حبّة الخردل والميلاد

حبّة الخردل والميلاد

الأرشمندريت توما بيطار

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

يا إخوة، هذا الإنجيل عينُه قرأناه منذ فترة وقلنا يومَها إنّ حبّة الخردل التي يُشبَّه بها ملكوت السماوات هي كلمةُ الله التي تبدأ دائماً عاديّة هزيلة ثمّ تنمو إلى أن تصبح شجرة عظيمة في حياة كل منا وفي حياة العالم. واليوم إذ تجعل الكنيسة المقدّسة هذا الإنجيل في السبت الواقع قبل الميلاد المجيد، لا يَسَعنا سوى أن نرى في حبّة الخردل هذه كلمةَ الله الذي هو الربّ يسوع المسيح بالذات. نحن عندما نتكلّم على ملكوت السماوات، إنما نتكلّم، في الحقيقة، على المَلِك عينه. لأنّه، في الربّ يسوع، المَلِك هو الملكوت. لا مسافة بين الاثنين. وحين نقول عن ملكوت السماوات إنّه في داخلنا، فهذا يعني أنّ الله يقيم فينا. يسكن فينا بمثابة هيكل له. كذلك عندما نتكلّم على الله هنا، إنما نقصد، في آن، الآبَ والابن والروح القدس. لأنّ الآب يأتينا دائماً بالابن في الروح القدس. ولا يمكن إطلاقاً فَصْل أقنوم عن بقية الأقنومَين في الثالوث في تعاطي الله معنا في كل حال. فقط نميِّز بين الأقانيم.

حبّة الخردل، إذاً، هي أدنى ما يكون إلى الإيقونة، إيقونة الربّ يسوع المسيح. الربّ يسوع المسيح، ابن الله المتجسّد، ارتضى أن يحلّ بيننا كحبّة خردل، كطفل، عُرْضة للتأثُّر بكل الظروف المحيطة به. نحن عندما نتكلّم على الربّ يسوع المسيح طفلاً، نقصد الطفولة بكل ما في الكلمة من معنى. لا يتصوَّرنّ أحد أنّ الربّ يسوع كان بمنأى عمّا يعبر به الطفل في طفولته. بلى، الربّ يسوع المسيح طفلاً كان ضعيفاً إلى أبعد حدود الضعف. وبلى أيضاً، كان عرضةً للأمراض والأوجاع. وكان، بطبيعة الحال، يتأثّر بكل الجوّ الذي كان فيه، بالدفء والبرودة، بالأصوات العالية والأصوات المنخفضة. طفولته كانت طفولة بشريّة بكل معنى الكلمة. وكان عرضةً أيضاً للأخطار. حرارة بدنه، أحياناً، كانت ترتفع وكان يعاني كما يعاني الأطفال الصغار في ذلك الزمان. لا يَحْسبنَّ أحدٌ أنّ الربّ يسوع مَرَّ بالطفولة مرور الكرام دون أن يكابد ما يكابده الأطفال. نحن نعرف أنّ الربّ يسوع كان بمنأى عن الخطيئة وعن الأهواء التي تُولّد الخطيئة، ولكنّه لم يكن بمنأى، أبداً، عن الأوهان والضعفات. بهذا المعنى، إذاً، الله ارتضى أن يكون بين الناس أصغر صغيراً كحبّة الخردل، حتى إنّ العالم لم يلاحظه ولا لاحظ، بالضرورة، في سنواته الأولى، ما يشير إلى كونه ابنَ الله. ما نعرفه من الكتاب المقدّس أنّ مريم وحدها كانت تعرف وكانت تلاحظ وكانت تحفظ كلّ ما تراه وتسمعه في قلبها. فيما عدا ذلك، الربّ يسوع كان طفلاً كبقية الأطفال. ولعله كان يلعب، أيضاً، كبقية الأطفال، هنا وهناك. كل هذا ليس فيه حَطٌّ من كرامة ألوهة الربّ يسوع. بالعكس، هذا إثبات لألوهة الربّ يسوع الذي ارتضى أن يتّخذنا في ضعفنا إلى المنتهى. وكما قلنا، هو لم يتّخذ خطيئتنا، اتّخذ كلّ معاناتنا الناتجة عن الخطيئة الأصلية. إذاً، كان كحبّة الخردل بمعنى الكلمة. طبعاً لم يكن بإمكان أحد أو شيء أن يقوى على الربّ يسوع طفلاً. لهذا نرى ملاك الربّ يأتي في الحلم حافظاً منبِّهاً. ملاك الربّ كان هو مَن ساهَم في حفظ الربّ يسوع المسيح طفلاً. ولنفهم أنّ الربّ يسوع لم يكن ليتبنّى ضعفنا لو لم يكن قد ارتضى أن يكون مَرْمياً وسط ضعفات الناس، وإلا ما كانت هناك حاجة إلى ملاك يأتي لينبِّه يوسف ومريم إلى الأخطار المُحدقة. لهذا، خبرة الربّ يسوع، في الحقيقة، هي خبرة بشريّة بكل معنى الكلمة.

وحبّة الخردل أُلقيَت في البستان. الربّ يسوع المسيح أُلقي في حديقة هذا العالم. كان حبّة بين الحبّات التي عَشِقَتْ التربة وتفاعلتْ معها وفعلت فيها. تأثَّرت بها وأَثَّرت فيها، فنَمَتْ وصارت شجرة عظيمة واستظلّت طيور السماء في أغصانها. قِوى السماء كلّها انحدرت إلى الأرض لتستظلّ بظلّ الربّ يسوع المسيح سيّدها الذي اتّخذ، بصورة عجيبة، صورة عبد صائراً في شبه الناس. لا شكّ أننا، بإزاء ما فعله الربّ يسوع، نقف في دَهَش. كيف يمكن للإنسان أن يُطالِع سيّده، مَن أَبدعه وأَبدع الخليقة كلّها، وقد اقتبل الضعفَ البشري إلى منتهاه. لهذا، الفهم عندنا مقترن دائماً بالدهَش. كلّما عرفنا الربّ يسوع المسيح أكثر، كلّما وقفنا بإزائه مدهوشين من سرّ تدبيره العظيم ومحبّته الفائقة.

هذه الشجرة العظيمة التي صار إليها الربّ يسوع، شجرة الحياة، هي الكنيسة المقدّسة. آباؤنا عندما يتكلّمون على الكنيسة، يتكلّمون عليها باعتبارها المسيح بالذات ممدوداً في التاريخ، ممدوداً للبشريّة. لهذا السبب قيل عن الكنيسة إنّها جسد المسيح وهو رأسها. نحن ليس بإمكاننا أن نتصوّر جسداً من دون رأس. لا بل الموضوع هو موضوع الرأس ممتدّاً في جسده الذي أُعطينا نحن أن نصير إيّاه وأن نكون فيه. هذه الشجرة العظيمة هي شجرة الحياة الفردوسية، والربّ يسوع قال عن نفسه إنّه هو الحياة. إذاً هو هذه الشجرة، وإيّاها يعطينا: “خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يُكسَر من أجلكم”. لاحِظوا، يعطينا حياته في جسد مكسور. لهذا، عندما نتكلّم على شجرة الحياة العظيمة، نتكلّم، في آن، على الصليب. الشجرة كالصليب، لا يمكن فصلهما الواحدة عن الآخر. لهذا، إذ اتّخذ الربّ يسوع أوهاننا منذ اللحظة التي حُبِل فيه في البطن، منذ تلك اللحظة والربّ يسوع، المتّخذُ أوهانَنا، مصلوبٌ على ضعفات الناس. متَّخذٌ لهذه الضعفات في نفسه. وهذا هو معنى المصلوبيّة في الحقيقة. الموضوع هو موضوع الصليب الكياني الذي اتّخذه الربّ يسوع. نحن في إيقونة الميلاد نُطالع الربّ يسوع موضوعاً في المذود وكأنّه في قبر وهو ملفوف بالأكفان. هذا ليس فقط للإشارة إلى ما كان الربّ يسوع المسيح مزمِعاً أن يقتبله في الصلب. هذا لا يشير فقط إلى ما حَدَث بعد ذلك على الصليب، بل يشير، في الحقيقة، إلى هذا الصليب الكياني الذي اقتبله الربّ يسوع منذ اللحظة التي اتّخذنا فيها.

الشجرة العظيمة، إذاً، هي المسيح مصلوباً في الجسد مرّة وإلى الأبد. طالما اتّخذ بشرتنا فقد اتّخذها إلى الأبد، وطالما اتّخذ بشرتنا اتّخذها كصليب، ولكنْ كصليب أَفرَع حياة جديدة كما أَفرعَتْ عصا هرون قديماً وأعطت لوزاً. أزاهير اللوز تملأ اليوم الدنيا بهاء، واللوز يطلّ علينا دائماً في مطلع الربيع. هو الربيع في الحقيقة. بعد أن تكون برودة ورَطَب الشتاء قد استبدّا بالطبيعة، يأتي الربيع أزاهير لوز. هكذا بعدما كان الرَطب والبرد قد استبدّا بالبشريّة طويلاً وطال شتاؤها، نزلت حبّة الخردل واندفنَتْ في تراب البشريّة وماتت في ضعفات الناس. لكنّ الحياة كانت فيها لأن هذا الذي اقتبل ضعفاتنا هو الحياة عينها.

إذ نحن مَطِلّون على السيّد، اليوم، في هذا الميلاد المجيد، نقف بإزائه في صمت، في دَهَش. ألا أعطانا أن نقف، في عمق القلب، وِقفَة اتضاع، وِقفة سكون، حتى تعود إلينا طفولةُ القلب. إذ ذاك نصرخ عن حقّ مع الصارخين: “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة”. آمين.

عظة أُلقيت في دير مار يوحنا – دوما، السبت قبل ميلاد الربّ يسوع المسيح، 24 / 12 / 2005

Leave a comment