في الانتظار حتى النور!

في الانتظار حتى النور!

الأرشمندريت توما بيطار

يا إخوة، يوم صعد الربّ يسوع إلى أورشليم كان عارفاً بمَن سيلتقيه وبِمَ سيفعله. الربّ يسوع يرى مَن لا يراه أحد ويقصد مَن لا يقصده أحد ويهتمّ بمَن لا يهتمّ به أحد. كل منّا، في الحقيقة، في موقع مَن ينتظر مجيء الربّ يسوع المسيح إليه. كثيرون يشعرون بأنّهم مرميّون، متروكون في هذه الدنيا وليس مَن يسأل عنهم. الناس هم الذين لا يسألون عن الناس، أما الربّ يسوع فيسأل عن الجميع ويفتقد كل أحد.

المخلّع، اليوم، انتظر طويلاً: ثمان وثلاثين سنة. استمرّ في المجيء إلى بركة بيت حسدا ولم ييأس. لا ييأسنّ أحد من رحمة الله مهما كان حمله ثقيلاً. الأمور، عند ربّنا، لها أوقاتها. تجري في أوانها. الله سيّد الأوقات لأنّه عارف بكل شيء. رُبّ سيّدة عملت الكثير وقصدت الأطباء وبذلت كل الجهد لتحبل وتُنجب ولداً تفرح به مع زوجها فلم تنجب. قد يسبِّب لها هذا الأمر حزناً عميقاً. المهم ألا تيأس. هذا لا يعني أن تستمر في المحاولة، بشرياً، مهما واجهت من خيبات. هذا معناه أن تلقي رجاءها على الربّ الإله. قد يعطينا ربُّنا، أحياناً، ما نشتهيه وقد لا يعطينا. ليس كل ما يتمنّاه المرء خيراً له. لذا نطلب ونجعل القول في قلوبنا، في آن: “لتكن مشيئتك!” نُسلم أنفسنا للربّ الإله بالكامل. نكون على ثقة بأنّه ولو لم يعطنا بغية قلبنا فسيعطينا حياة جديدة. الحياة الجديدة هي التي تتفجّر من حشا الله، المخصب دائماً. الحياة الجديدة هي التي لا تعرف الموت. الحياة الجديدة هي التي تمدّ لنا حياة الله. إذاً يعطينا الله أكثر وأعظم بما لا يقاس مما نطلب وما نشتهي. ولأنّ ذهننا غير معتاد تعاطي الإلهيّات نلقانا، أحياناً كثيرة، نلتمس لديه أموراً سمجة، كأن ننجح في أشغالنا وأن يُزاد معاشنا وأن نربح أكثر. ولكن متى أخذنا نتعلّم كيف نضع أنفسنا بين يديه، حين نتروّض على السلوك وفق الوصيّة الإلهية، حين نُسلمه حياتنا بالكامل، إذ ذاك يشرع تفكيرنا في التغيُّر.

لا يردّ ربّنا طالباً يُقبل إليه. ليس أنّه يعطينا، بالضرورة، ما نريد، كما قلنا، بل يحوِّل الطلب إلى طلب من نوع آخر. مثلاً “اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي الذي يعطيكموه ابن البشر”. لا بأس أن نطلب. الإنسان يعرف الله، أولاً، من خلال حاجاته. لكن الأهم، متى نمونا، هو أن نطلب ما جاء الربّ الإله، أصلاً، ليعطينا إيّاه. ما له علاقة بحاجات هذا الدهر يُعطى لنا ويُزاد من دون طلب. ما علينا أن نطلبه، في الحقيقة، هو الملكوت. هو جاء ليعطينا ذاته لأنّه محبّة. “خذوا كلوا هذا هو جسدي…”. ربّنا بائع يتعاطى تجارة التقوى. يعطينا نفسه الملكوت مجاناً. المهم أن نطلب، أن نريد. المهم أن نعبِّر عن إرادتنا ولو بالقليل القليل. مادياً ليس أرخص من ملكوت السموات. كل إنسان، مهما كان وضعه المادي، قادر أن يقتني الكثير الكثير بالقليل القليل، قادر أن يقتني الملكوت، بفلسين كالأرملة، بشربة ماء. هذه تجارة القلب، تجارة الحبّ، تجارة التقوى. هذه هي التجارة الحقّ التي يحقّق فيها المرء أعظم الأرباح.

الشرط الأساسي في تعاطي هذه التجارة أن يتخطّى كل إنسان نفسه، أن يتّكل على الله، أن يتعلّم كيف ينتظر خلاص الله. هذا آت لا محالة. أنت، ما مشكلتك؟ أهي أنّه لا أحد يبالي بك ولا أحد يفهمك؟ ربّنا يفهمك ويبالي بك! فقط عليك أن تبقى قريباً من بِركة بيت حسدا. “بيت حسدا” معناه بيت المياه الفائضة. لا تنسَ قول السيّد: “إن عطش أحد فليُقبل إليّ ويشرب. مَن آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو 7: 37 – 39). لتكن عينك، إذاً، على سيّد البِركة حتى تلقى عينَ سيّد البِركة عليك. أنت مهمّ جداً في عين الله. لولا ذلك لما تجسّد كلمة الله. أنت تتعب لتتشبّه بمَن هم أعظم منك. مَن منا يتعب تشبّهاً بالناس الأقل منه؟ هل يفكّر أحد بأن يتشبّه ببائع العلكة أو الشحّاذ؟ لكن ربّنا أخذ صورة مَن هم أقل منه بما لا يقاس. أراد أن يأخذ صورة الفقير لأنّه أحبّه ورآه وجاء ليقول له: ولو تخلّى العالم كلّه عنك فأنا لا أتخلّى! ربّنا جاء من أجل الجميع. اتّخذ موقعاً دون الجميع. صار عبداً للجميع لكي لا يبقى أحد متروكاً! جاء، بصورة خاصة، من أجل البشر المتعَبين، المثقلين بالخطايا. المجرم، في هذا العالم، لا يعود له نصيب فيه، لذلك يودعونه السجن أو يحكمون بقتله. هذا يحبّه ربّنا محبّة أكبر من ذوي الأخلاق الحميدة لأنّه مهجور، متروك، مَرمي في الدنيا كخروف معيوب يريد الناس أن يذبحوه ويتخلّصوا منه. ربّنا دائماً يفكّر بطريقة مختلفة ويتصرّف، حيالنا، بطريقة مختلفة. كلّما رأى الواحد نفسه مُهمَلاً، متروكاً، كلّما اقترب منه ربّنا أكثر. فقط عليه أن يدير عقله قليلاً فيعرف أنّ نصيبه الله. “أبي وأمّي هجراني، أما الربّ فإليه أخذني”. هذا ما يقوله مرنّم المزامير.

بيننا وبين الله قصّة حبّ هو المبادر فيها. لها بداية وليست لها نهاية. مَن لا يقرب الله كحبيب إنما يبحث عن الظلال في هذه الدنيا. هذه الدنيا تشير إلى الله، لكنّها من دونه سراب. ليس فيها ما يُشبع. بعد حياة سمجة تأتي ميتة سمجة. الإنسان، في الدنيا، أرنب رُبطت جزرة الحياة أمام عينيه، يركض وتركض أمامه ولا يدركها حتى الموت. إذا ظنّ أحد أنّه سيكتشف بعد عشر سنوات أنّ هناك شيئاً في الدنيا فإنّ العكس هو ما سيحدث. سيكتشف أنّه ليس هناك شيء. ظلال في ظلال! باطل الأباطيل! علامة الموت مرسومة على كل شيء. ليست هناك حياة إلاّ الربّ يسوع. وحده الحياة. وحده الحبّ. وحده القصّة التي وُلد الإنسان من أجلها. قبل أن تخرج يا إنسان من الدنيا لك أن تعرف مسيحك الذي له كل شيء وإلاّ اكتنفك اللامعنى. تسأل وتتحسّر ولا مَن يجيبك!

انتظر المخلّع ثمان وثلاثين سنة. هذا العدد يشير إلى العبور. ثمّ عبر، بالوعد، إلى البرء، إلى الحياة الجديدة. كان مخلّع الجسد والنفس فاستقام. كل منا يبقيه الربّ ثمانية وثلاثين عاماً في الانتظار ثمّ يأتي إليه. البَرَكة التي نالها المخلّع ليس أنّه شُفي في الجسد وحسب بل، بالأولى، أنّه لقي المعلّم. لذا الأهم أن نثبت في الانتظار على الرجاء لا من أجل شيء في هذه الدنيا الباطلة بل من أجل أن نتمسّح بطلعته متى أتانا، وهو آت! المهم أن نثبت في الإيمان بيسوع. المهم أن نسعى إلى النهوض كلّما سقطنا. المهم أن نهتمّ بحفظ الوصيّة. المهم أن يستمر المسير إلى وجه يسوع. المهم أن نبقى في حدود بيت حسدا الوصيّة والحضرة الإلهية لأنّه إلى هناك سيأتي لا محالة بعدما أتى إلى ذاك المخلّع مرة. نحن أيضاً في تخلّع الخطيئة. كل يوم نكتشف أننا لا ننفع ولا شيء من حولنا ينفع. ولكن يا للمفارقة! كلّما اكتشفنا، في أعماقنا، أننا غرباء عنه كلّما دنا منا أكثر. كلّما استبان لناظرينا أنّنا لا نستأهل يسوع كلّما أهّلنا له بالأكثر. “اخرج يا ربّ من سفينتي لأنّي رجل خاطئ”. “من الآن تصير صيّاداً للناس”، تصير تلميذاً، تصير معلّماً تعلِّم الناس كيف، بإفراغ ذواتهم، بتواضع قلوبهم، يستدعونني وأنا آتي إليهم لأملأهم، لأجعلهم لي تلاميذ.

هكذا ارتضى الربّ الإله أن يستودع نعمته آنية خزفية. هو جاء من أجل الخطأة لا من أجل الصدّيقين لأنّه ليس صدّيق. الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. متى بلغ البشر حدّ اليأس من ذواتهم وارتحلت أفئدتهم إليه، إلى يسوع، طالعهم بكل الحنان في جوف الله. “تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أُريحكم!”

الوعد أنّ نور المسيح انفجر وهو يضيء للجميع. لم يعد للظلمة مطرح. المهم أنّكم إن سمعتم اليوم صوته فلا تقسّوا قلوبكم!

عظة أُلقيت في أحد المخلّع 22 أيّار 2005

Leave a comment