الحسد

الحسد

القديس باسيليوس الكبير

نقلها إلى العربية المطران أبيفانيوس زائد

“فلما رأى العملة الإبن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث تعالوا نقتله ونستولي على ميراثه” (متى38:21).

لا تحتوي النفسُ البشرية على خصلة مهلِكَة كالحسد، فكما يأكل الصدأُ الحديدَ هكذا يأكل الحسدُ النفسَ التي يسكنها. وكما يقرِض العثُّ الثوبَ يلتهم الحسدُ النفسَ التي يتولد فيها. الحسدُ هو الغمُّ بسبب سعادةِ القريب. ولذلك يظلّ هذا الحزنُ بلا نقصان، لأن لا تعزية للحسود، غير أنه يرى بأمِّ عينِه سقوطَ من يحسدهم. ولأن قصدَه واحد، وهو أن ينقلب حال من يثير حسده من السعادة إلى التعاسة والحقارة، قد يصطلِح حالُ الحسود ويتغيَّر إذا رأى قريبَه باكياً أو صادفه كئيباً. فهو عدوّ الحاضر وصديقُ الهالك.

الحسد جهاز الشيطان لمحاربةِ الإنسان. إنّ محارِبَ الله أظهر حسدَه إذ اغتاظ من السيّد لوفرة هِباته الأرضيّة، فأخذ ينتقم من الإنسان لأنه عاجز عن الانتقام من الله. هكذا فعل قايين الذي تعلّم الحسدَ والقتلَ من الشيطان وتشابَه الشرُّ بين الاثنين. فإن قايين لما رأى المجدَ المعطى من الله لأخيه هابيل قتله ليغيظ واهبَ المجد، وسقط في إثم القتل، لأن لا قوة له على محاربة الله. فلماذا تسير أيّها الأرضي لتحارب أخاك الإنسان الذي وجدت بعضَ الخيرات لديه، وهو لم يعمل شيئاً لزوال خيراتك؟ ولكن، إن كنت أنت المنعَم عليك تحنق على ذاتِك أفلا تحسد نجاحَك الخاص؟

الحسد نوعٌ غامض من العداوة. والإحسان يجعل بعضَ ذوي النيات الرديئة ودعاء، ويزيد الحسود غيظاً لأنه يحزَن من قوة المحسِن ولا يشعر بالشكر نحو المحسِن إليه. فالحسود يفوق أشَدَّ السِباع شراسة وقساوة. يصير الكلبُ وديعاً إن أطعمتَه، والأسدُ أليفاً إن عَنَيت به، أمّا الحسودُ فيزداد شراسة إن قدّمت خدمة له. لقد حسد اليهودُ المخلِّصَ لأجل عجائبه ولأنه خلّص المحتاجين. قد أطعم الجائعين فأثاروا حرباً على المُطعِم، وأقام الأمواتَ فصار معطي الحياة موضوعاً للحسد، وطَرَدَ الشياطين فأسلِم منقِذ البشر إلى موت العار، جُرِح الشيطانُ بالحسد منذ بدء العالم حتى نهاية الدهر فكان الحسد سبباً لسقوطه.

لقد كان حكيماً من مَنَع “أكلَ خبزِ شريرِ العين” أي الحسود (أمثال 6:23) ومن هنا نفهم وجوبَ عدمِ مخالطة الحسود في جميع أمورِ الحياة. كما أننا نجتهد أن نضع المادةَ القابلةَ للاشتعال بعيدةً عن النار، هكذا يجب أن نتجنَّب الحديثَ مع الحسّاد قدرَ الإمكان، لأن مخالطتَهم تُعدي كما قال سليمان: “إنّما هو حسد الإنسان لقريبه” (جامعة4:4) الحثّي لا يحسد المصريَ بل يحسد ابنَ جنسِه الأقربَ إليه كالقرينِ والقريبِ والأخ، وهو عدو الصداقة، كما اليرقان عدو القمح. كلّما اشتدّ الحسدُ في الإنسان كانت وطأتُه ثقيلةً داخله. ولكنّ ضررَ الحسد يعود على صاحبِه ويرتدّ إليه كما يرتدّ السهمُ عن الأجسامِ الصلبة إلى راميه. فإذا غضب المرءُ من كمالِ قريبِه هل ينقِص غضبُه شيئاً من كمال هذا الأخير؟ لا يزال الحسدُ يأكل صاحبَه حتى يوهنَ جسدُه فيخبو نورُ عينيه ويغور خداه وينحدر حاجباه وتضطرب نفسُه بالشر وتعفّ عن الحكمِ بصدقٍ على الأشياء. ومثل هذا لا يعود يمدح الأشياء التي تستحقّ الإعجابَ، إنه كالحدأة التي تتجاوز الأماكن الجميلة الأرجة إلى الأماكن القذرة النتنة، وكالذبابة التي تتجاوز الصحيحَ إلى الفاسد. الحسود لا ينظر إلى بهجة الحياة وعظمة المآثر بل يهبط إلى الفاسد والدنايا فقط.

إنْ أذنبَ أحدٌ نشر الحسودُ الذنبَ عاجلاً ليعرف الملأ به كما يفعل المصوِّر الرديء بالوجه المرسوم على اللوحة. الحسود ماهرٌ في جعل الممدوح محتَقَراً محوِّلاً إياه إلى وجهٍ رديء ومفترياً على الفضيلة ومصوِّراً صاحبَها كأثيم. الحسود يدعو الشجاعَ وقحاً، والعفيف عديم الإحساس، والعادل قاسياً، والعاقل خداعاً، والكريم مبذراً، والمقتصد بخيلاً. وعلى الإجمال يعطي كلّ فضيلة اسماً يناقضها.

فإن كان الموت والابتعاد عن الله وزوالُ كلِّ الخيرات يسيل إلينا من الحسد كما ينبوع، فلنسمع إذاً قول المسيح: “ولا نكن ذوي عجب ولا نتغاضب ولا نحسد بعضنا بعضاً” (غلاطية 26:5)، “بل كونوا ذوي رفق بعضكم ببعض شفقاء مسامحين كما سامحكم الله في المسيح سيدنا” (أفسس 32:4) الذي له المجد مع الآب والروح القدس إلى دهر الداهرين آمين.

Leave a comment