طبع الصدق في ذهن الأطفال

طبع الصدق في ذهن الأطفال

الشهيد الجديد فلاديمير ميتروبوليت كييف

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

اهتمّوا كثيراً بأولادكم. نحن نعيش في زمن يُعطى فيه الكثير من الحرية للتعبير عن الرأي، والقليل من الاهتمام بضرورة أن ترتكز الأفكار على الصدق. علموهم أن يحبّوا الصدق. (القديس مكاريوس الذي من أوبتينا).

بين الفضائل التي ينبغي غرسها في قلب الولد بمثابرة خاصة، هناك مكان أساسي ومهم للصدق، أي، إحساس بمحبة الصدق ومقت للكذب.

بعد الطاعة، يجب أن تُعطى هذه الفضيلة المرتبة الثانية. إذا كان الكذب جذر كل خطيئة، الصدق هو بداية وأساس كل الفضائل تقريباً، ولهذا السبب على الأهل أن يوجّهوا انتباههم بالدرجة الأولى نحو تغذية الصدق في أبنائهم. كيف ذلك؟

يسأل الأولاد عن كل شيء تقريباً، ويقبلون كلّ ما يقوله لهم أحد الراشدين على أنه حقيقة صادقة، إلى أن يُخدَعوا. الطفل البريء غير الفاسد من كثرة الدلال، لا يعرف شيئاً عن الكذب والنفاق؛ على العكس، إنه يتورّد خجلاً، ليس فقط عندما ينطق كذباً عن غير إرادة، بل حتى عندما يسمع الآخرين يكذبون. لقد زرع الرب حسّ الحقيقة في قلوب الأطفال. يبقى فقط أن نحفظ هذه البديهة الطبيعية وننميها ونقويها. هذه المهمة هي بالدرجة الأولى مسؤولية الأهل وهم يتمكنون من إتمامها بطريقتين: أولاً بأن يزرعوا في أطفالهم، منذ المهد، احتراماً عميقاً ومحبةً للصدق، وثانياً بأن ينمّوا فيهم ضغينة عميقة ومقتاً لكل كذب.

في الحالة الأولى ينبغي إتّباع ثلاث مبادئ أساسية:

أ) علّموا أولادكم أن يحبوا الصدق على أساس إيماني، أي بسبب محبتهم لله وطاعتهم له. ينبغي أن يحبّ الأولاد الله الأزلي الذي هو حقيقة ثابتة، ولأنه يرغب بأن نقول الصدق، ولأنه يمقت الكذب. تثبت محبة الحق فقط إذا كانت مؤسَّسة على الإيمان بالله وعلى توقير عميق له.

ب) عاملوا أولادكم بصراحة مطلقة وإخلاص، وأظهروا أن ثقتكم بهم كاملة. صدّقوا أقوالهم إلى أن تتطلعوا على بعض الكذب. لا تطلبوا منهم أن يثبّتوا صحة أقوالهم بقسم أو حلفان، ناقلين إليهم “ليكن كلامكم نعم نعم أو لا لا” على ما يرِد في الإنجيل، واكتفوا بذلك. من ناحية ثانية، إذا كان لديكم ما يكفي من الأسباب لتشكّوا في كلامهم، فعند أول مرّة يحدث هذا لا تدعوهم يلاحظون أنكم لم تصدقوهم. حاولوا أن تتأكدوا مما إذا كانوا فعلاً يكذبون. إذا كانوا قد كذبوا فعلاً، فينبغي عندها أن يدعو الأب أو الأم الولدَ وأن ينظروا في عينيه بجدية وصرامة، لكن بمحبة، وأن يقول له: “الله يحرّم الكذب؛ وهو يعرف كل شيء، ليس فقط أعمالنا بل أيضاً أفكارنا السرية؛ اللسان الكاذب ممقوت من الله”. احمرار وجه الطفل خجلاً سوف يلزمه على أن يعترف بالكذبة ويكون له درساً للمستقبل”.

ج) بصفتكم والدَين، عليكم أن تبرهنوا لأولادكم محبة للحقيقة واحتراماً لها؛ في كل أقوالكم وأعمالكم كونوا صادقين ولا تكذبوا. فوق كل شيء، أظهروا أنكم أصدقاء الحقيقة والديانة والإيمان الإلهيين. احذروا من اللامبالاة نحو الإيمان وانتبهوا بشكل خاص ألاّ تعطوهم انطباعاً بأن الحياة الشخصية مستقلّة عن الإيمان. إذا سمحتم لأنفسكم بالتعبير عن هكذا أفكار بحضور أولادكم فهذا ليس مجرد نزع لمحبة وتوقير الحقيقة الدينية من قلوبهم، بل هو قتل للإحساس بالحق. إن لم يكن مهماً امتلاك الفهم الصحيح لله ولخليقته، أو اتّباع ديانة صحيحة أو مزيفة، فلماذا على الإنسان أن يهتم بالحقيقة في الأمور العادية؟ وإذا كان وقوع الإنسان طوعياً في الدين الكاذب وإنكاره الوحي الإلهي أمرين مرضيين لله مثل الاعتراف بالإيمان الصحيح، فلماذا هذا الاحترام الفائق للحق؟ ختاماً، إذا كان الذين يدّعون أنّه لا يوجد دين إلهي على حق، وإذا كان الله الحق لم يعتبر أن كشف الحق في أمور الحياة المهمة أمر مستحق العناء، فكيف يُطلب من الإنسان، وحتى من الولد، أن يكون صادقاً في أمور أقل أهمية منها؟ لهذا السبب، أيها الأهل المسيحيون، إذا أردتم أن يحبّ أولادكم الحق، عليكم أن تزرعوا فيهم أولاً محبة الحقيقة الإلهية واحترامها. احفظوا قلوبكم وقلوب أولادكم من اللامبالاة نحو شؤون الإيمان. إذا لاحظ الأولاد أن موقفكم من حقائق الأمور فاتر وأنكم لا تؤمنون بكلمة الله، ألا تتوقعون منهم أن يتبنوا الموقف نفسه من الحقيقة؟ عليكم إذاً أن تظهروا بأنفسكم محبة الإلهيات وتغذّوا هذه المحبة في أولادكم.

عليكم أن تكونوا أيضاً في شؤون الحياة الأخرى صادقين وأمناء. تجنّبوا كل كذب ورياء ومكر في علاقاتكم مع الآخرين. إذا رأى أولادكم أنّكم تسمحون بالرياء في تعاطيكم مع الآخرين، وأنكم تستسلمون للمكر والخديعة والنفاق، وإذا لاحظوا أن في علاقاتكم مع الأناس المهمين تظهِرون الصداقة فيما تزدرونهم في غيابهم، فعاجلاً سوف يتصرّف أبناؤكم بالطريقة نفسها. إذا، من جهة أخرى، أظهرتم مقتاً للكذب والمكر والتملّق والخداع، فسوف يحمل أبناؤكم الصدق في قلوبهم ولن يكون الكذب والنميمة على ألسنتهم.

في تغذية محبة الصدق وتوقيره، عليكم أن تكافحوا في الوقت نفسه ضد الكذب والغش. قد تكون القواعد الأربعة التالية مفيدة لتحقيق هذا الهدف.

أ) علّموا أولادكم أن يكرهوا الكذب لأسباب إيمانية، موجّهين انتباههم إلى الله. يجب أن يتجنّب أبناؤكم الكذب لا خوفاً من العقاب إذا انكشف أمرهم بل بسبب معرفتهم بأن الله يمنع الكذب وان كل كذبة هي خطيئة. أظهروا لأولادكم كم أن الكذب مهين لله مستعملين أمثلة من الكتاب المقدس. على سبيل المثال: الشفاه الكاذبة يمقتها الرب. شددوا عليهم أن الكذب من اختراع الشيطان حين خدع آدم وحواء في الفردوس ولذلك يقول الرب أنّه كذاب وأبو الكذب (يوحنا 44:8)، وعليه فالأولاد الذين يكذبون يقلّدون الشيطان ويصيرون مثله.

ب) لا تسمحوا لأولادكم بأصغر كذبة. إذا ارتكب الولد خطأً و اعترف به فوراً، طوعياً وبصراحة، سامحوه في المرة الأولى، أو إذا كان كذبة كبيرة، خففوا العقاب لكن أخبروه بأنه قد مُنح تساهلاً بسبب اعترافه السريع. في الوقت نفسه، لا تفرطوا باللين وكأنكم تعطون الولد فرصة للاستفادة من الكذب في حال كان يميل إليه. إذا، من جهة أخرى، عمل الولد خطأ وأنكره فينبغي أن يكون القصاص مضاعفاً؛ أخبروه “هذه لسوء التصرّف وهذه مضافة للكذب”. إذا تكلّم الولد بالسوء عن شخص ما بهدف الانتقام أو الحقد، أي أنه افترى عليه، لا ينبغي الاكتفاء بالعقاب العادي بل عليه أن يعترف بافترائه أمام كل الذين سمعوه. هذا ما يتطلبه قانون الأخلاقية المسيحي.

ج) لا تكذبوا أو تخدعوا. لا تتسامحوا مع الإخوة الأكبر أو الأخوات أو الخدم أو غيرهم، بهدف خديعة الأولاد. غالباً ما يلجأ الناس إلى الخديعة بهدف تهدئة طفل باكٍ: فإمّا أن يخيفوه أو يقطعون وعوداً لا يحفظونها. هذا مضرٍ جداً! سوف يلاحظ الولد سريعاً بأنه كان مخدوعاً، وسوف تتأثر ثقته بما يصدر عن أهله، كما أن حسه بالحقيقة سوف يتأذى ويرتجف.

د) لا ترغموا أولادكم على الكذب، سواء عن قصد أو عن غير قصد. مثلاً، عندما يقترب الأب أو الأم من الولد لسبب ما، بغضب وعبوس وربما مع عصا باليد، وهو يقول “مَن عمل هذا؟” أو “سوف أضربك إذا كنت قد عملت هذا”، وغيرها. أيكون غريباً أن يكذب الولد؟ وماذا يقول المرء عن الأهل الذين يضحكون لكذب أبنائهم، أو حتى الذين يمدحونهم لقدرتهم على الكذب بشكل ذكي؟ أو ماذا يفكّر المرء بالأهل الذين يعلّمون أولادهم الكذب، مساعدين إياهم على الخديعة، على سبيل المثال، خديعة رؤسائهم ومعلميهم للتملّص من موقف صعب أو لتلافي الوقوع في أمر ما؟ هؤلاء الأهل، إذا كانوا مازالوا يستحقون أن يُسمّوا أهلاً، هم شياطين أولادهم. أعجيب أن يكون أولادهم في المستقبل من الذين يقسِمون ويخدعون ويسرقون؟ تظهر الخبرة أن الذي يفتكر بالكذب ولو قليلاً، لن يتوانى عن السرقة والخديعة.

هنا إذاً بعض قواعد يمكن أن تكون مفيدة لأن يُغرَس في الأولاد شعوراً بالمحبة والاحترام للصدق من جهة، ومن جهة أخرى مقتاً عمقاً وكراهية للكذب! علّموا أولادكم أن يحبوا الصدق أولاً بدافع محبة الله. عاملوهم دائماً بانفتاح وثقة. قدّموا مثالاً بمحبتكم للحق في كل كلامكم وأعمالكم. ركّزوا أمامهم على كم أن الكذب خسيس وبغيض في عيني الرب. لا تقفوا إلى جانب أصغر كذب من جانب أولادكم، ولا تخدعوهم بأنفسكم ولا تسمحوا لأحد بأن يخدعهم. أخيراً، انتبهوا ألاّ تدفعوهم، عن قصد أو عن غير قصد، نحو الكذب.

Leave a comment