد ما أن يجمع كل الأماكن التي يحكي فيها الإنجيلي يوحنا عن المحبة فقط، لا بد أن يضحد تعليمه التفكير الخاطئ بأن تحب وتؤمن كما يحلو لك.

إلى جانب تعليمه عن المحبة هو يحكي أيضاً عن الإيمان مستقلاً عن ناموس المحبة. انظروا كيف أنه يرفض بشكل مطلق أولئك القائلين: أحب كيفما تشاء. ماذا يعلّم في الآيات الأولى: الذي كان من البدء، الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح (1يوحنا 1:1-3).

أهم نقطة عند القديس يوحنا وسائر الرسل هي التعليم عن الشركة مع الله عبر الرب يسوع المسيح الذي منه تنبع شركة المؤمنين مع بعضهم البعض. كيف لنا أن نحب الأول دون الآخر؟ من ثم يسأل القديس يوحنا هذا السؤال: مَن هو الكاذب؟ ويجيب هكذا: “مَن هو الكذّاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح. هذا هو ضد المسيح الذي ينكر الآب والابن. كلّ مَن ينكر الابن ليس له الآب أيضاً ومَن يعترف بالابن فله الآب أيضاً” (1يوحنا 22:2-23، 15:4). تتلخص كل القضية في الاعتراف بأن الرب يسوع المسيح هو ابن الله وإله. إذاً، كيف يكون ممكناً القول “آمِن كما تريد”.

من ثمّ يأتي التحذير: “أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم. بهذا تعرفون روح الله. كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله. وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله. وهذا هو روح ضد المسيح” (1يوحنا 1:4-3). كلّ مَن يقول “آمِن كما تشاء” لا يعترف بيسوع المسيح، لأنه لو اعترف بالمسيح فلا يتكلّم هكذا. إذاً لا يستطيع أن يكون من الله. إذاً من أين هو؟ إنه بالحقيقة من ضد المسيح.

في النهاية، يصف الإنجيلي جوهر المسيحية على هذا المنوال: “وهذه هي الشهادة أن الله أعطانا حياة أبدية وهذه الحياة هي في ابنه. مَن له الابن فله الحياة ومَن ليس له ابن الله فليست له الحياة” (1يوحنا 11:5-12). مَن عنده ابن الله؟ المؤمنون باسمه. لذلك يقول ويكتب: “أنتم المؤمنين باسم ابن الله لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية” (1يوحنا 13:5). بالتالي، إن مَن لا يؤمن بابن الله ليست له الحياة الأبدية. أمن الممكن أن لا فرق بالإيمان؟ لا. “نعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية” (1يوحنا 20:5).

يجب أن تكون هذه المقاطع كافية، على ما أفترض، لكي تظهر للاتفريقيين أنهم عبثاً يسعون إلى إيجاد تأييد لكذبهم في تفسير تعليم القديس يوحنا اللاهوتي. على الأرجح أنهم يطلقون هذه الادعاءات من دون أن يكونوا قد قرأوا كتابات القديس يوحنا المقدسة الملهَمة من الله، لكنهم يقتبسون منه استناداً إلى إشاعات عن محبته الفيّاضة. فليجدوا لهم الآن شيئاً غير هذه الحجة ليدافعوا عن تعليمهم أمامنا نحن المؤمنين. إن كلمة واحدة من التلميذ المحبوب تكفي لتخزي تعليمهم و تثبّت بلا شك إيماننا على نحو بيّن، في ما أعطي لنا من الرب عبر الرسل القديسين وحفظة الكنيسة.

أرغب فقط في أن أضيف الاعتبار التالي إلى كلمات الرسول الإنجيلي يوحنا الحاسمة: بعد أن غرّبوا أنفسهم بفكرهم عن الرب، تعلّق هؤلاء العادمو الإيمان بأعمال الرحمة التي مصدرها ودعامتها هي المحبة. إنهم يتصرفون بهذه الطريقة فقط حتى يستندوا إلى شيء ومن دون أن يكونوا أكيدين أنهم قد وجدوا أساساً صلباً. لو كان عندهم فهماً واضحاً لكيفية تصرُف الرجل بطريقة مثمرة، لما ثبتوا في تعليمهم.

إن جوهر المسألة هو أننا لسنا في الوضع الملائم. إذاً، نحن لا نستطيع أن نتصرّف بالطريقة الصحيحة. لكي نعمل بالطريقة الصحيحة يجب أن ندخل في الحالة الصحيحة. نحن نعجز عن هذا بقوانا الذاتية. الرب، إذ أتى إلى الأرض، رفع الإنسان إلى الحالة الصحيحة. لم يقُد الإنسان إلى هذه الحالة إلا لأن الأخير قبِل منه بشرية مجدَّدة وبالتالي ربح إمكانية التصرف بالشكل الملائم. نحن نكتسب هذه الحالة بالمعمودية، لأن المعمّدين في المسيح لبسوا المسيح. منذ المعمودية نصبح واحداً مع السيد ونبدأ بعيش حياته والعمل بقواه.

على الذين يدّعون المحبة أو العمل الصحيح (لأن المحبة هي ملء الناموس) أن يقبلوا أولاً كل مقدمات المسيحية لكي يصبحوا قادرين على السير بحق ويرفضوا خطأهم. هذا مستحيل من دون الإيمان، لأن الإيمان هو جذر المسيحية وبداية كل شيء. يقول الرب نفسه: “اثبتوا فيّ وأنا فيكم. كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم إن لم تثبتوا فيّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً. إن كان أحد لا يثبت فيّ يُطرَح خارجا كالغصن فيجف ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق” (يوحنا 4:15-6).

إذا راح أحدهم يشرح لكم عن المحبة أو العمل المثمر بمعزل عن الإيمان الصحيح، قولوا له: “انتظر! آمن أولاً بشكل صحيح. بالإيمان اكتسب تعاليم المسيحية الخلاصية ومن خلالها اتحد بالرب واجعل حياتك وقوتك متوقفتين عليه كما قد تعتمد صحتك على دواء، وعندها يصبح عملك مثمراً. إن الحقيقة هي أن الشهادة لحياة بارة هي العمل المثمر في المحبة، ولكن لبلوغها والثبات فيها على المرء أن يقبل حقيقة الله بإيمان ويعبر في كل أعمال الله المقدِّسة. فقط في هذه الشروط، أي بالسلوك بالمحبة الحقيقية، يمكن للمرء أن ينمو في كل شيء إلى الله، على ذاك الذي هو الرأس، المسيح (أفسس 15:4). نستطيع أن نجمل على هذا النحو: مَن ليس له الإيمان الصحيح لا يدخل حالة البِر، ومَن لا يدخل حالة البر لا يستطيع أن يعمل كما ينبغي. أترون الآن كيف لا يصح القول: آمن كما يحلو لك، فقط أحبْ؟”

الإيمان ليس صورة معرفة الله وعلاقتنا به، بل هو يتضمّن كل ما أعطانا الله من الأمور الخلاصية، ليس الكنيسة فقط كمؤسسة بل كل ما تحتويه للخلاص. هذه المؤسسات الخلاصية تصون الإيمان الفاعل. رجالنا الذين يسمّون أنفسهم حكماء قد لا يعارضون التعليم المسيحي، لكن، قبل كل شيء، الأعراف المسيحية تصدّهم، لأن هذه الأعراف ليست أكثر من الإيمان بالحقيقة والعمل، وهكذا فإن خطيئتهم الأساسية هي أنهم لا يرغبون في العمل بروح الإيمان. من المدهش كيف أن هؤلاء الأشخاص يعلّقون بإصرار على المآثر والأعمال لكنهم يسلخون أنفسهم عن النشاط في حقل الإيمان المقدس. هنا ينقص شيء ما. بالتأكيد، هم مطّلعون على قوانين الفكر المنطقي. يوجد هنا ازدواجية حتى أنّ المرء يشك في أنهم فعلاً فاعلون وليسوا أدوات لروح غريب هو بدوره غريب عن الحق.

أيها الإخوة، إذ قد فهمنا هذا، لنحفظ أنفسنا من فكر هذا العالم الشرير. لا يتردد عن الحق إلا الذين لم يتذوقوه. فلنمتلئ من التواضع ومن روح الحق الذي هو كل ما يطلبه إيماننا المقدس، عندها سوف نمتلك ونحمل في داخلنا شهادة تهلك كل الحجج الخاطئة التي في الخارج. لينيرنا الرب بحقه، آمين.

1- الإيمان بأن كل الأديان متساوية من حيث الصحة.

Leave a comment