الظهورات المريمية

الظهورات المريمية

الأب أنطوان ملكي


لا يهدف هذا المقال إلى الانتقاص من إخلاص أي من المؤمنين الذين يحجون إلى الأماكن التي سوف يأتي ذكرها سواء لتثبيت إيمانهم أو لطلب الشفاعة في أمور حياتهم وصحتهم. فالخطأ الذي يتناوله المقال أمر لا ينشىء  إلا الألم في قلب الأرثوذكسية والمقصود في الكلام عن خديعة الشيطان ليس إساءة استعمال الكلمة أو القول بأن ما يجري هو حكماً شيطاني أو أن الحجاج هناك يعبدون الشيطان. على العكس، هؤلاء أشخاص يبحثون عن الله لكن سعيهم يستغله مَن أسلم نفسه للشيطان نفسه.

الموضوع كثير التشعب ومن هنا صعوبة معالجته. محرك هذا البحث هو عدد من المقالات التي تسوّق هذه الظهورات، وتقارير عن مؤمنين وكهنة أرثوذكسيين يزورون وينظمون رحلات إلى أمكنة هذه الظهورات. فالآلة الإعلامية المخصصة لدعم ونشر أخبار هذه الظهورات قوية. جدير بالذكر أن هذا البحث لا يهدف إلى تغطية شاملة للموضوع لكن ما يُرجى هو لفت نظر المؤمنين إلى أمور قد تكون يومية في حياتهم ولا يعيرونها انتباهاً.

في العام 1984 أعلن الكاردينال جوزيف راتزينغر، رئيس لجنة عقيدة الإيمان (Congregation for the Doctrine of the Faith) في الكنيسة الكاثوليكية: “إن أحد علامات الأزمنة هو أن الظهورات المريمية تتكاثر في كل العالم”. وقد استند في هذا الكلام على تكاثر عدد التقارير التي تصل إلى اللجنة المذكورة من مختلف أنحاء العالم. فقد تكاثر عدد هذه الظهورات بشكل جنوني خاصةً بعد 1960[1]، مع أن فحوى الرسائل المعطاة  هو تكرار للرسائل نفسها وتذكير بالعقائد المستحدثة في الفاتيكان مثل الحبل بلا دنس والعصمة البابوية، وتحضير لعقائد مريمية جديدة تتكاثر الدعوات إلى إعلانها كمثل اعتبارها أقنوماً رابعاً أو شريكة في الفداء.

كيف تقيّم الكنيسة الكاثوليكية هذه الظهورات؟[2]

إن أي تقرير حول أي ظهور أو أمر غير طبيعي يجب أن يحظى أولاً بمصادقة الأسقف المحلي الذي يبني قراره على تقييم تقدمه لجنة يعيّنها لتقوم بدراسة دقيقة لتتأكد أن الحدث لا يحمل شيئاً معاكساً للإيمان أو الأخلاق وبأنه موحى به أو فوق الطبيعي وبالتالي مستحق أن يجتذب إكرام المؤمنين. عمل اللجنة يقوم على أسس علمية مثل إخضاع مَن يتلقى الرؤيا لفحوص نفسية، وفي حال حدوث أي أمر في الطبيعة كظهور نجوم أو تحرك الشمس. تُخضع اللجنة كل هذه الأمور للبحث العلمي مرتكزة على علوم الفيزياء والفلك والرياضيات وغيرها.

بعد مصادقة الأسقف المحلي تأتي فترة من “التعبّد لتعميق إيمان المؤمنين”. فإذا انتشرت هذه العبادة يتم الانتقال إلى المرحلة التالية المتمثلة بالاعتراف البابوي. إذ يعلن البابا أنه مقتنع بالحدث وبمحتوى الظهورات، فتكون المرحلة الأخيرة أي وضع الخدمة الليتورجية وإضافة الحدث إلى التقويم الكنسي.

قد لا يعترض غير الكاثوليكي على محتوى الظهورات أحياناً، كالدعوة إلى الصلاة والتوبة والمصالحة، ولا على شكل الظهور، إنما الأكيد أن ما لا يروق له هو ما يجري بعد الحدث وكيفية تفسير الرسائل. في ما يلي عرض مقتضب لبعض الظهورات الحديثة (القرنين الأخيرين). فظهورات ما قبل 1842 لا تتعدى الدعوة إلى التوبة أو طلب بناء كنيسة وما شابه.

لاساليت La Salette- فرنسا[3]

كان الإكليروس في فرنسا ما بعد الثورة الفرنسية يتشكى من ابتعاد الناس عن الكنيسة وقلة احترامهم ليوم الأحد. وانتشرت بعض الرسائل التي قيل أنها نازلة من السماء تدعو الناس إلى التوبة تجنباً للعقاب السماوي. وقد كانت بعض هذه الرسائل تفعل فعلها بين الفلاحين. وفي لاساليت في العام 1842، رأى ولدان، مكسيمين (صبي 11 عام) وميلاني (فتاة 14 عام) لمعاناً من الضوء وظهرت منه فجأة سيدة متشحة بالبياض والذهب مع إكليل ورود على رأسها. وكانت محاطة بالضوء تبكي من أن الفلاحين لا يحترمون يوم الأحد ويكثرون من التجديف والقَسَم. وأضافت أن كوارث سوف تحدث إن لم يتغيّر الناس، كمثل تراجع المواسم وحصول المجاعة، فهي لم تعد قادرة على منع ابنها من تطبيق العقاب. وأعلن كاهن الرعية بعد اطلاعه على الأمر أن السيدة هي العذراء مريم ومن ثم وافق أسقف غرونوبل وابتدأ الحجاج يتوافدون إلى لاساليت. ميلاني أصبحت لاحقاً راهبة وبقيت تتلقى رؤى وإعلانات إلى آخر حياتها. ما بعد لاساليت توالت الظهورات بكثافة وفي مختلف أنحاء العالم.

لورد Lourdes[4]

في 1858أي بعد أربع سنوات من إعلان عقيدة الحبل بلا دنس رسمياً، في لورد على سفوح البيرينيه الفرنسي، رأت برناديت سوبيروس شيئاً أبيضاً بشكل فتاة جميلة تلبس فستاناً أبيضاً وبرقعاً أبيضاً مع وشاح أزرق ووردة صفراء على كل رِجل. ثم أفصحت برناديت أن ما رأت يشبه كثيراً بثيابها ووجهها العذراء مريم التي في الرعية، إنما التي في الرؤية حية ومحاطة بالنور. أما السيدة فقد كانت تحمل مسبحة وتكلمت باللهجة المحلية وبطريقة مهذبة جداً داعية الناس إلى التوبة. ثم أعطت برناديت ثلاثة أسرار ودعتها إلى الصلاة من أجل الخاطئين ووعدتها بأن تجعلها سعيدة في العالم الآخر وليس في هذا. كما طلبت منها حفر بئر هناك (هناك تقارير تشير إلى أن البئر كان معروفاً قبل هذا الحدث). في ظهور آخر أعلنت السيدة أنها الحبل بلا دنس مثبتة العقيدة المعلّنة حديثاً. وبعد سبعة أشهر ثبتت السلطات الكنسية في فرنسا خدمة عذراء لورد وابتدأ العمل على بناء كنيسة. برناديت أصبحت راهبة وأُعلنت قداستها في العام 1933. الجدير بالذكر أن ما جرى في لورد دفع التيار المريمي بقوة في القرن التاسع عشر وكثرت الحركات التي تدعو إلى الحج إلى ذلك المكان، إضافةً إلى الدور الذي لعبه في الإعلام عن عقيدة الحبل بلا دنس إذ أن الناس لم يتجاوبوا مع إعلانها إلا بعد سلسلة الظهورات التي جرت. من المثير للانتباه هو أن الأم فوزو، مربية برناديت، لم تكن مقتنعة بصحة الظهورات لأن برناديت كانت تركز على المسيح أكثر منها على العذراء، وهذا إن دلّ على شيء فعلى أن انتشار إكرام مريم أكثر من السيد في تلك الأنحاء[5].

فاتيما  Fatima – البرتغال[6]

أول ظهور كان في العام 1917 إذ رأى ثلاثة أولاد هم لوسيا (10 سنوات)، فرنشيسكو (9 سنوات) وجاسينتا (7 سنوات)، بريقاً كاللمع وظهرت بعده سيدة جميلة فوق شجرة قالت أنها أتت من السماء وطلبت من الأولاد أن يعودوا في اليوم الثالث عشر من كل شهر من الأشهر الستة القادمة حتى تخبرهم مَن هي وما تريد. وجواباً لأسئلة لوسيا أخبرتهم أنهم سوف يذهبون إلى السماء ولكن على فرنشيسكو أن يكرر مسابح كثيرة. كما أخبرتهم أن أحد أصدقائهم الصغار، وكان قد توفي قبل فترة، هو في السماء بينما صديق آخر في المطهر حيث سوف يبقى إلى انتهاء العالم. فرنشيسكو لم يرَ شيئاً في البداية ولم يسمع أي شيء أما جاسينتا فقد رأت وسمعت لكنها لم تتكلم. في ظهورات أخرى طلبت منهم أن يقولوا المسبحة ويصلوا خاصة للذين في نار الجحيم. كما تلقّت لوسيا “أسراراً” ورأت رؤية للجحيم. وعدت السيدة بأن تقوم بأعجوبة في تشرين الأول. تعرّض الأولاد للتحقيق من قبَل حاكم المنطقة الملحد دون أن يغيّر هذا شيئاً من أقوالهم، كما أن لوسيا ضربتها أمها التي اعتبرت أقوالها أكاذيب.

كان الثالث عشر من تشرين الأول يوماً ممطراً ومع هذا تجمع سبعون ألف شخص منتظرين الأعجوبة الموعودة. ظهرت السيدة وقالت أنها عذراء المسبحة وبأن الحرب سوف تنتهي في ذلك اليوم (لكنها انتهت بعد 13 شهر من تاريخه). ثم جرت الأعجوبة إذ أن المطر توقف وظهرت الشمس فصرخت لوسيا “انظروا إلى الشمس” التي رأت فيها سيدة الأحزان وسيدة الكرمل ويوسف الخطيب والسيد. نظر الجمع إلى الشمس ورأوها تتحرك وخافوا أنها نهاية العالم. لم يرَ كل الحضور ذلك مع أن غيرهم على بعد 10 كيلومترات من فاتيما رأوا، بينما رأى آخرون نجمة ليلية وغيرهم رأى مطراً من الأزهار.

مثل ميلاني وبرناديت فإن لوسيا أصبحت راهبة وظلت تتلقى رؤى وإعلانات. في العام 1925 ظهرت لها السيدة مع الطفل وقالت لها أن عبادة قلب يسوع يجب أن تنتشر. ثم في 1929 ظهرت أيضاً وقالت أن روسيا يجب أن تُكرس للقلب الطاهر. كتبت لوسيا في 1937 سرداً كاملاً للظهورات التي يبدو أنها توسعت وضمّت ظهوراً لملاك قبل ظهور السيدة. ففي 1915 ظهر كشخص ملفوف بملاءة، وفي 1916 كشاب في السادسة عشرة أكثر بياضاً من الثلج وعرّف عن نفسه بأنه ملاك السلام وطلب منهم الصلاة من أجل عديمي الإيمان مع ملامسة جباههم للأرض. لاحقاً في 1916 أخبرهم أنه ملاك البرتغال الحارس وأن عليهم أن يصلوا ويقدموا أضاحي من أجل كل شيء صنعوه لكي يأتي السلام، كما أعلمهم بأن قلبي يسوع ومريم يخططان لشيء لهم. أيضاً في 1916 ظهر بهيئة غمامة في شكل بشري وناولهم. كما كتبت لوسيا في 1941 و1942 وصفاً للرؤيا التي رأت فيها الجحيم في 13 تموز 1917. وقد وصفته بالنار الحمراء والشياطين السود وصرخات الألم واليأس وربطت ذلك بأن السيدة حذرت من إشارة عظيمة لليل يضيئه نور مجهول يرمز إلى عقاب إلهي لا سبيل إلى تلافيه إلا بتكريس روسيا لقلب مريم الطاهر. وهذا ما كرره البابا بيوس الثاني عشر في العام 1952 والبابا يوحنا بولس الثاني في العام 1981. وقد كان البابا يوحنا الثاني قد فتح مغلفاً فيه السر الثالث لفاتيما في العام 1960 لكنه لم يفصح عن محتواه.

مديغوريا Medugorje – يوغوسلافيا سابقاً[7]

بدأت الرؤى في حزيران 1981. الراءون كانوا أول الأمر أربع مراهقين بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة من العمر، ثلاث فتيات وشاب واحد. في إحدى الأمسيات رأوا على إحدى التلال ضوءً وفي داخله امرأة تحمل طفلاً فهربوا عندما نادتهم. في اليوم التالي عادوا مع فتاة جديدة وصبي في العاشرة ورأى الجميع على الجانب الآخر من التل المرأة تلبس الشمس. وفي الليلة الثالثة عادوا مع جمع من 5000 شخص فظهرت السيدة بعد أن حدث لمعان ضوء ثلاث مرات. الأولاد الستة وحدهم رأوها. فقالت إحدى الفتيات وهي تقبض على جرة ماء مقدس في يدها “إن كنت الشيطان فاذهب بعيداً” فسمعت “أنا مريم العذراء. اهتدوا. تصالحوا. السلام. السلام. تصالحوا”. وتكررت الرؤى وصارت السيدة تزور المراهقين في منازلهم أحياناً وأعطت لهم أن يروا الملكوت والجحيم والمطهر. كما أعطتهم رسائل تدعو إلى السلام والاهتداء والصلاة وصوم الأربعاء والجمعة واحترام الأديان الأخرى. كما أخبرتهم أنها تعذبت من جراء خطيئة البشر وبأنها خاضت معركة عظيمة مع الشيطان من أجل النفوس وبأن في مديغوريا سوف تكون آخر ظهور للسيدة وكل الظهورات اللاحقة كاذبة. كما أعطتهم عشرة أسرار على غرار أسرار فاتيما الثلاثة يُعتَقَد أنها رؤيوية أخروية فيها تحذيرات من كوارث آتية.  رفض أسقف منطقة Mostar، الذي تقع مديغوريا في أبرشيته، هذه الظهورات، لكن كاهن الرعية الفرنسيسكاني بدعم من أسقف منطقة مجاورة Split دعم الظهورات بحماس. تعرض الكاهن للسجن على يد الحكم الشيوعي الحاكم في وقتها، وبعد خروجه من السجن وبسبب علاقته بالظهورات نُقل إلى رعية أخرى حيث تم عدد من الأشفية على يده، وقد توافد الناس إليه ليروا الشخص الذي يستمع لاعترافات الفتية الرائين. وقد ترافقت أعمال الشفاء مع وضع الأيدي والغيبوبة والبكاء، وهذه من علامات أعمال الكاريزماتيك من كاثوليك أو بروتستانت. وقد أحصي ما يفوق على عشرة ملايين زائر ما بين 1981 و1991 من مختلف أنحاء العالم. رُويت عشرات من القصص كرؤية المسيح في السماء أو السيدة مع مسبحة ذهبية وغيرها.

من المثير للانتباه أمر على علاقة بكاهن الرعية المذكور توميسلان فلازيتش الفرنسيسكاني وهو أنه كان في روما للمشاركة في مؤتمر حول التجديد المواهبي الكاثوليكي (Catholic Charismatic Renewal) فأخبر بعض الموجودين أنه بدأ ييأس من خدمته الرعائية وطلب أن يُصلّى على رأسه. فصلّى على رأسه عدد من الموجودين المعروفين بموهبتهم الشفائية (!) مثل كلير ماكينا والأب تارديف. وخلال الصلاة رأت ماكينا فلازيتش جالساً في كنيسته محاطاً بآلاف من البشر ويمر تحت كرسيه مجرى ماء ينبع من الهيكل. أما تارديف فقد سمع الكلمات التالية “لا تخف فإني مرسل أمي إليك”. وقد بدأت الظهورات بعد أسابيع من ذلك أي في حزيران 1981[8].

لم تنل هذه الظهورات موافقة الأسقف المحلي ولا موافقة الأسقف الذي حلّ مكانه ولا حتى موافقة مجلس أساقفة يوغوسلافيا لغاية اليوم. ومع هذا فتدفق الزوار من كل أنحاء العالم لم يتوقف حتى خلال حرب البوسنة. وفي 1997 كرر أسقف Mostar أن قرار مجلس الأساقفة ما زال نفسه إذ حتى اليوم لم يثبت أن ما يجري في مديغوريا فائق الطبيعة أو أن هناك إعلانات[9]. ومع هذا، فيوجد اليوم عشرات مما يُسمى مراكز مديغوريا (Medugorje Center)، ويُنظم عشرات الرحلات السنوية إلى المكان من كل القارات، حتى من بلادنا وعلى يد كهنة غير كاثوليك أحياناً(!).

هل الظهورات إلهية؟

ليست الإجابة على هذا السؤال بالأمر السهل حتى بالنسبة للذي لا يؤمن بالعقائد التي تبشر بها رسائل هذه الظهورات مثل الحبل بلا دنس وعبادة قلب يسوع أو قلب مريم. ويتساءل المرء عن كيف ينظر إلى هذه الظهورات في حين تحمل رسائلها أفكاراً غير صحيحة، وعن إمكانية كون هذه الظهورات من خديعة الشيطان في حال لم تكن عملاً إلهياً. في الكتاب المقدس وتعليم الآباء الكثير من التحذيرات من الوقوع في خديعة الكذاب وأبي الكذب الذي قد يأخذ أشكالاً نورانية أحياناً.

أبسط الشروط حتى تكون الظهورات إلهية هي أن تنسجم مع تقليد الكنيسة شكلاً ومحتوىً. أمام محتوى عدد كبير من الرسائل الواردة على لسان السيدة، فيجد المؤمن نفسه أمام استبدال للسيد المحب، الطويل الأناة الجزيل التحنن الذي يحب الصديقين ويرحم الخطأة بإله متعالٍ غضوب ميّال إلى الانتقام والعقاب. فالسيدة في لاساليت قالت أنها “لم تعد قادرة على رد يد ابنها الثقيلة”، وفي فاتيما “هو مغتاظ”، وفي سان دميانو (1961) “الآب الأزلي متعب، متعب جداً… وقد أطلق الشيطان الذي يعمل على التخريب”، وفي أوليفيتا سيترا – ايطاليا (1985) “أنا لم  أعد أقدر على رد ساعِد ابني العادل”، وغيرها من شبيهاتها في ظهورات أخرى. إن هذه العبارات تعكس تعاليم بعض القديسين واللاهوتيين اللاتين التي تقول بأن هناك مواجهة بين مملكة العدل التي للمسيح ومملكة الرحمة التي للعذراء. من هؤلاء ألفونس ليغاري الذي يقول بأن الخاطئ الذي يُغضب الله تأخذه مريم تحت حمايتها وترد عنه ذراع ابنها المنتقمة وتخلصه. أو جان جاك أوليه Olier الذي يقول بأن العذراء هي الملجأ الأكيد للخطأة والمجرحين من غضب وانتقام يسوع المسيح لأنها تعوق قدرته لمنع الشر الذي قد يعمله للمذنب.من المعلمين اللاتين أيضاً لوي-ماري غرينيو دو مونتيفور (1796) الذي يربط العذراء بالمجيء الثاني معتبراً أن الروح القدس سوف يُظهرها لكي يُعرَف المسيح وأنها سوف تلمع بالقدرة على أعداء الله لأن الشيطان يخشاها أكثر من الله نفسه. ولم يزل هذا التعليم قائماً في الكنيسة اللاتينية، فاليوم يرى بعض اللاهوتيين الكاثوليك المعاصرين، مثل المطران فولتون شين، أنه كما هيأت العذراء جسد المسيح للمجيء الأول فهي تهيء النفوس اليوم للمجيء الثاني. فلولاها لما كان له مجيء بالجسد في المجيء الأول ولن يكون له مجيء بالروح في المجيء الثاني إن لم تهيء له الطريق[10]. كما يرى بعض المجموعات الكاثوليكية، ومنهم البابا الحالي، أن دور العذراء الخلاصي لا ينحصر بالمسيحيين فقط بل يتخطاهم إلى كل البشر من مختلف الديانات. ويتخذ الأخيرون من الظهور في الزيتون في مصر مثالاً، حيث تجمّع أناس من كل الأديان ليروا الظهور. إن هذا التفكير منسجم جداً مع اعتقاد سائد في أوساط الكثلكة بعصر مريمي يسبق المجيء الثاني، علماً أن الحديث عن هذا العصر ليس موجوداً لا في الكتاب المقدس ولا لدى أي من الآباء. ويستند البعض في هذا على ما يرد في رؤيا يوحنا (). أيضاً يستندون إلى تكوين 15:3 “وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنتِ تسحقين عقبه”. فالآية واضحة في أن مَن يسحق الحية هو نسل المرأة أي الإنسان وتحديداً المسيح، ويضيف التفسير الكاثوليكي أن “مَن قال المشيح قال أمه. فالتفسير المريمي للترجمة اللاتينية (“هي تسحق”) أصبح تقليدياً في الكنيسة الكاثوليكية”[11]. من المثير للانتباه أن ما توصلنا إليه خلال بحثنا عن مرجع في موضوع العصر المريمي، هو أن نوستراداموس (Michel de Notre Dame) هو صاحب النظرية والمتنبئ بها[12].

إن التركيز على دور العذراء أدى إلى مناقشة اعتبارها شريكاً في الخلاص مساوياً للمسيح (Co-redemptrix) ومطالبة المريميين بإعلان هذا الأمر كعقيدة أو حتى إعلانها أقنوماً رابعاً. فالبابا بوحنا بولس الثاني يرى فيها نقطة التقاء الشرق والغرب، والكاردينال كيلر يرى أنها نقطة التقاء الاسلام والمسيحية[13]. ومن جهة أخرى فالكاثوليك المؤمنون بتنبؤات عذراء فاتيما يرون ضرورة إعلان هذه العقائد المريمية الجديدة من أجل تلافي الحرب العالمية الثالثة. فبحسب رسائل فاتيما، إن لم يتم تكريس روسيا لقلب مريم فسوف يقع عدد من الكوارث ومن بينها الحرب العالمية[14].

مريم والعصر الجديد (NEW AGE)

العصر الجديد تيار في الغرب يدعو، من بين ما يدعو، إلى عالم موحد بديانة جديدة واحدة. وهناك مَن يربط بين مريم التي يحكي عنها الكاثوليك اليوم وهذا التيار. من الأمثلة على هذا مقال ظهر في مجلة LIFE في كانون الأول 1996 تحت عنوان “سر مريم”[15]. تبدأ المقالة بمزيج من صور مريم من مختلف مناطق العالم، وباستشهاد مأخوذ من المؤرخة كارين أرمسترونغ، وهي راهبة كاثوليكية سابقاً، “يُعاد اختراع مريم باستمرار… في كل جيل، غيّر الناس تحديدهم لها بما يتطابق مع ظروفهم”. فمن بداية المقالة يوضح الكاتب أنه يريد أن يقول أن مريم ليست إلا نتاجاً لحضارة ما وعصر ما وأن لكل مجتمع أن يخلقها بحسب صورته. إن هذا الكلام الذي يرفضه الشرق يبدو مقبولاً في الغرب الذي لا يسمح لأي رأي بأن يدّعي الحقيقة المطلقة. فكل رأي صحيح ما دام مقتصراً على كونه رأياً. إن هذه الطريقة في التفكير من أهم ما يقف وراء تكاثر الكنائس البروتستانتية وتعدد المدارس والاتجاهات اللاهوتية في الكنيسة الكاثوليكية. فالغرب عرف في القرن الماضي حرية في التعاطي مع شخص المسيح، فخط عدد من الكتاب سِيراً له من عندهم، مثل رينان وشووتزر، وعند تسرب هذا التيار إلى الشرق كتب تولستوي وكازانتزاكيس ولكنهما أُدينا. هذه الكتابات ليست إلا تحوير لصورة المسيح واستبدالها بصور من نسج خيال المؤلفين وانحرافهم، وقد استُغلت لإيصال فكر يدعو إلى إله جديد. وقد استمر هذا التيار حتى عصرنا الحالي فرأى الليبراليون في المسيح رابي يهودي، والاشتراكيون صوروه على أنه ثائر (وقد أخذ عنهم هذا الفكر لاهوتيو التحرير الكاثوليك)، وكل هذا هيأ لباطنيي العصر الجديد بأن يروا في المسيح معلماً روحياً (Guru) تدرب في التيبت قبل انتقاله إلى فلسطين.

ويستند دعاة العصر الجديد إلى الدراسات المقارنة التي تركز على وجود بطل في كل الحضارات مات ثم قام أو كان طفلاً فنجا من الموت، كمثل تموز البابلي، ميثرا الفارسي،  اوزيريس المصري، أو بوذا الهندي، وبالتالي فيسوع اليهودي هو منهم. وهكذا يتم التسويق لفكرة وجود أكثر من مسيح وحرية كل من الناس في اختيار مسيحه، هذا بموازاة المناداة بمريم أخرى يتم اختراعها بالطرق نفسها. هذا وأن عبادة إله وأمه ليست جديدة في التاريخ. فتموز لدى السومريين كانت معه أمه سميراميس، وأوزيريس لدى المصريين رافقته أمه أيزيس. هذه الأمر يتكلم عنه دارسو العصر الجديد ليدعموا قولهم بأن تعدد المسحاء لا بد أن يرافقه تعدد للمريمات[16].

المقالة المذكورة هي مساهمة في هذا الخط. فإمكانية قبول كل أشكال مريم تؤدي إلى إمكانية قبول كل الطرق باعتبارها مؤدية إلى نفس المكان. تستعرض المقالة عدة مريمات: العجائبية، الوسيطة التي يرى أحد الكهنة أنها تُدخل الناس إلى الملكوت من الباب الخلفي، الحديثة التي ينادي بها الأنثويون Feminists، والأم. يرى الكاتب أن مريم الأم هي الشكل الأكثر قبولاً لدى غير الكاثوليك لأن الحاجة العاطفية لها لا تُقاوم، فبعض البروتستانت يفتقدونها والمسلمون يكرمونها. ردة الفعل البروتستانتية بدأت تتغير، أقله شعبياً، دون أن يعني ذلك قبولهم بالحبل بلا دنس او باعتبارها أقنوماً رابعاً.

المؤسف أن الكنيسة الكاثوليكية لم تفطن أو لم تعلق أهمية على موضوع تعدد المريمات مما أدى إلى ارتفاع أصوات من داخل الكثلكة وخارجها تتهم الباباوات باتباع سياسات تتماشى مع تيار العصر الجديد، عن طريق المبالغة بإكرام مريم واستعمالها لتثبيت البابوية. من جهة أخرى، قد نلحظ في التيار المريمي بقايا وآثار لعبادات قديمة سبقت المسيحية. فالغرب أصلاً لم يحاول محو العبادات القديمة حيث أدخل البشارة. البرابرة في أوروبا دخلوا المسيحية بعاداتهم وطبقاتهم وهذا كان من مسببات دخول العقائد الغربية التي أدت إلى الانشقاق. وحتى في العصور اللاحقة كان المبشرون الغربيون، من باب “تعميد العالم”، يبقون على معتقدات الشعوب المبَشَرة ويستعملون موازيات مسيحية لها بدلاً من محوها. في الشرق كان كل شيء يُستبدل حتى المعابد كانت تهدم ويُعاد بناؤها. من الأمثلة على التدبير الغربي تبشير هنود الكوغي في كولومبيا وهم كانوا يعبدون إلهة تُدعى نابوبي أو الأم القديمة. وكان لنابوبي ابن يُدعى سيجوكوكوي اختبأ في كهف حتى يُقال أنه مات فينجو من خطر ما. عندما وصلت الإرساليات الكاثوليكية جعل المبشرون من سيجوكوكوي المسيح ومن نابوبي العذراء مريم. وعلى هذا الأساس أصبح اسم المعبد الوثني الذي كان اسمه بيت نابوبي سابقاً، كانساماريا وهو تحوير لـ Casa Maria أي بيت مريم. في حالة هنود الكوغي، ليس فقط عبادة خاطئة لمريم إنما أيضاً تهميش للمسيح وجعله إلهاً من درجة ثانية. وهذا بالضبط ما يحدث اليوم[17].

يرى بعض الدارسين أن هذه العبادة الجديدة لمريم عودة لعبادات وثنية قديمة ورجعة إلى عبادة الإلهات التي كانت منتشرة في أوروبا بوجه خاص، بينما يرى آخرون في هذه الحماسة المريمية محاولة للتعويض عن الغبن اللاحق تاريخياً بالمرأة في الكنيسة الكاثوليكية والذي بلغ حد منع زواج الكهنة، أو استجابة للتيارات التي قامت في القرن الأخير للمطالبة بحقوق المرأة وكهنوت النساء. الجدير بالذكر أن كهنوت النساء أمر لم تعرفه إلا الديانات الوثنية.

ليس كل الكاثوليك في الخط نفسه في ما يتعلق بهذه الحماسة نحو مريم. فالكاردينال جون نيومن يقبل الحبل بلا دنس ولكنه لا يرى في كل هذه المبالغات إلا مثاراً للتجديف وخسراناً للنفوس. البابا يوحنا الثالث والعشرين حذر شعبه من أن العذراء لا تكون سعيدة عندما تُرفَع فوق ابنها. الكاتب الكاثوليكي روبرت بنسون (إنكليزي من القرن التاسع عشر)كتب بعد زيارته للورد بأن مريم ظهرت له في ضوء جديد وهو الآن بات يخشى أن يغضبها وليس فقط يكره ذلك، إذ أن الوقوع في يدها هو من الأمور المخيفة. الكاتب الفرنسي أميل زولا قال انه اختبر وتعرّف إلى دين جديد في لورد[18].

الظهورات والحوار المسكوني

يؤمن المريميون أن الظهورات تحمل رسالة مسكونية. في ظهور العذراء في الزيتون – مصر بقيت صامتة وهذا ما يفسرونه على أنه لفتة ودعوة إلى كل الحضور بغض النظر عن معتقداتهم للاتحاد بالله من خلال الصلاة. هذا الكلام يتفق مع رأي البابا الحالي الذي يرى أن إله كل الأديان هو واحد[19]. والواقع أن العذراء في مصر لو قالت أنها والدة الإله لرفضها المسلمون، ولو قالت أنها الحبل بلا دنس لرفضها الأقباط. من هنا أن هذا الصمت يطرح تساؤلات عديدة يستفيد منها المريميون الذين يركزون على أن مريم مذكورة في القرآن كعذراء مختارة. والسؤال الخطير الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا يغض المريميون النظر عن أن القرآن يرفض الصلب والقيامة ولا يرى في المسيح إلا أحد الأنبياء؟ يروي أحد المراسلين الأنكليكان أنه تعرّف خلال إحدى زياراته إلى الزيتون على جار للكنيسة مسلم كان يرمي الحجارة على زوارها فظهرت له مريم ليلاً وطلبت منه إيقاف هذا العمل ورسم الصليب على بيته. فاقتنع بصحة الرؤيا ورسم على بيته أربعين صليباً ولكنه بقي على إسلامه. ما هي إذن غاية الظهورات إن لم تكن قيادة الناس إلى المسيح؟

عذراء مدياغوريا قالت أنها أتت لتحوّل وتصالح. الكلام على المصالحة في كرواتيا الحالية (يوغوسلافيا سابقاً) كان ضرورياً. فهذه المنطقة شهدت ومازالت تشهد صراعات عرقية ودينية منذ منتصف القرن الماضي. مما قالته أيضاً هذه السيدة أن الأديان متشابهة بالمبدأ، وبهذا تلتقي مع الداعين إلى الوحدة القائمة على التوفيق (Syncretism) بغض النظر عن وجود الله كمحور لهذه الوحدة أم لا، وهو فكر بات غير مرفوض في الدوائر الفاتيكانية. أيضاً تقول هذه السيدة أن البابا أب لكل البشر وليس فقط للكاثوليك. البابا الحالي مقتنع بهذا الكلام حتى العظم ولهذا يقف وراء أغلب النشاطات التوفيقية بين الأديان، ولهذا هو الزعيم الروحي الأكثر تجولاً. فهو لديه مشاريع وخطوات تقارب مع كل الأديان من مسيحيين وغيرهم وهو ينظر إلى الألف الثالث كزمن جديد للإيمان ولهذا دعم مشروع البشارة 2000 (Evangelization 2000) الذي يصبو إلى تبشير العالم كله. كل هذه الحركات برأيه هي “إشارات تدل ليس فقط على اجتماع المسيحيين، بل تلاقي كل الأديان في هوية بشرية واحدة أمام الله”[20].

عذراء فاتيما طلبت روسيا وعلى هذا الأساس تأسست جمعيات صليبيو فاتيما (Fatima Crusadors) الذين بينهم أشخاص من كل البلدان والدرجات الكهنوتية والوظائف الدنيوية والذين يعتبرون الحرب على روسيا حرباً مقدسة يجب أن تنتهي بكثلكتها. دور دولة الفاتيكان معروف في الاعتداءات التي وُجهت إلى روسيا من قبل فاتيما. فالفاتيكان دعم الأتراك في حرب القرم، ودعم نابوليون في حربه عليها، إضافة إلى الأدوار التي لعبها من خلال دولتي هنغاريا وكرواتيا في البلقان. الفاتيكان احتفظ بعلاقات جيدة مع الحكم الشيوعي حتى كاد يفتتح معهداً لاهوتياً في روسيا في العام 1929. خلال هذه الفترة لم تُذكر روسيا في الرؤى، بينما عادت تذكر بتكريس روسيا بعد تدهور العلاقات.

دور الفاتيكان؟

كيف يُفسر انتشار صيت هذه الظهورات بهذه السرعة؟ كيف يُعلل أن رؤيا لفتاة تحوّل قرية مثل لورد إلى مركز ديني كبير وسياحي ضخم لا بل إلى ديزني لاند دينية؟ عدد السواح الذين يقصدون لورد أكثر من عدد زوار القدس. كيف يُفسر أن بعد ظهور أي رؤيا في مكان ما يأتي بعض الرهبان ويستلمون زمام الأمور بدل كاهن الرعية إن لم يكن منهم؟ هذا ما جرى في لورد وانتهى الأمر إلى الشكاوى والمحاكم. في مديغوريا لم تكن الأمور كذلك لأن كاهن الرعية كان من الرهبان أصلاً. كيف يُفسر أن تستمر الأمور على ازدياد بالرغم من رفض الأسقف المحلي وبدعم من بعض الرهبنات؟ الثابت أن للفاتيكان دور في كل هذا وهو من المستفيدين من هذه الظهورات خاصةً في التحكم بالوجه الحسي للأمور عن طريق أسرار يبوح بها أو يخفيها، ومن خلال جيش من الرهبان المنضوين في عدد من التنظيمات العريقة في الاقتناص والدبلوماسية.

مسألة قبول الظهورات

كما ذكرنا سابقاً فالكنيسة الكاثوليكية، في عملية التقييم، تتبع برنامجاً علمياً يعتمد على الرياضيات والفيزياء والطب النفسي. ومع أن الطب النفسي توصل إلى نتائج مهمة في شأن الرؤى والرؤاة قد تكشف أحياناً أوجهاً مخفية يستغلها الشيطان للخديعة، إلا أنه ليس مقياس صحة الرؤية. فكثافة الظهورات وكثرة الرسائل التي تحملها تجعل الأمر صعباً إضافة إلى الضغط الذي تشكله الحماسة الشعبية على أصحاب القرار. وفي بعض الحالات مثل مدياغوريا (التي تخطى عدد زوراها العشرة ملايين دون أن تنال موافقة الأسقف المحلي منذ 1981) تظهر كل عملية التقييم بلا قيمة، فالفرنسيسكان تكفلوا بجعل المكان مركزاً للحج بغض النظر عن موافقة الأسقف والبابا الذي لم تصل إليه بعد.

تذكر الموسوعة الكاثوليكية الجديدة أن رؤى القديسة دومينينك والقديس سمعان ستوك (Stock) في 1251 هي خرافات كما أنها تشير إلى أن الظهور في غوادالوبي – المكسيك في 1531 ليس بدون تساؤلات. كما تذكر المراجع الكاثوليكية أن هناك عدداً من الظهورات يكون بهدف المال أو لكسب الانتباه، والبعض قد يكون شيطانياً. تروي صفحة مخصصة على الانترنت لمتابعة أخبار الظهورات أن ماجدلين الصليب (Magdelaine of the Cross) كانت ترتفع عن الأرض عندما تصلي وتخبر المستقبل وتشفي المرضى، ولكنها اعترفت على فراش الموت أنها أسلمت نفسها للشيطان في فتوتها1. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا تسمح الكنيسة الكاثوليكية بأن يُغض النظر عن هذه الخبرة في بعض الحالات وتتذكرها في البعض الآخر؟

الكنيسة الكاثوليكية، في ارتكازها الأساسي على العلوم العالمية والمنطق، باتت تفتقد لبعض المفاهيم الآبائية وهذا ما يجعلها تقع في خطأ قبول هذه الأمور.  فالغرب بابتعاده اليوم عن فكر الآباء لم يعد لديه سوى فكرة بسيطة عن مفهوم أساسي هو الخديعة الروحية. هناك أمثلة كثيرة عن آباء ونساك وقعوا في خديعة الشيطان فاستضافوا الأبالسة بهيئة ملائكة وأحياناً المسيح نفسه وعاينوا رؤى وشاهدوا النور في قلاليهم وسمعوا الرب يكلمهم. القديس ذياذوخوس فوتيكي يحذر من خديعة الشيطان عندما يأتي بشكل نور. القديس أنستاسيوس السينائي يقول بأن ليس كل مَن يعمل آيات قديساً ويحكي أن أسقفاً هرطوقياً أقام ميتاً. القديس أنطونيوس الكبير حكى عن تظاهر الشياطين بسابق المعرفة لتضليل الناس، ومثله القديس يوحنا الدمشقي. كتاب بستان الرهبان يفرز باباً للكلام عن خديعة الشيطان من خلال الرؤى والتنبؤات. القديس يوحنا السلمي يحكي عن تمييز الأفكار والأهواء والفضائل. القديس سمعان اللاهوتي الجديد يحذر مما تزرعه الأرواح الشريرة في الجو. القديس مرقس الناسك يحذرنا حتى من استعمال الصور الفكرية في وقت الصلاة، ومثله القديس مكاريوس الكبير. كل الآباء يحكون عن الخديعة خاصةً للمتقدمين.

ما لا ينتبه له المتحمسون للظهورات المريمية هو إمكانية هذه الخديعة، وبهذا يتفقون مع الكاريزماتيك من مختلف انتماءاتهم. بعض القديسين الكاثوليك مثل يوحنا الصليب John of the Cross حذروا من أن كل الرؤى والنبؤات مهما كبرت لا تساوي عمل محبة صغير1. التمييز شرط أساسي للحكم في صحة الرؤيا والتعاطي مع الأمر في الكنيسة الكاثوليكية ليس على مستوى المسؤولية والأمثلة متعددة.لم تقبل السلطات الكنسية في فرنسا ظهورات لاساليت، كما أن السلطات الكنسية في اسبانيا لم تهتم للرؤى في غراباندال، ولا أسقف موستار في كرواتيا وافق على رؤى مديغوريا، ومع هذا أتى الحجاج دون أن يأخذوا بعين الاعتبار إمكانية كون مصدر الرؤى خديعة الشيطان. في سؤال لأحد الفرنسيسكان العاملين في مديغوريا عن مدى التأكد من أن المرأة التي ظهرت هي العذراء، أجاب متسائلاً مَن تراها تكون ما دامت أماً شابة مع طفل وعلى رأسها تاج4. فالرؤية قبلها الفرنسيسكان مع أن السيدة، في السابع من أيار 1985، أقامت إمرأة متوفاة هي والدة إيفانكا إحدى البنات الرائيات فقبّلت ابنتها ومضت. هل هناك ما يبرر عملية الإقامة هذه؟ أغلب الدارسين لا يرون في الأمر إلا تعاملاً مع الأموات وممارسة شيطانية.

لا بد من التوقف أيضاً عند أعمال الشفاء التي يدّعي البعض أنها تمت ويعتبرونها شهادة على صحة الظهورات. الحق أنه لا علاقة بين الأمرين. سيمون الساحر كان عنده قدرة شفائية. الطب الأسود في البرازيل لديه أيضاً نتائج كثيرة. بعثة لندن الأنكليكانية Anglican London Healiing Mission  تورد شهرياً قصص شفاء مذهلة، ومثلها مجموعات الكاريزماتيك العَنصريين أيضاً تدعي أعمال شفاء، ومثلهم عدد كبير من الروحانيين (Spiritists) والعلم المسيحي (Christian Science). الفرنسيسكان هم من داعمي التيار المواهبي (الكاريزماتيك) الكاثوليكي ومنه يأتي الأب تارديف وغيره من الشفائيين. جدير بالذكر أن هذا التيار ليس مقبولاً مئة بالمئة في الكنيسة الكاثوليكية مع أن البابا الحالي يشجعه.

الله يعمل بطرق مختلفة ولا أحد يضع حدوداً لرحمته. الكنيسة عرفت وما زالت تعرف عجائبيين وشافين. صلوات الكنيسة الأرثوذكسية ملأى بطلبات شفاء النفس والجسد، حتى المناولة المقدسة هي بهذا الهدف. صلوات الزيت المقدس تتكرر خلال السنة بالهدف نفسه إضافة إلى إمكانية إقامتها عند هذه الحاجة. يبقى أن طبيعة الشفاء ومصدره أهم من الشفاء نفسه. القديس يوحنا الذهبي الفم يؤكد أن الشفاء قد يتم أحياناً بسبب إيمان طالبه وبغض النظر عن المطلوب منه.

ماذا بعد؟

هناك تخمة من كل شيء: آلاف من الرؤى، مئات من المزارات، عشرات الآلاف من الرسائل، عشرات من الأسرار وتناقضات كثيرة. أتباع فاتيما يتباهون على أتباع لورد، وأتباع لورد يرون في مديغوريا تلفيقاً. السؤال المهم هو ما الضرورة لهذه الظهورات؟ طبعاً الله يعمل حيث يشاء وبالشكل الذي يشاء ويتحدث إلى العالم من خلال مَن يشاء. إن كان دور العذراء هو كل هذه الأمور التي يُحكى عنها في الظهورات فأي دور بقي للروح القدس؟ إهمال الروح القدس طبيعي في ظل هذه المعمعة المريمية.

الكتاب المقدس وخبرة الكنيسة المتراكمة على ألفي عام هما الحَكَم. ليس الشك في الخبرات إنما في مصدرها وفي هذا لا نشكك أحداً بل نكرر تعليم الآباء القائل بأن مصدر الرؤى قد يكون شيطانياً فإبليس دائم الاستعداد لاستغلال قدرات الانسان العقلية والنفسية لتضليله. هذا الصخب والزحام المرافق للظهورات ليس طبيعياً. جهوزية الإعلام لمرافقة أي رؤية ونشر أي رسالة ليست طبيعية. التناقضات كثيرة وهاك بعض الأمثلة. أسقف موستار قال في إحدى المرات أن هناك 30000 زائر في مديغوريا، أما أحد الفرنسيسكان فقال أن هناك مئتي ألف، فسأل الرؤاة السيدة فقالت أن هناك 110 آلاف. سيدة مديغوريا قالت في أول أسبوع لظهورها أنها سوف تظهر لثلاث مرات أخرى. ثم قالت أن لديها خمس أسرار ولاحقاً أصبحت عشرة. في 1991 أحصي 2500 ظهور أي بمعدل 250 سنوياً أي شبه يومية. أيضاً قالت سيدة مديغوريا أن مديغوريا آخر مكان لظهورها،، فماذا عن الظهور في 57 مكان غيرها في مختلف القارات[21] ومنها الصوفانية وأبو غسان في سوريا، وموريس بشوتي ورسل الإنجيل في لبنان؟

ماذا عن محتوى الرسائل؟ ضخ واضح لعقائد الفاتيكان. هناك دائماً المطهر، الحبل بلا دنس ودور البابا في خلاص الشعوب، قلب يسوع وقلب مريم. هناك دائماً دعوات إلى التوبة ولكنها مشروطة أو مربوطة بتهديد ما. دارسو الكتاب المقدس يتوقفون عند طريقة طرح العبارات مثل “أنا الحبل بلا دنس” فهي تشبه “أنا الطريق والحق والحياة”، “أنا القيامة”… المريميون المتحمسون يتوقعون أن يسمعوا “أنا وسيطة كل نعمة”، “أنا الشريكة في الفداء”. أن تقول السيدة أنها الحبل بلا دنس ليس فقط تثبيتاً للعقيدة بل أيضاً للسلطة التي أعلنتها أي للعصمة البابوية. وفي هذا السياق ترفض الكنيسة الكاثوليكية بعض الرؤى التي لا تأتي في هذا الخط. كاترينا سيينا[22]  ظهرت لها العذراء وأخبرتها أنها ليست الحبل بلا دنس. مؤرخو الغرب يقولون أن كاترينا كانت متأثرة بمعلميها الدومينيكان الذين كانوا يعارضون الحبل يلا دنس، وبالتالي أغلبهم يرفض هذه الرؤيا.

وفي الختام لا بد من ملاحظة التكرار الثقيل في الرسائل. مَن كلّم إيليا التسبيتي في النسمة لا يحتاج إلى تكرار أي كلام.

خاتمة

الكلام عن خطأ الظهورات فقط لا يكفي. لا بد من أن نتذكر دوماً تعليم كنيستنا عن والدة الإله. فبعكس ما يفكر بعض الباحثين بأن النسطورية هي التي فتحت أعين الكنيسة في الشرق على والدة الإله، إكرامها أتى من خبرة الكنيسة وخاصة الليتورجية. فموقع العذراء مريم في الكنيسة الأرثوذكسية هو أولاً في الليتورجيا. لم يستفض مؤرخو كنيستنا ولا لاهوتيوها في كتابة المصنفات عن والدة الإله بل كتب عنها مرنمو الكنيسة ومصلّوها وكاتبو مدائحها. والدة الإله اختارت حياة الصلاة. فهي وُلدت استجابةً لصلوات يواكيم وحنة ودخلت الهيكل طفلة وجاءها الملاك بالبشارة وهي تصلي، فكان لها ما شاءت في الكنيسة الأرثوذكسية التي اختارت لها الليتورجيا موقعاً. المقارنة بين الشرق والغرب في إكرامهما للعذراء مريم تظهر الفرق بينهما. فاللاهوت الأرثوذكسي ليس عقلياً ولا يسعى إلى تفسير شيء، كما أن الليتورجيا ليست تذكراً لأحداث سابقة إنما هي دخول في الحقيقة الأخروية لملكوت الله ومكان التقاء هذا العالم مع الملكوت. الغرب في لاهوته وجد مكاناً للعذراء فحدد لها امتيازات كانت الدافع إلى كتابة أبحاث طويلة وتأسيس تنظيمات وجمعيات عديدة. أما كنيستنا فقد وجدت سراً في التي هي أكرم من الشاروبيم وأرفع مجداً بغير قياس من السارافيم. واختبرت الكنيسة هذا السر في حياتها وعرفت أن البحث العقلاني عاجز عن أيجاد التعابير الملائمة لشرحه.

على مدار السنة الطقسية تعيّد كنيستنا لثماني أعياد لوالدة الإله. أعياد السيدة هي انعكاس لأعياد السيد. أما أعيادها غير الكتابية، مثل ميلادها ودخولها الهيكل، فهي ثمرة قراءة الكنيسة وفهمها للعهد القديم. أيقونة والدة الإله موجودة في كل الكنائس كما أن كل الصلوات تنتهي بقطعة للسيدة. لم يعرف آباؤنا كتابة الدراسات عن والدة الإله بل كتبوا لها المدائح والميامر: يوحنا الدمشقي، أندراوس الكريتي، كوزما المايومي، الذهبي الفم، رومانوس المنشد وغيرهم. الكنيسة توصلت إلى إعطاء والدة الإله هذه المكانة من خبرتها الليتورجية. فهي وجدت والدة الإله فردوساً ناطقاً تفرح بها كل البرايا. لم تجعل الكنيسة منها عبادة جديدة بل رأت فيها بعداً جديداً لعبادة السيد. وللتأكيد على هذا البعد الليتورجي، تشدد الكنيسة على إعطاء السيدة أسماء مرتبطة بالهيكل فهي الهيكل المتقدس، باب الرب غير المسلوك، المبخرة، قدس الأقداس، الشمعدان وغيرها.

من جهة أخرى، والدة الإله هي حواء الجديدة التي تشدد الكنيسة على أن ترى فيها خبرة العلاقة بين الله والخليقة كَسِرٍّ للمحبة. وهنا لا تقف والدة الإله كممثلة للنساء فقط بل لكل الخليقة أمام الخالق. في حين فشلت حواء الأولى في الحفاظ على النظام الطبيعي نرى والدة الإله صححت المسار من خلال اتضاعها وطاعتها واستعدادها للتضحية فاستحقت أن تكون أرحب من السماوات. لا تعرف كنيستنا العذراء إلا أماً. لهذا تصورها الأيقونات وابنها دائماً على ذراعيها وهي إما تنظر أو تشير إليه. فهي المصلية والشفيعة الحارة، المرضعة، المرشدة، أو الأم الواقفة تحت الصليب.

ختاماً لا بد من العودة إلى ظهوراتها. فظهور والدة الإله في كنيستنا هو دائماً كحضورها في قانا الجليل. ليست كثيرة الظهور، فرسالتها واضحة: كل ما يقوله لكم اصنعوه. لا نعرف في تراثنا الشرقي ظهورات لوالدة الإله كنبية أو معلمة إنما نعرفها المدافعة عن أسوار مدينتها، أو المرشدة (القديس أثناسيوس الآثوسي)، أو المعزية (القديس يوحنا الدمشقي). ما يحصل في الغرب من انتظار يومي لظهور جديد يحمل رسالة أو نبوءة جديدة غريب عن وجدان كنيستنا التي تحتمي في حضن الجندية المحامية مسلمة لها أمرها.

لأن الليتورجيا هي امتداد الحاضر إلى المستقبل تظهر والدة الإله في كنيستنا كإيقونة للكنيسة، وبما أنها بعد الولادة عذراء وبعد الموت حية لا يحق لنا إكرامها إلا كفجر لليوم السري، يوم القيامة. إن أي إكرام يخرج عن هذا السياق هو انتقاص من مجد العروس التي لا عروس لها.

 

[1] Messages from Heaven – the Apparitions. Introduction. 28/6/96. URL:http://members.aol.com/bjw1106/marian1.htm

[2] Are Apparitions Even Possible. 22/5/96. URL:http://members.aol.com/bjw1106/marian3.htm

[3] Apparitions of the Virgin Mary- Some Important Marian Apparitions. URL:http://members.aol.com/bjw1106/marian5.htm

[4] المرجع نفسه.

[5] Lambouras, Miriam. The Marian Apparitions: Divine Intervention or Delusion? Reprinted from The Shepherd, URL: www.orthdoxinfo.com/inquirers/marian_apparitions.htm.

[6] Apparitions of the Virgin Mary- Some Important Marian Apparitions. URL:http://members.aol.com/bjw1106/marian5.htm.

[7] المرجع نفسه.

[8] المرجع نفسه.

[9] Apparitions of the Blessed Virgin 1998 Developments. URL:http://members.aol.com/bjw1106/marian98.htm

[10] Lambouras.

[11] أنظر “الكتاب المقدس. العهد القديم”. دار المشرق. بيروت 1989. ص. 73. الحاشية رقم 3.

[12] Nostradamus Prophecies. Chapter IV. URL: http://web1.tusco.net/ourlady/chapter4.htm.

[13] Pope John Paul II. Love of Mary shared by East and West. Osservatore Romano No. 34 (1454). URL:http//www.al-bushra.org/bvm/marylv.htm.

[14] Fr. Nicholas Gruner. “I Give you Peace”. Fatima Network: Our Lady’s Library Online. Fatima Crusadors. URL: http://fatima.org/library/cr40pg2.html.

[15] “The Mystery of Mary”. Life Magazine. Dec. 1996. Issue no.

[16] Jackson, Peter. A New Mary For A New Age. Orthodox Life. No. 1. 1997. pp. 18-22.

[17] المرجع نفسه.

[18] Lambouras.

[19] Pope John Paul II. Love of Mary shared by East and West. Osservatore Romano No. 34 (1454). URL:http//www.al-bushra.org/bvm/marylv.htm.

[20] Lambouras.

[21] Catholic Apparitions Of Jesus And Mary. URL: http://web.frontier.net/Apparitions/

[22] قديسة لاتينية من القرن الرابع عشر (Catherine De Sienne)

Leave a comment