العِبرة في العمل

العِبرة في العمل

الأرشمندريت توما بيطار

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

يا إخوة، العِبرة في الحياة المسيحية هي في العمل. لهذا السبب يقيم الربّ الإله، في هذه التلاوة الإنجيلية، مقارنة بين مَن يسمع ويعمل ومَن يسمع ولا يعمل. كلاهما يسمع. الكلمة تصل إلى الأكثرين. قد لا يصل الكثير، ولكن ما يصل كافٍ ليتمِّم الإنسانُ، إن أراد، عملَ الله. كثيرٌ من آبائنا كان لا يعرف القراءة والكتابة وكان لا يعرف الكثير، وأحياناً كان يعرف أقلّ من القليل. ما كان يعرفه كان يعرفه سماعاً. ولكن كانت الكلمة التي يسمعها دستورَ إيمان يسلك فيه بالكامل. هذا كان كافياً لتقديس الإنسان. لا يحتاج الإنسان، بالضرورة، لأن يدخل من الباب الواسع، من باب المعرفة الواسع. أحياناً يدخل من الباب الضيّق. من ثقب الإبرة أحياناً يصله نور الله. ونور الله متى بلغ نفْساً، ولو بكلمة من كلمات الكتاب المقدّس، انبَثَّ فيها ونما وزاد حتى ملأ النفس كلّها. القدّيسة مريم المصرية لم تكن تعرف الكثير، ولكنْ قلبها تحرَّك. والربّ الإله ينظر إلى القلب. إذ ذاك بكلمة يلتقطها الإنسان هنا أو هناك، يمكنه، كمريم المصرية، أن يَخلص.

ما نعرفه أكثر من كافٍ لخلاصنا. لا يظنَّنّ أحدٌ أنّه لا يعرف ولهذا السبب لا يعمل. لو بدأنا بتطبيق ما نعرف، لاستنارت نفوسنا واندفعنا إلى طلب المزيد ولعَرفنا الربّ الإله معرفةً جيدة. لذلك لا عذر لنا في كل حال. العِبرة، إذاً، هي في العمل. مَن يسمع ويعمل، هذا يُشبَّه برجل حكيم. ومَن يسمع ولا يعمل يُشبّه برجل جاهل. لاحظوا هذه المقارنة. في مقابل الرجل الحكيم هناك رجل غير حكيم، أي هناك رجل غبي. وفي مقابل الرجل الجاهل هناك رجل عارف. الرجل العارف هو الرجل الحكيم، والرجل الجاهل هو الرجل الغبي. المعرفة الحقّ هي في اقتناء الحكمة الإلهية. والجهل هو في أن يسلك الإنسان في غباء، يتعلّم الكثير ولا يعمل شيئاً، لذلك يكون غبياً. ثمّ، في هذه الحالة وتلك، لا بدّ من التجارب. نزل المطر وجرت الأنهار وهبَّتْ الرياح. التجارب هي التي تكشف حقيقة الإنسان. طالما ليست هناك تجربة فالإنسان الغبي قد يبدو حكيماً، والإنسان الحكيم قد يبدو جاهلاً. ولكنْ متى حلّتْ التجربة، متى حلّتْ الآلام، متى حلّتْ الضيقات، إذ ذاك يُمحَّص الإنسان، يُعرف على حقيقته.

من هنا أنّ علينا، منذ البداية، أن نبني بيتنا، أن نبني حياتنا، على صخرة الحكمة، على صخرة المعرفة، على صخرة التوبة، على صخرة المحبّة، على صخرة التواضع، على صخرة الفضائل الإنجيلية. لا يليق بالرجل الحكيم ولا مجال له أن يهتمّ ببناء بيته على الصخر في وقت التجربة. نوح، في الزمان القديم، بنى الفُلك قبل أن تقع الأعاصير بزمن طويل. كل واحد منا يُعِدُّ نفسه دائماً للتجارب. هناك تجارب ربما لم نختبرها بعد، ولكن اختَبَرها غيرنا. والربّ الإله ترك لنا أمثلة عديدة. نحن نتعلّم من الذين سبقونا. نتعلّم أنّه لا بدّ من التجارب. ونتعلّم، أيضاً، أن نُعِدّ أنفسنا للتجارب. الجيوش تُصنَع في أوقات السِّلْم لا في أوقات الحرب. لأنّه متى حلّتِ الحرب يكون الأوان قد فات. وهذه هي الحكمة. الحكمة أن نسلك في الوصيّة كل يوم. والتجربة لا بدّ أن تأتي غداً أو بعد غد أو الأسبوع المقبل أو الشهر المقبل أو السنة المقبلة. لا بدّ لنا أن نجرَّب بأمراض وبضيقات وبحروب. ولكنْ إذا كنّا نسلك كل يوم بأمانة من نحو الله، إذا كنّا نسلك بإيمان حقّ، فإننا نتروّض على الاتكال على الله، نتروّض على الصبر، نتروّض على الاتضاع، نتروّض على الانتظار، نتروّض على محبّة الآخرين، نتروّض على المغفرة. وهذا أساسي لكي يتمكّن كل واحد منا من أن يواجه صعوبات الحياة وينتصر. الغلبة هي إيماننا. والإيمان هو فعل حياة نسلك فيه كل يوم. نتصرف، كلّ يوم، باعتبار أنّ المسيح هو حياتنا. نعمل كل شيء طاعة للمسيح، ونتّكل في كل شيء على المسيح. هذا يتطلّب بذلاً وتضحية. إذا كنّا، مثلاً، نريد أن نصلّي، فلا بدّ لنا من أن نتعب، قليلاً أو كثيراً، حتى نقتني عادة الصلاة. ولكنْ هذا التعب يكون له مردود جيد جداً. الإنسان الذي تداهمه التجربة، إذا لم يكن قد اقتنى عادة الصلاة، فإنّه سيصعب عليه أن يصلّي. لن يكون سهلاً عليه أبداً أن يصلّي. صلاته قد تكون ظرفية وليست من الأعماق. والصلاة التي يؤدّيها الواحد لمنفعة شخصية، قلّما تبلغ أذني الربّ الإله. الله لا يصغي للنفعيّين، للمُستغلّين. وهو قال في العهد القديم: لأنّكم لم تسمعوا لي، متى حلّتْ بكم المصائب أَسُدُّ أذنيّ عنكم حتى لا أسمعكم. لهذا علينا نحن، كنوح، أن نبني سفينتنا، أي أن نبني خلاصنا، كل يوم في زمن السِّلْم. وإلاّ، متى حلّتْ العاصفة، متى حلّتْ التجربة، فإنّها ستجرفنا فنتعرَّض لهلاك شِبه أكيد. طبعاً هناك ناس يتّضعون من كل القلب في أوقات الأزمات، هؤلاء يسمع لهم الله. ولكنْ أكثر الناس الذين لم يتروّضوا على الاتضاع ولم يتروّضوا على الصبر ولم يتروّضوا على الصلاة وعلى الصوم وعلى محبّة الله وعلى السلوك بأمانة من جهة الله، هؤلاء يخبطون خبط عشواء متى حلّتْ بهم التجارب ومصائب العمر والآلام والأمراض ودنتْ منهم ساعة الموت. بهذا المعنى يكون الإنسان الذي لا يُعِدّ نفسه لهذه التجارب إنساناً غبياً. ليس بإمكاننا أن نقول إنّه لا يعرف، لأنّه يعرف جيّداً. مَن منا لا يعرف أنّه سيموت؟ مَن منا لا يعرف أنّه سيمرض؟ مَن منا لا يعرف أنّه سيتوجّع؟ المعرفة موجودة لدى الجميع. ولكنْ نتصرّف دائماً وكأن كل هذه التجارب وكل هذه العواصف يمكن أن تصيب غيرنا ولا تصيبنا نحن. وهنا الغباء. الإنسان الحكيم هو الذي يعرف أنّ ساعة الموت قد تأتي في أيّ لحظة. الإنسان الحكيم هو الذي يعرف أنّ الصحّة لا تدوم. الإنسان الحكيم هو الذي يعرف أنّ أمور الحياة اليومية تتغيّر. نحن، مثلاً، في الوضع الذي نحن فيه في هذا البلد، نتعرّض لعاصفة هوجاء. ولكنْ هل نحن فعلاً، مستعدّون لأن نصبر بإزاء هذه العاصفة؟ هل نحن مهيّأون؟ هل تعبنا على أنفسنا لنواجه التجارب التي يواجهها الوطن برباطة جأش وبثقة بالله وبأمانة لله؟ أم إنّنا مستعدّون ساعةَ تشتدّ الأمور أن نحزم أمتعتنا ونرحل؟ أكثر الناس في حالة هروب. لا يريدون أن يواجهوا تجارب العمر وتجارب الحياة وآلام الحياة. ولكنْ إلى أين الهروب؟ إذا هربنا من هنا، سوف نواجه التجارب هناك، في المكان الذي نذهب إليه. مَن منا يمكنه أن يهرب من المرض أو من الوجع أو أحياناً من الضيق، من الفقر؟ كل شيء لنا عرضة لأن يتغيّر. نحن نعلم أنّ هناك أغنياء كثيرين افتقروا، وأنّ هناك كثيرين بين ليلة وضحاها ماتوا. إذاً، لنكنْ حكماء، عقلاء. ولنحسَب حساباً مُسبقاً لكل ما يمكن أن يأتي علينا. الإنسان الذي لا يواجه التجربة في الموقع الذي هو فيه، لا يمكنه أن يواجه التجربة في مكان آخر. آباؤنا كانوا دائماً يصرّون على أنّه علينا أن نواجه أيّ تجربة باسم المسيح وننتصر،، بصبرنا، بتواضعنا، بمحبّتنا لله، باتكالنا عليه، وإلاّ نصبح كقايين نهرب من مكان إلى آخر حاملين لعنة غبائنا وجهلنا ورفضنا لله. هذه لعنة، أن لا يكون الإنسان مستعداً دائماً لأن يجعل من المسيح صخرة لحياته، لأن يجعل من الإيمان بالمسيح دستوراً لحياته. الله يريد لنا الخلاص دائماً. هو دائماً مستعدّ. المشكلة ليست أبداً في الله. الله كريم جوّاد، وهو يعطينا الفُرص، الواحدة تلو الأخرى، حتى نتوب، حتى نسمع، حتى نصير حكماء، حتى نتعلّم الصبر، حتى نتعلّم الطاعة، حتى نتعلّم التواضع، حتى نحبّ، حتى نخرج من أنانياتنا، حتى نتعلّم البذل والتضحية. يعطينا الربّ الإله ما يكفي من الفرص. وما ورد في نهاية إنجيل اليوم يدلّ بوضوح على أنّ الربّ الإله يشاء لنا دائماً أن نكون طاهرين أمامه. الله دائماً مستعدّ ولكنْ نحن غير مستعدّين. في أكثر الأحيان نحن غير مستعدّين. الله يمدّ نفسه لنا ونحن نمدّ أنفسنا عنه. نبتعد عنه. لماذا؟ لأنّ السلوك مع الله يُتعب قليلاً. لا بدّ من شيء من التضحية. لا يمكن الإنسان أن يصلّي إنْ لم يُضحِّ قليلاً، ولكنْ هذا التعب القليل يعطي ثماراً عظيمة. أيّ فلاّح يمكنه أن يحصد إنْ لم يزرع؟ لماذا نحن نصرّ على الغباء وعلى الجهل ولا نريد أن نزرع في حقل الربّ؟ لماذا لا نريد أن نزرع أمانة في تعاملنا مع الله؟ أهذه لا تعطي نتيجة؟ لا بل هذه وحدها هي التي تعطي نتيجة في كل الأحوال. الإنسان الذي يسلك في أمانة مع الله، الله يعطيه مئة ضعف في هذا الجيل، وفي الجيل الآتي يعطيه حياة أبدية. وهو قال بوضوح: أنتم اطلبوا أولاً ملكوت السموات وبرّه وكلّ شيء آخر يُزاد لكم، يعطى لكم. لسنا بحاجة لأن نسأل من الله أن يعطينا طعاماً أو شراباً أو صحّة أو أي شيء آخر، هو يعرف حاجاتنا. فقط علينا أن نطلب الخلاص. فقط علينا أن نطلب أن نكون أمناء له، أن نتوب إليه، أن نحبّه. ثمّ، في وقت الشدّة، يلتفت إلينا ويعطينا كل ما نحتاج إليه، ولا يحبس عنا شيئاً إطلاقاً مما نحتاج إليه.

هذا الأبرص جاء وسجد ليسوع وقال: يا ربّ، إنْ شئتَ أنتَ فأنتَ قادر أن تطهِّرني. فمدّ يسوع يده ولمسه وقال: قد شئتُ فاطهُرْ. وللوقت طهر من برصه. نحن يكفينا أن نتمِّم مشيئة الله في كل الأحوال. وإذا تمّمْنا مشيئة الله، إذا سلكنا في وصاياه بأمانة وأسلمناه أنفسنا، فإنّه يعيننا بالضبط في اللحظة التي نحتاج فيها إلى معونة. إذ ذاك يكون فرحنا عظيماً جداً. أما إذا أهملنا كل ذلك واعتبرنا أنّنا نتمتّع الآن بصحّة جيّدة فهذه الصحّة سوف تدوم غداً وبعد غد، وإذا اعتبرنا أنّ عندنا مالاً اليوم وهذا المال سيكون متوفّراً لنا غداً أو بعد غد، فإنّنا نبني حياتنا على الرمل. ولا بدّ للعواصف أن تأتي والتجارب أن تأتي، وإذ ذاك كل ما وضعنا ثقتنا عليه، في هذا الدهر، يذهب أدراج الرياح. وإلى ذلك نضيّع أنفسنا، نهلك، ولا يكون لنا نصيب مع الله. نخسر الدنيا ونخسر الآخرة. في الوقت الذي إذا ما كنّا فيه لنسلك بأمانة من نحو الله، فإنّنا نربح الدنيا ونربح الآخرة، والله يكون معنا اليوم وغداً وإلى الأبد.

فمَن له أذنان للسمع فليسمع.

عظة في السبت الثالث بعد العنصرة ،16 / 6 / 2007 ، الإنجيل: مت 7: 24 – 29؛ 8: 1 – 4

Leave a comment