الشيخ ديونيسيوس الروماني

الشيخ ديونيسيوس الروماني

الشمّاس كلاوبا باراسكيف

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

تمرّ الطريق من دير فاتوبيذي إلى قلاية القديس جاورجيوس بحقول الدير حيث يرى الحاجّ المناطق التي جاهد فيها القديس غريغوريوس بالاماس. وبعد عدد من المنحدرات الحادّة، يتشعب من الطريق مسلك يلتف ليقطع عبر المنحدر الجبلي المخضوضر. في الربيع تهدد كثافة أوراق النباتات بسدّ المعبر، فيما ترسم وفرة الأزهار البرية منظراً طبيعياً متألّقاً، يشكّل تقدمة تليق بوالدة الإله حامية الجبل. وبعد أن يقطع الحاج عبر خرائب مساكن الرهبان القديمة يصل إلى منبسط يطل على بحر إيجه. هناك، في وسط حدائق مرتبة محاطة بسياج ريفي من أغصان الشجر، تقوم بعض الأبنية من الحجر الأبيض يزينها سقف أزرق: إنها قلاية القديس جاورجيوس. قبل 11 أيار 2004، كان المرء يجد بعض الزوار جالسين خارجاً على مسطبات ينتظرون، متأمّلين أن يحصلوا على بعض الكلمات النافعة من الشيخ المتواضع ديونيسيوس.
توفي الشيخ في 11 أيار 2004 عن خمس وتسعين عاماً مرضية للرب قضى اثنتين وثمانين منها راهباً. أمضى الشيخ سبعاً وسبعين سنة في جبل أثوس، منها ست وستين في القلاية نفسها، قلاية القديس جاورجيوس التابعة لدير فاتوبيذي. لقد كان راهباً رائعاً محباً وأباً روحياً معروفاً بين الأثوسيين. لم يخرج صيته إلى خارج الجبل إلاّ في الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياته.
وُلد الشيخ ديونيسيوس في رومانيا سنة 1909 وهو الأصغر بين ثمانية أولاد. عُمِّد على اسم القديس ديمتريوس. لقد كان قريباً دائماً من أخيه الأكبر جورج، الذي صار لاحقاً الأخ جمناسيوس وقد تبعه ديمتري إلى الحياة الرهبانية سنة 1922 في رومانيا ومن ثمّ إلى الجبل المقدس سنة 1926. بعد عشر سنوات من الصعوبات الجسدية القاسية والجهاد في الجبل، أتى الأخوان تحت رعاية الأب جدعون (خالارو). وقد استطاعا أن يحصلا على قلاية خاصة بهما ويعيدا بناءها روحياً ومادياً على اسم المعظّم في الشهداء جاورجيوس في إسقيط كوليتسو. بلغ الأب جمناسيوس القداسة قبل رقاده عام 1965، والأب جدعون أيضاً توفيّ باراً في العام 1979. وبقي الشيخ ديونيسيوس لحوالي العشر سنوات مع رفيق واحد هو الراهب يوحنا (شوفا). لقد كان بالقرب من المكان عدد من الرهبان المختبرين روحياً الذين كان يلجأ إليهم لطلب المشورة الروحية، ومن بينهم الشيخ يوحنا (غوتسو) الذي توفي عام 1996، الشيخ دوميتيانوس (تريخانا) من قلاية القديس إيباتيوس وقد توفي عام 1984، ومؤخّراً كان هناك الشيخ يوسف الجديد في دير فاتوبيذي.
لقد كان الشيخ ديونيسيوس آخر الأحياء الذين عايشوا النساك القديسين الذين عاشوا في النصف الأول من القرن العشرين. لقد كان رجلاً صاحب صلاة روحية عميقة، غاص في العملية النوسية الموصوفة في الفيلوكاليا. كثيرون من الذين انتفعوا من نصائحه كان تعليقهم أن الموضوع الأكثر تكراراً في تشجيعه لإخوته المجاهدين كان “الصبر، الصبر، وفوق هذا الصبر”.
مع أن هذا الشيخ قد وُلد من أبوين فلاحين بسيطين وقضى معظم حياته مغموراً، فإن شهرته قد اجتذبت سيلاً كبيراً من الحجاج الطالبين كلمة روحية. في آخر أيامه كان على آباء القلاّية أن يقفلوا البواب حتى يتسنّى له أن يريح جسده المتعَب من النسك والمرض معاً. حتى مع هذا، كان البعض يدفعون الأبواب لكي يتحدّثوا إلى الأب ديونيسيوس. كان بين الزوار الطلاّب والسياسيون، الكبار والصغار، اليونانيون وغير اليونانيين، حتى الأمير الإنكليزي تشارلز كان من زواره وحضر في جنازته ليظهر الاحترام الذي كان يكنّه له.
سوف ننشر على عدد من الحلقات ترجمة لحديث طويل أجراه معه الشماس كلاوبا باراسكيف، أورده في كتابه “صلاة يسوع: الطريق لاتّحاد الفكر والقلب”، بالرومانية. سُجِّل هذا الحديث مع الشيخ وهو في الثانية والتسعين من عمره وقد خسر نظره وصار واهناً من الشيخوخة، لكنّه كان غنياً بالحكمة المتأتّية من الجهاد الطويل المتواصل.

سؤال: أيها الأب الشيخ، ما هو هدف حياتنا في هذا العالم الوقتي؟

جواب: الغاية الأساسية من حياتنا الأرضية هي أن نخلص، أن نبلغ إلى ملكوت السماوات. يعلّمنا ربّنا يسوع المسيح: “كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ.” (متى 48:5). في حياتنا الأرضية، بالنعمة الإلهية وأعمالنا المسيحية الحسنة يمكننا أن ندخل مصاف القديسين. وإذا، بسبب افتقادنا للبِر، عجزنا عن الانضمام إلى مراتب القديسين، علينا أن نجاهد لنرث الفردوس. لا يمكنك بأي شكل من الأشكال أن تكون مسيحياً وترتكب الخطيئة. إذا خطئتَ، تحيد عن نعمة الله وتتحد نفسك بالشيطان. وهكذا، أنت تبتعد عن الكنيسة وعن الأسرار المقدّسة والتعاليم الإلهية لكي تشبع أهواءك الذاتية التي زرعها الشيطان في نفسك. عليك ألاّ تطيع أهواءك. لهذا ترتّل الكنيسة “منذ شبابي آلام كثيرة تحاربني”، ولهذا يقول لنا الكتاب المقدّس “إِذْ خَلَعْتُمُ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ” (كولوسي 9:3-10). إذا كنّا من الإنسان العتيق فنحن عبيد للأهواء والخطايا.

سؤال: ما هو تعليم الآباء القديسين عن الروح البشرية والروح الشيطانية؟

جواب: تصير الروح البشرية شيطانية بالخطيئة. الشيطان يزرع بذور الأعمال السيئة في عملنا وأفكارنا. إذا اقتبلتَ البذور السيئة في قلبك، فسوف تبدأ البذور بالتبرعم. وإذا لم تكن منتبهاً لترميها بعيداً وتطّهر قلبك بنعمة الروح القدس والأعمال المسيحية الحسنة (الصلاة، الصوم، الاعتراف، المناولة، وغيرها)، فسوف تتجذّر البذور وتنمو. ومن ذلك الحين، لن يبتعد الشيطان عنك، إذ من تلك اللحظة يصير متأكّداً من أنّك سوف تتبع أهواءك للوصول إلى كل شيء رديء.

سؤال: إذاً، إذا كنتَ منغمساً في الملذّات، هل تفارقك النعمة الإلهية وهل تقودك روح الزنى إلى كل أنواع الخطايا الفاسقة والخطايا ضد الطبيعة؟

جواب: بالطبع. لكن الأمر أكثر خطورة، إذ تصبح الملذّات مثل الأعمال الطبيعية. أنت تفكّر وتقول أنّه لا يمكن أبداً أن تترك هذه الخطايا. لهذا، علينا منذ البداية علينا أن نحفظ نقاوتنا الجسدية والروحية، وكأننا نحيا حياة رهبانية. العلمانيون ينبغي أن يكون عندهم علاقات زوجية مع تعفف، في الأيام التي تحددها الكنيسة، وفقط بعد الإكليل. هذا يعرفه الشيطان ولهذا هو يحاول جاهداً أن يزجّ الناس في خطيئة الزنى. إن هذه الشرور الكثيرة في أيامنا هي من الشياطين الذين يتبعون هذه الطريقة ليدنّسوا هيكل الروح القدس، الذي هو جسد المسيحي، ومن ثم ليقودوه نحو كل الأعمال الشريرة. متى ارتكب إنسان خطايا الفجور يصير عاجزاً عن الصلاة، وأكثر من هذا، ينقطع عن الاشتراك بالقداس الإلهي، ويتوقّف عن الاعتراف، ويعجز عن القيام بأي عمل مسيحي جيد.
بسبب هذه الروح العالمية – التي تتشكّل منذ الطفولة حول القلب من خلال التربية الضعيفة، الأفلام الإباحية، الدعايات، الشهوات، الخطايا، وغيرها – لا يعود قادراً على الصلاة ولا على القيام بعمل جيد خلاصي. ولكن حتى الذين وقعوا في خطايا كبيرة يمكنهم أن يصلحوا أنفسهم، بمعونة النعمة الإلهية. هذا الصراع والنجاة من الخطايا ومن الشياطين سوف يُحسَب لهم شهادةً.

سؤال: بعد المعمودية، هل يُطرَد الشيطان كلياً من أعماق قلبنا حتى أنّه الآن يعمل من الخارج؟

جواب: إنّه يعمل من خارج القلب. أمّا إذا خطئنا، فنحن نسمح له بأن يتغلغل إلى أعماق القلب. هذا هو الهوى. منذ تلك اللحظة يقودنا هذا الهوى، لكن النعمة الإلهية لا تتركنا. الله أعطى الإنسان حرية كاملة. نعمة الروح القدس أظهرت له الفرق بين الخير والشر. لقد أظهرت لنا طريق ملكوت السماوات، والطريق التي تقود إلى الهلاك – الجحيم. يقول لنا الرب: “قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ” (تثنية 19:30). لقد كان باستطاعة النعمة أن تجعل سقوط الإنسان مستحيلاً. لكن في تلك الحالة، يكون بلا شخصية ولا فضائل، لا بل يكون حيواناً أو رجلاً آلياً. لا تملك أيٌ من مخلوقات الله الحرية التي عند الإنسان. إن المسيحي الذي يحقق وصايا الله بمعونة الروح القدس، يصير قديساً. والله بار جداً حتى أننا عندما نسقط في الخطايا ونصرخ إليه بندامة “اغفر لي! أيّها السيّد ساعدني!” يأتي إلينا ويعيننا للقيام من خطايانا. لهذا السبب قال لنا السيد يسوع المسيح “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ.” (متى 28:11).
في أي حال، إذا استقرّت الأهواء في إنسان وصارت كمثل طبيعة خاطئة جديدة، عندها يقول الإنسان “يستحيل قطع الأهواء”. الأمر هو بالتحديد على هذا الشكل لأننا نعيش في الأزمنة الأخيرة، حيث صار الجنس البشري عديم الاهتمام وفاقد الحساسية في الأمور الروحية. لا يهتمّ الإنسان اليوم بالأهواء والخطايا، علمانياً كان أو راهباً أو كاهناً. هذا خطر كبير إذ بذلك نسمح للشياطين بالتقدّم نحو السيطرة علينا.

سؤال: من أين يأتي كبرياؤنا؟

جواب: الكبرياء هو فقط من الشياطين. بالمعمودية المقدّسة، غفر لنا الله الخطيئة الجدية والخطايا التي ارتكبناها قبل المعمودية، وأعطانا نعمة الكمال بالروح القدس، قائلاً لنا “كونوا قديسين كما أن أباكم السماوي قديس”.

سؤال: لكن المفاعيل تبقى؟

جواب: ينبغي أن نقطعها بنعمة الله التي تساعدنا دائماً على طريقنا نحو الكمال. لكن لكوننا مخلوقين أحراراًً، علينا أن نجاهد لكي نغلب الأهواء والخطايا. مثلاً، إذا كنتَ من المدخنين، فإن عندك القدرة على القول: “لقد اعترفت وبمعونة الله سوف أكفّ عن التدخين منذ الآن”. لكن الإنسان العتيق في داخلك سوف يقول “لقد كنت تدخن لكل هذه السنوات! لن تتمكن من التوقف! سوف تمرض وتموت!” ولكن إن كنت مؤمناً، متقوّياً بنعمة الروح القدس سوف تجيب: “لقد اتخذت هذا القرار وبنعمة الله سوف أكفّ عن التدخين بغض النظر عن كل شيء”. فتنزل عليك نعمة الروح القدس وتساعدك بشتّى الطرق. لكن إنْ فكّرتَ على هذا المنوال: “سوف أتوقف عن التدخين، ولكن بعد أسبوع أو اثنين مهما حصل”، عندها أنت لست مصمماً، وإرادتك ليست محصنة بنعمة الروح القدس ولن تتوقف عن التدخين.

سؤال: هل تنتقل خطايا الأهل إلى الأبناء؟

جواب: قد يلد للأهل أصحاب الخطايا والشرور الكبيرة (المتهتكين، السكارى، مدمني المخدرات، المدخنين، إلخ) أطفال ذوي عاهات جسدية وعقلية. هذا ما يؤكده الطب أيضاً. لكن النعمة الإلهية الموجودة في الأسرار الإلهية (المعمودية، الميرون، الاعتراف، المناولة، الزيت المقدّس والزواج) تتدخل وتساعد الأطفال على الخلاص. مثلاً، ولد مولود أعمى عنده مواهب إلهية أخرى مقارنة مع ولد مولود بصحة كاملة، وذلك حتى يعيش حياته ويخلص. لكن قد يكون للخطايا التي يرتكبها الأهل بعد ولادة الولد ارتدادات سلبية على حالته الروحية والجسدية. إلى هذا، بالتربية الهزيلة التي يعطونها للولد، يمكن للأهل أن يزرعوا في قلبه الأهواء التي تتلف النفس. عندنا من الكتاب المقدس والتقليد أمثال على ولادة أطفال صاروا قديسين من أهل أبرار طاهرين، كمثل والدة الإله ويوحنا المعمدان وغيرهم.

 

Leave a comment