التمييز بين الأرثوذكسية والهرطقة في الفيلوكاليا

التمييز بين الأرثوذكسية والهرطقة في الفيلوكاليا

المتقدم في الكهنة جورج ميتالينوس

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

1. مدخل

معروف أن إيجاد تحديد دقيق للأرثوذكسية ككنيسة هو أمر مستحيل، لأن “الأرثوذكسية – الكنيسة” هي شأن إلهي-إنساني. في ما يتعلّق بعنصرها الإلهي، فهو يتخطّى الإدراك الفكري-المنطقي. لذا، إذا أردنا أن نعرّف الأرثوذكسية بشكل ما، فيمكننا أن نقول ما يلي: الأرثوذكسية هي حضور غير المخلوق في العالم وفي التاريخ، وقدرة المخلوق على أن يتقدّس ويبلغ التألّه. إن الشعار “الإله الخالق لكن غير الحاكم” هو محض وهم، بحسب المنطق الأرثوذكسي. إن العنصر غير الزمني والفائق الزمن هو في العالم وفي الزمن بشكل ثابت، لكي يقدّس الزمن ويحوّله إلى زمان للملكوت الإلهي، إلى أبدية (أنظر كلمات الرسول بولس: “لأَنَّ هذَا الْفَاسِدَ لاَبُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ” (1كور 53:15)).

2. الإيمان

مفهوم أن الأرثوذكسية مرتبطة دوماً بالإيمان. لهذا، نحن نتحدّث عن “الإيمان الصحيح القويم”، لكي نميّزه عن “الإيمان الزائف”. الأرثوذكسية هي المجد الحقيقي وتمجيد الله، المفهوم الأصيل لله، بينما الهرطقة هي مجد مصطنع وتمجيد مَرَضي لله. وهكذا تتصادم الأرثوذكسية والهرطقة في مجال الإيمان، وهنا هو بالتحديد مكان اختلافهما. عليه، ما هو إذاً “الإيمان” وكيف يُفهَم في حياة الكنيسة كجسدٍ للمسيح؟

قبل كل شيء، “الإيمان” في لغة اللاهوت يعني الإعلان الإلهي؛ أي ما يكشفه الله للإنسان، فحوى ما يُعلَن، الحقيقة الإلهية. مع هذا، الإعلان الإلهي ليس أمراً مجرّداً، أي ليس مجموعة من الحقائق المُدرَكَة عقلياً، أو الأفكار أو المواقف التي يُدعى الإنسان إلى تبنيها لكي يخلص. النظرة السكولاستيكية هي على هذا الشكل، وقد تسرّبَت إلى عقائدنا أيضاً. حقيقة الكنيسة هي شخص؛ إنها ابن الله المتجسّد وكلمته؛ إنها الحق الكامل متجسّداً. إنها شخص ربّنا يسوع المسيح. إن الإله المجهول والمتعذّر بلوغه منذ خلق العالم صار معروفاً، وما زال يُعرَف، في المسيح. بتعبير آخر، الله كشف ذاته؛ إنه يعلن عن ذاته “بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ” (عبرانيين 1:1)، حيث ذروة الإعلان هي إعلانه عن ذاته “في الابن”، أي في تجسده، الذي كان شرطاً مسبقاً لحدث العنصرة، الذي من أجله “تكوّنت” الخليقة، بحسب الآباء. العنصرة هي الكشف الإلهي الأسمى في الروح القدس، كما أنها أسمى خبرة بشرية في التاريخ.

المسيح، كإله-إنسان، هو بطريقة ما الإيمان “الموثُّق”، الممنوح “من العلى”، لكي نأتي إلى معرفة الله “بذاته” (أنظر يوحنا 9:14 “مَن رآني فقد رأى الآب”). إنّه إيماننا الأقنومي (الشخصي)، بحسب القديس مكسيموس المعترِف. نحن نصير “مؤمنين”، بالاشتراك في ذلك الإيمان الشخصي المتجسّد، أي المسيح. فقط في المسيح يمكن أن تتوفّر إمكانية معرفة الإله الحقيقي. وهذا ما يوطّد فرادة الأرثوذكسية ومقصوريتها في الحدث المعروف بالخلاص (أعمال 12:4).

يردّ الإنسان على الإيمان المعلَن “المُجاز” إليه لخلاصه بإيمانه الشخصي. إيمان الإنسان أساسي بشكل مطلَق، لكي تعمل قوة الله في داخله؛ لتقوده إلى الخلاص. المسيح نفسه أكّد قيمة إيمانه “مَن آمن واعتمَد يخلص، ومَن لم يؤمن يُدان” (مرقس 16:16). ينبغي أن يتحوّل الإيمان “الموضوعي” إلى إيمان “شخصي” من أجل الخلاص. وهذا يتحقق، من خلال “سكنى” الإيمان “الموضوعي” (“إِنْ كَانَ رُوحُ اللهِ سَاكِنًا فِيكُمْ” (روما 9:8))؛ بتعبير آخر، سكنى غير المخلوق في المخلوق؛ سكنى الله في الإنسان. المسيح يدعو الإنسان لأن يكون “مؤمناً”، متلقيّاً للحقيقة المعلَنة في المسيح “كحياة في المسيح”، ولأن يعيش تلك الحقيقة لكي يصير هو نفسه حقيقياً، تماماً كما المسيح هو “الإله الحق” (1يوحنا 20:5). خلاص الإنسان هو عندما يرجع “حقيقياً” والشرط المسبَق لهذا هو اتحاده بالإله الحق.

الإيمان الأرثوذكسي هو ذاك الذي يعمل فدائياً. وهذه هي النقطة المحددة حيث تميّز الهرطقة نفسها عن الأرثوذكسية. الهرطقة هي تزييف الإيمان ونكرانه في الوقت عينه، لأنها تزييف باتجاهين: من جهة فحوى الإيمان، أي المسيح، ومن جهة الأخرى طريقة قبوله. في الهرطقة، المسيح مجزّأ ومقبول، لا ككلٍ تامّ، بل كشخص مقسَّم لأنه يُقارَب بعقل الإنسان وشفتيه فيما قلب الإنسان ومجمل وجوده “فَمُبْتَعِدٌ بَعِيدًا” (متى 8:15). الهرطقة، كل هرطقة، ليست مجرد تعليم خاطئ؛ إنّها عدم أرثوذكسية (عدم استقامة رأي) وغير مسيحية. بمقاربة الموضوع بهذه الطريقة، نحلّ أنفسنا من الاختلافات الطائفية الماضية ومن المصطلحات السكولاستيكية. في نهاية الأمر، الهم الأساسي ليس مقدار خطأ تعليم ما، بل قدرته أو عجزه عن شفاء الإنسان (كما كان يعلّم الأب يوحنا رومانيدس)، الهم هو قدرته على شفاء الإنسان.

وهكذا، يمكن الاستنتاج: في ما يتعلّق بعملية الحَدَث المسمى “الإيمان”، فهو يبدأ كعملية عقلية منطقية، بمعنى التأكيد الخارجي من الإنسان، من ثمّ يتقدّم كقبول لمنحة الله وإخلاص له، ليكتمل من بعدها بيقين وإدراك لله، في المسيح. لغوياً، هذه المعاني الدقيقة الأساسية المحتواة في كلمة “الإيمان” في اللغة اليونانية، لغة الأناجيل: الثقة (em-pisto-syni)، الإخلاص (pisto-tita)، اليقين (vevaiotita). في ما يلي، سوف نحاول توضيح هذه المعاني من ضمن تقليدنا الفيلوكالي (النسكي)، لكي نفهم قدر الإمكان دور الإيمان كعامل خلاصي.

3. الإيمان “الأول”، الإيمان “البسيط” أو “الإيمان بالسَماع”

يسوع المسيح، كلمة الله الأزلي، يعلّم الجنس البشري في كل الأجيال كاشفاً بتعليمه طريق الخلاص. هذا كان يجري في العهد القديم، من خلال أفواه الأنبياء. وهذا جرى أيضاً، بعد تجسده، من فمه الكلي القداسة وما زال يجري تاريخياً مع رسله والآباء والأمهات القديسين إلى “منتهى الدهر” (متى 20:28).

موقف الإنسان الذي يتميّز بجوابه على دعوة الرب، هو في أسوأ الأحوال رفض لما يهبه الله وفي أفضلها هو ثقتنا به. وكون المسيح في التاريخ هو “طبيب النفوس والأجساد”، بحسب ما نذكر في القداس، يمكننا القول بأن هذا ينطبق على كل طبيب: فإما أن الإنسان يظهِر ثقة بالطبيب ويطيع أوامره ويشفى، وإمّا يخالف أوامره ويموت. الإيمان الأول، على شكل الثقة، هو الثقة الصادرة “بالسماع”، كسماع عظة ما، وهو شرط مسبَق لمعرفة الله (أنظر روما 17:10: “الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ”).

إيمان الإنسان الأول مرتبط بمعرفته الطبيعية، التي تستعمل العقل والمنطق أدوات لها. هناك نوعان من الإيمان، وأيضاً نوعان من المعرفة والإدراك؛ في الوقت نفسه، هناك وسيلتان لكل نوع من المعرفة؛ أي إدراك الله وإدراك العالم. هذا ما يبينه أحد أهمّ النساك في الكنيسة القديس اسحق السرياني: “المعرفة التي تتطلّب الإيمان كشرط مسبَق هي غير المعرفة التي تولَد من الإيمان. الأولى هي معرفة طبيعية بينما الثانية روحية”. بالمعرفة الطبيعية-العقلية (ولو كانت هي ايضاً منحَة من الله) يمكننا أن نميّز بين الخير والشر. لكن كيف تقودنا المعرفة الطبيعية إلى الإيمان؟ بحسب الرسول بولس، إنها توجّه الإنسان نحو الله، عبرَ الخليقة (روما 20:1). إذاً، الطريق الإلهية هي من التعليم والمعجزات، أي “العلامات الإلهية”. تعليم المسيح ومعجزاته وجّهوا معرفة الإنسان الطبيعية لكي يوقظوا الإيمان “الأول”. على سبيل المثال، عندما أطعم المسيح “الخمسة آلاف” في الصحراء، صرخ الشعب عند نظرهم المعجزة “إِنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ!” (يوحنا 14:6). في موضع آخر، يلاحظ الإنجيلي يوحنا: ” وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هذَا الْكِتَابِ. 31وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ.” (30:20-31). وحتّى المسيح نفسه قال لليهود: “وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ، فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فَآمِنُوا بِالأَعْمَالِ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أَنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ” (يوحنا 38:10)، و”إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي.” (يوحنا 25:10).

كلمات المسيح وأعماله تتكرر مع قديسيه في كل لحظات التاريخ وهي ما يوقظ إيمان الإنسان. وحدهم “قُسَاةَ الرِّقَابِ، وَغَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ” (أعمال 51:7)، فريسيو كل زمان، يرفضون دعوة الله إلى الخلاص. صلابة القلب وقساوته هما الموت الروحي للإنسان. في حالة مثل هذه، يتحوّل الإنسان عاجزاً عن قبول نعمة الله. الإيمان البسيط وحده، كقبول منطقي للحقيقة الإلهية، هو بشكل طبيعي غير كافٍ للخلاص؛ الشيطان وأبالسته يمتلكون هذا النوع من الإيمان. بحسب الرسول يعقوب أخي الرب: “مَا الْمَنْفَعَةُ يَا إِخْوَتِي إِنْ قَالَ أَحَدٌ إِنَّ لَهُ إِيمَانًا وَلكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ، هَلْ يَقْدِرُ الإِيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ؟ (يشير هنا إلى الإيمان “الأول”) وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ!” (يعقوب 14:2و19). بحسب الرسول نفسه، يدفع الإيمان الأول نحو الخلاص لكن له “أعمال” لتظهر. أعمال الإيمان هي النتيجة لإيمان الإنسان بالمسيح، وبتعبير آخر، إنها تمثّل ثقته بالمسيح وطاعته له، أي اعترافه بالمسيح مخلّصاً.

لكن ما هي هذه الأعمال التي يولّدها الإيمان الأول؟ يتحدّث القديس سمعان اللاهوتي الحديث عن “الفضائل” التي تنشأ من الإيمان الأول “الإيمان بالله يولِّد الرغبة بالأمور الحسنة وخوف الدينونة. الرغبة بالخير وخوف الدينونة يقودان إلى التزام دقيق بالوصايا. الالتزام بالوصايا يظهر الضعف البشري. معرفة الإنسان بضعفاته تولّد ذكر الموت. مَن بلغ مرحلة امتلاك ذكر الموت كمرافق حيّ سوف يسرع إلى اكتشاف ما سوف تكون عليه حاله بعد الموت. ومَن يشغل نفسه بالتعلّم عن أشياء ما بعد الموت يمتنع عن ملذّات هذه الحياة؛ لأنّه إن تعلّق ولو بواحدة منها يصير عاجزاً عن بلوغ المعرفة الكاملة”. بين الفضائل التي تنشأ من الإيمان الأول علاقة داخلية تربطها بعضها بالبعض لأن الواحدة منها تولّد الأخرى. بحسب القديس مكسيموس المعترف: “مَن يكون الرب في أفكاره يحفظ الخوف من الجحيم. بالحفاظ على هذا الخوف، يُبقي الإنسان نفسه على مسافة من الأهواء. مَن يحفظ نفسه بعيداً من الأهواء يتحمّل محَن الحياة. بتحمّل محَن الحياة، يكتسب الإنسان الرجاء بالله. مَن عنده الرجاء يصرف فكره عن كلّ ما هو أرضي، بكلام آخر، إنّه يبلغ اللاهوى. وعندما يصرف الإنسان فكره عن كلّ ما هو أرضي يكتسب المحبة الإلهية”.

يجب أن نشير هنا إلى أنّ التشوّش الذي قام في الغرب حول العلاقة بين الإيمان والأعمال غير موجود في التقليد الابائي. يتحدّث الرسول يعقوب عن الإيمان الأول الي ينبغي أن يًُكَمَّل بأعمال الخلاص. لكن الرسول بولس يتحدّث بشكل أساسي عن الإيمان الآخر الذي سوف نتطرّق إليه لاحقاً. هذا الإيمان هو ثمرة الروح القدس في داخل القلب. لكن بالعودة إلى الإيمان الأول، فإن لأعماله ميزة علاجية إذ إنّها تعمل كأدوية روحية لشفاء واستعادة الوجود البشري في شركته مع الله. “أعمال الناموس”، التي هي محور رسالة الرسول بولس إلى الذين في روما، لا يمكن أن تكسب أي مكافأة من ذاتها (أنظر لوقا 10:17)، ولا يمكن أن تخلّص الإنسان. على سبيل المثال، كان الفريسيون يقومون بأعمال الناموس بهدف الظهور، لكن هذا ما كان ليخلّصهم لأنهم لم يكونوا “أنقياء القلوب”. إن تطهير القلب هو شرط مسبَق لمعرفة الله “طوبى لأنقياء القلوب لأنهم لله يعاينون” (متى 8:5). المعيار الذي على أساسه يُقَيَّم الإيمان الأول، هو أنّه يقود إلى تطهير القلب. لهذا السبب يخضع الإيمان للمراقبة، تماماً مثل أي طريقة طبية علاجية، إذ تظهر صحّتها عندما تقود إلى إنسان معافى. وهنا، مجدداً، الفرق بين الأرثوذكسية وغيرها جلي. غير الأرثوذكسية (الهرطقة) لا تقود، ولا يمكن أن تقود، الإنسان إلى الشفاء، لأنها لا تملك “الأدوية” الضرورية للخلاص. هذه الأدوية” هي التعليم الإنجيلي الصحيح وعقائد (قرارات) المجامع المسكونية، التي هي تدوين لخبرة القديسين في أمور الخلاص ليس إلا. توفّر عقائد الكنيسة الإيمان الذي يخلّص، وهي تحدد مسعى المؤمن نحو الخلاص. لهذا السبب جاهد القديسون عبر العصور حتى الموت من أجل الحفاظ على نقاوة العقائد، تماماً كما يجاهد الأطباء الأصيلون للحفاظ على أي منهاج علاجي. العقائد المغشوشة لا تخلّص، وهذا مجدداً هو المكان حيث تتجلّى مأساة الهرطقات. إن عقائدهم هي علاجات زائفة تقتل الإنسان وتقوده إلى الخراب الأبدي. ولهذا السبب، ما يخشاه القديسون هو الهرطقة وليس الموت.

هذا أيضاً يشرح إحدى الممارسات التاريخية التي غالباً ما يُساء فهمها. بحسب الأب يوحنا رومانيدس، كانت الدولة المسيحية ترى في الهرطقة علاجاً مغشوشاً لكونها تحوي تعليماً ساماً. لهذا السبب، في الشرق المسيحي، كانت الكتب الهرطوقية تُحرَق (وليس الهراطقة أنفسهم!)… بالطريقة نفسها التي تُلزِم أي دولة حسنة الحكم بإتلاف كلّ الأدوية التي تهدد حياة المواطنين، وبإيقاف أعمال الأطباء الزائفين. ليس في هذا الأمر أي حدّ لحرية حركة الأفكار لأنه يهدد الوجود الأبدي للإنسان.

هذه هي المتطلبات الأساسية التي بها تجاهد كنيستنا إلى اليوم لحماية أبنائها من المجموعات الهرطوقية الشرقية والغربية التي تقوم بالاقتناص العلني والاستفزازي. ولهذا السبب نحتاج إلى صلوات الجميع ودعمهم.

4. الإيمان “الكامل” – أي الإيمان الداخلي

الإيمان الأول قد لا يخلّص، لكنه يفتح الطريق إلى الخلاص الذي يعبّر عنه الإيمان الكامل الداخلي. هذا ما يعلّمه قديسونا، أمثال القديس مكاريوس المصري (القرن الرابع): “مَن يحاول أن يؤمن وأن يكون متّحداً بالرب، عليه أن يحاول اكتساب الروح القدوس في حياته. لهذا السبب أتى المسيح إلى العالم: ليمنح الروح القدس للنفس… ولكن إن لم يحاول الإنسان، هنا وفي حياته على الأرض حيث يوجد نور الروح القدس، أن يكتشف هذا النور ويحفظه في نفسه، عليه أن يتوقّع، عندما يموت، أن يكون في مكان الظلام، على يسار الرب”. هذا الإيمان يُسمّى “الأسمى”، “الكامل”، “الداخلي” “النابع من الرؤيا”. إنه الإيمان المرتبط بحَدَث الخلاص لأنّه يشكّل اليقين بالخلاص في داخل الإنسان. الإيمان “الأول” هو ثمرة الروح القدس ومنحته. لكي يبلغ الإنسان إليه، عليه أن يكتسب نعمة الروح القدس. لهذا السبب، اتّخاذ الروح القدس هو الهدف المسيحي (أنظر يوحنا 22:20). صلاة المؤمنين الأرثوذكسية هي: “أيها الملك السماوي… هلمّ واسكن فينا…” الحياة في المسيح، كممارسة، تسمّى جهاداً روحياً لأنّها تتوق إلى تحويل الإنسان إلى متلقٍّ للروح القدس.

بعض الإشارات الآبائية إلى الإيمان المزدوج: القديس يوحنا الدمشقي: “الإيمان ثنائي. هناك الإيمان الذي ينشأ بالسَماع، حيث أننا بسماعنا الكتاب المقدس، نؤمن بالتعليم… من ثمّ، هناك الإيمان الذي هو أقنوم الأمور المرجوة… فالأول ينبع من الاقتناع، بينما ينتمي الثاني إلى مواهب الروح”. القديس اثناسيوس السينائي: “يُفهَم الإيمان المستقيم على أنه ذو وجهين. هناك الإيمان القائم على سماع عظة، وهناك إيمان أكثر ثقة هو أقنوم الأمور التي تُرجى. الإيمان القائم على السماع مُتاح للجميع بلوغه، بينما الثاني فمُتاح فقط للأبرار”.

العضو الحيّ في جسد المسيح هو ذاك الذي يسكن في داخله الروح “بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا” (روما 26:8). هذا الإنسان بارّ، إنه “هيكل لله” (1كورنثوس 16ك3). الإنسان الروحي، بلغة الأرثوذكسية، هو حامل الروح القدس، وهو الذي يخصّ المسيح فعلياً كعضو حقيقي في جسده. يتبنّى الآباء التمييز البولسي في الحديث عن الشخص “الروحي – الطبيعي – الجسداني”، في إشارتهم إلى الإنسان “الذي بحسب الجسد”، “فوق الطبيعة” أو “ضد الطبيعة”. يشدد القديس مرقس الناسك على هذا التمييز بالكلمات التالية: عندما يكون النوس في حالة “ضد الطبيعة”، ينسى الإنسان عدالة الله ويكون في عداوة مع إخوته البشر عندما يخالفونه (= الإنسان الجسداني). بينما عندما يكون النوس في حالة “طبيعية” (بحسب الطبيعة)، يكتشف ذلك الإنسان أنّه هو ذاته مولّد الأفكار الخاطئة. يعترف هذا الشخص بخطاياه مدركاً تماماً لسبب أهوائه (=الإنسان الطبيعي). مع هذا، عندما يبلغ النوس حالة “ما فوق الطبيعة”، يكتسب مواهب الروح القدس، ويدرك هذا الشخص أنّه عندما يبدأ بتفضيل الاهتمام الأمور الجسدانية، لا يمكنه أن يحافظ على الروح (=الإنسان الروحي).

الإيمان الداخلي، بحسب القديس غريغوريوس بالاماس، هو أفضل البراهين عن الله: “الإيمان هو أفضل البراهين والبرهان غير القابل للتحسين للبرهان الإلهي”، لإنه شيء يُختَبَر؛ إنه ثقة داخلية. لهذا السبب، في الأرثوذكسية، لم تتطور البراهين المنطقية لوجود الله، بل ساد الاعتقاد بأنها غير ضرورية. معاينة الله هي البرهان المباشَر الذي لا يُعلى عليه عن الوجود والحضور الإلهيين.

غالباً ما يُشار إلى الإيمان الكامل في العهد الجديد، لكن فهم هذه الإشارات يتطلّب معرفة مبادئ الكتاب المقدس اللغوية. هنا بعض الأمثلة: يوحنا 16:3: “…لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ” (الحياة الأبدية = النعمة الإلهية، القوة الإلهي. المؤمن= مَن تسكن فيه النعمة). يوحنا 18:3: “اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ”، يوحنا 25:11: “مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا”، يوحنا 12:14: “مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا (=المعجزات)، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا” (انظر المعجزات التي قام بها القديسون حتى في زمن العهد الجديد). يتوجّه الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين (1:11) بكلام عن الإيمان الكامل: “أمّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى”. ما يُرجى هو النعمة غير المخلوقة التي للإله الثالوثي. نحن نترجّى ملكوت الله، ملكوت نعمته. إلى هذا، الأمور التي لا تُرى هي النعمة غير المخلوقة نفسها. الإيمان الداخلي يصير اليقين، أي العامل المحقق، الذي لا يراه الإنسان بعينيه الجسديتين. باستنارة الروح القدس، يبلغ الإنسان حالة “الثايوريا (المعاينة)”، أي بتعبير آخر، معاينة العظمة الإلهية (الملكوت). هذا ما تعبّر عنه كلمات الرسول “… إِنِ… آمَنْتَ بِقَلْبِكَ … خَلَصْتَ” (روما 9:10).. وعليه، الكلام ليس عن إيمان عقلي بل قلبي، ممكن فقط في حضور غير المخلوق في داخل القلب. في هذا الإطار ينبغي فهم كلمات المسيح “وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟” (لوقا 8:18).

يتساءل الإنسان اليوم عن طريقة عمل الإيمان الداخلي. الجواب هو بمقطع من العهد الجديد: “وَصَعِدَ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا مَعًا إِلَى الْهَيْكَلِ فِي سَاعَةِ الصَّلاَةِ التَّاسِعَةِ. وَكَانَ رَجُلٌ أَعْرَجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يُحْمَلُ، كَانُوا يَضَعُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ بَابِ الْهَيْكَلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «الْجَمِيلُ» لِيَسْأَلَ صَدَقَةً مِنَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْهَيْكَلَ. فَهذَا لَمَّا رَأَى بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا مُزْمِعَيْنِ أَنْ يَدْخُلاَ الْهَيْكَلَ، سَأَلَ لِيَأْخُذَ صَدَقَةً. فَتَفَرَّسَ فِيهِ بُطْرُسُ مَعَ يُوحَنَّا، وَقَالَ:«انْظُرْ إِلَيْنَا!» فَلاَحَظَهُمَا مُنْتَظِرًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا شَيْئًا. فَقَالَ بُطْرُسُ:«لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلكِنِ الَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ قُمْ وَامْشِ!». وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَأَقَامَهُ، فَفِي الْحَالِ تَشَدَّدَتْ رِجْلاَهُ وَكَعْبَاهُ، فَوَثَبَ وَوَقَفَ وَصَارَ يَمْشِي، وَدَخَلَ مَعَهُمَا إِلَى الْهَيْكَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَيَطْفُرُ وَيُسَبِّحُ اللهَ.” (أعمال 1:3-8). وحدهم الواعون لحضور الروح القدس في قلوبهم يستطيعون الكلام مثل الرسول بولس. يمكن ملاقاة لحظات مشابهة في حياة القديسين (مثلاً: كان القديس اسبيريدون يزور قبر ابنته ويتحدث إليها واثقاً من أنه سوف يتلقى جواباً). نحن الكهنة تلقينا نفس السيامة التي تلقّاها القديسون، فلماذا لا نجرؤ على المجازفة بأعمال مماثلة؟ ببساطة: لأن نعمة الله فاقدة للنشاط في داخلنا. نحن لسنا حملة حقيقيين للنعمة؛ نحن مجرّد “ناقلين” لها.

بالنسبة لنا نحن الأرثوذكسيين، معايير الإيمان الحقيقي ونتيجته للإنسان هي براهين التألّه التي يقدمها الله نفسه، أي رفات القديسين أمثال القديس اسبيريدون في هذه الأيام في كورفو، ورفات الشهداء المئة وعشرين في الدير الكبير في كييف، أوكرانيا. ليس للهرطقة أي رفات مقدسة تظهِرها: رفات سليمة، عجائبية، مفيضة للطيب، فهذه الأمور هي براهين تألّه. إلى هذا، تزيّف الهرطقة الإيمانَ في اتجاهين: إمّا تحوّل الإيمان إلى نظام فلسفي وإيديولوجيا، أو تفرِط بالأعمال الشخصية، كما فعل الفريسيون، فتقود الإنسان إلى فعالية محضة (كمثال الأعمال التبشيرية غير المصحوبة بتجديد باطني). لكننا هنا نأتي إلى فهم كلمات القديس كبريانوس (من القرن الثالث) “( extra ecclesiam nulla salvus) لا خلاص خارج الكنيسة”. “الكنيسة” هنا ليست ما هو متعارَف عليه اليوم، حيث الكل يسمون أنفسهم كنائس بمن فيهم الهرطقات؛ الكنيسة هي جسد المسيح الواحد الوحيد. هذه الكلمات تعني: “خارج أسلوب الحياة، الذي يتضمّن طريقة وجود هذا الجسد في التاريخ، لا يمكن أن يخلص الإنسان”. الكنيسة موجودة حيث تُحفَظ طريقة الحياة هذه، بحسب القديس إيريناوس أسقف لوغدونوم (القرن الثاني)، “حيث يكون وجود الروح القدس مُدرَكاً (بوجود قديسين ومعجزات) هناك تكون كنيسة الله ونعمته”.

5. خلاصة

1) توجد الأرثوذكسية، فقط حيث تكون طريقة الإيمان الكامل معروفة ومُطَبَّقة. حيث تكون طريق التألّه مجهولة، حتى ولو كانت الأرض مسماةً أرثوذكسية، هناك يكون السلوك بطريقة هرطوقية وبالتالي غير أرثوذكسية. الهرطقة، كطريقة وجود هرطوقية، لا تعي خبرة التألّه. بالمقابل، إنها تحوّل الإيمان ديناً بسعيها لردم المسافة بين الله والإنسان بوسائل العبادة الدينية الخارجية. إن تديين (جعله ديناً) الإيمان يدحضه، كما يفعل تحويل الدين إلى إيديولوجيا. يمارس الهراطقة اللاهوت فكرياً، أكاديمياً، ويعجزون عن التمييز بين الحق والخطأ. لهذا، الأرثوذكسي هو ذاك الذي لا يصيغ رؤى هرطوقية، بل الذي يطهّر نفسه لكي يبلغ إلى الاستنارة الروحية المقدسة. بحسب القديس غريغوريوس النيصّي، يظهر الهراطقة عندما يختفي المستنيرون.

2) كان ممكناً أن يكتسب الحوار اللاهوتي معنى ما لو أنّه، في سعيه إلى الحلول، عالج هذه القضايا بدل التسويات العلمية.

3) التصدي للهرطقة لا يكون بالعنف ولا بالوسائل القانونية أو البوليسية، بل باختبار التألّه. حيث تكون هذه الخبرة موجودة هناك تكون الكنيسة. للأسف، في المجتمعات المسيحية المعاصرة، السعي إلى النعمة يتلاشى، ووحدها الرهبنة هي المجال الذي يُحفَظ فيه هذا السعي إلى الإيمان الكامل. لهذا تُعتَبَر الرهبنة وحدها الاستمرار للروحانية الرسولية-الآبائية.

4) السعي إلى الإيمان الكامل هو معيار أصالة البشارة الكنسية؛ إذ في ما يتعلّق بالشأن البشاري، تُطرَح بعض الأسئلة الأساسية: ما معنى كلمة “بشارة”؟ ما الذي يُبَشَّر به؟ إلى أين يُدعى غير المسيحيين؟ إلى أي كنيسة؟ أي مسيح؟ أهم يُدعَون ليخلصوا، أو فقط ليصيروا أتباعاً لبعض الدوائر السلطوية؟

5) لا تخشى الأرثوذكسية من الاضطهادات، بل فقط من الهرطقة، لأن الهرطقة وحدها هي القادرة على إيذاء الإيمان دائماً.

الأرثوذكسية، كإيمان مستقيم، تَلِد القديسين وبهذا تبقى في العالم مكاناً للتقديس والقداسة.

Leave a comment