الراعي الصالح

الراعي الصالح

الأرشمندريت توما بيطار

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

ليس صالح إلاّ الله. الله وحده هو الصالح بامتياز. لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنّه صالح. لذلك، إذا كان قدّيسو الله رعاةً صالحين، فهذا معناه أنّهم يعكسون وجه الآب السماوي. الرعاة في كنيسة المسيح هم إيقونات لله. ينظر إليهم الناظرون فيرَون الله نفسه. الرعاة لهم نموذج يتّبعونه. المعلّم يبذل نفسه عن الخراف، وهم يبذلون أنفسهم عن الخراف. المعلّم يشهد في كل حين لأبيه السماوي، والرعاة يشهدون ليسوع في كل حين. لهذا السبب، يا إخوة، نقرأ في كل عيد لأحد الرعاة في كنيسة المسيح، نقرأ هذا الإنجيل الذي تُلي، منذ قليل، على مسامعكم (يو 10: 9 – 16). الربّ هو الباب، هو باب ماذا؟ الربّ هو باب الآب السماوي. لا أحد يدخل إلى الآب السماوي إلاّ بالربّ يسوع. والربّ يسوع أيضاً باب الملكوت. فقط به يدخل أحدٌ إلى الملكوت. عندنا لا مسافة بين المَلك السماوي والملكوت السماوي. الملكوت هو المَلك. هذا لأنّ الله محبّة. الإنسان المؤمن يريد أن يستوطن، في الروح، قلب الله. الإنسان يخرج من الإنسان. والإنسان أصلاً مَسكن للإنسان. نحن نسكن في الحشا، نأتي من الحشا. وكما نأتي من الحشا، نشتاق إلى الحشا الإلهي. نشتاق لأن نقيم في رحم الله.

لذلك، الراعي الصالح، أولاً وأخيراً، هو الذي يستوعب المؤمنين في نفسه. يستوعبهم لا بقوّته، يستوعبهم بقوّة الله. يقيمون في قلبه. لذلك، الراعي الصالح هو صورة الآب السماوي. ليس هناك راع صالح إلاّ ويكون الجميع حاضرين في نفسه. لا يحتاج لأن يكون الآخرون حاضرين لديه مادياً. طبعاً هذا ليس في طاقة الإنسان. ولكن بالحبّ، كلّما نظَر الراعي أحدَ خرافه عرَفَه أنّه للمسيح. إذاً هو له. علاقته به علاقة تَبَنٍّ كامل، عَرفَه شخصياً أم لم يعرفه. طالما يسوع معنا وفيما بيننا، كل إنسان يخصّنا.

من هنا أنّ الراعي الصالح له من سِعة الصدر، من سعة الروح، ما لا يوصف. هو من السِعة بحيث يَسَعُ العالم كله. الروح القدس فيه يجعله على هذه الرحابة. المحبّة، في نهاية المطاف، هي نَفَس إلهي منبثّ في كيان الإنسان. لذلك، همّنا، أولاً وأخيراً، في تعاملنا أحدنا مع الآخَر، أن نتعاطى هذا النَفَس. كل واحد منا، يا إخوة، هو راعٍ لإخوته. لا يمكنه، أبداً، أن يعتبر نفسه غير مَعنيّ بأمور إخوته طالما الله مَعنيّ بهم مباشرة. لا يمكن لأحد منا أن يستهين بإخوته ويكون، في آن، عبداً للمسيح. نحن إيقونات، نحن مرايا، نحن نعكس وجه يسوع. لذلك، نظرتنا إلى إخوتنا لا يمكنها إلاّ أن تتغيّر. عندما قال القدّيس سلوان الآثوسي: “أخي هو حياتي”، كان يقصد هذا الأمر بالذات. أنا راع لأخي لأنّ حياتي مرتبطة به. من دونه أنا لا حياة لي. طبعاً بإمكان الواحد منا أن يعيش منفرداً وبإمكانه أن يعيش مع الجماعة. ولكنْ الهمُّ الأساسي هو أن يحيا الآخرون فيه وأن يحيا هو في الآخَرين. لا يمكن لأحد أن يَخلُص إذا أَهمَل إخوته. لا يمكن لأحد أن يَخلُص إذا لم يُحبِب. أتُحبُّ خلاص نفسك؟ حسناً، إذاً، اهتمّ بخلاص الآخَرين. أتحبّ أن تكون في الراحة؟ حسناً، إذاً اهتمّ براحة الآخَرين. أتحب أن تكون في السلام الذي لا يُنزَع منك؟ حسناً، إذاً اعمَلْ لكي يكون أخوك في سلام. أخي هو نَفَسي، لذلك أنا أستمدد حياتي منه. وطبعاً، إنسان الخطيئة يحسب كل الناس مزعجين. إنسان الخطيئة تهمّه نفسه، ولكن بإهماله لإخوته يهمِل، في الحقيقة، نفسه. لذلك، عَوْدٌ على بَدء، نعود دائماً إلى أصل الأمور. نحن بحاجة إلى إخوتنا أكثر مما إخوتنا بحاجة إلينا. أنا بحاجة إلى أخي لأنّي، كما قلت، حياتي مرتبطة به. ولكنْ قد أُهمِل أخي. الله، إذ ذاك، يعطيه أن يهتمّ بأمره إنسان آخَر غيري. الفرصة التي لا أستفيد منها تكون خسارة لي. الله لا يحتاج إلى أحد منا. وإذا كان قادراً أن يُعين إخوتنا بنا، فهو قادر أيضاً على أن يُعين إخوتنا بغيرنا. ولكنْ نحن إذا أضَعنا، مرة بعد مرة، فرصة رعاية إخوتنا، فإننا نكون قد أضعنا رعاية أنفسنا على محبّة الله. لأنّ هذا النَفَس الذي أرعى به إخوتي هو نَفَس الله وليس نَفَسي أنا. أنا لا يمكنني أن أُعطي من ذاتي شيئاً لأنّه ليس عندي شيء. أنا مجرد تراب ورماد. ما أُعطيه أُعطيه من الله.

لذلك، يا إخوة، ليراجع كل واحد منا حساباته جيداً. نحن لسنا جماعة لنستخدم بعضنا بعضاً في الترَوّض على القسوة وضبط النفس. كل واحد منا ينظر إلى إخوته باعتبارهم أمانة من عند الله، امتحاناً من قِبَل الله، فرصة تُعطى لنا من الله. كلّما تعبنا من أجلهم نكون قد تعبنا من أجل أنفسنا. في العالم، حين يتعب الإنسان من أجل الآخَرين يَنفعهم. أما في الملكوت، عند الله، في كنيسة المسيح، كلّما تعبنا من أجل الإخوة كلّما انتفعنا نحن أكثر. ننفع الآخَرين؟ ربما. قد ينتفع الآخرون وقد لا ينتفعون. ولكنْ الأكيد أنّنا إذا ما تعبنا من أجل الإخوة فإنّنا نحن الذين ينتفعون. لهذا نظرتنا إلى الإخوة لا يمكنها إلاّ أن تتغيّر. إذا كان العطاء مغبوطاً أكثر من الأخذ، فهذا معناه أنّ مَن يعطي يكون في الغبطة أكثر من الذي يأخذ. مَن يأخذ قد يأخذ شيئاً ولا ينتفع منه. ولكنْ مَن يعطي، من المؤكّد أنّه ينتفع مما يعطيه كثيراً.

إذاً، الراعي الصالح هو مثالنا جميعاً. لا فقط أمثال القدّيس يوحنا الذهبي الفم. لأن كل واحد منا مُعطى أن يكون راعياً لإخوته. وتالياً كل واحد مطالَب، في يوم الدينونة، بما فعله وبما لم يفعله لإخوته. هذا ليس أبداً من باب الاستنساب. بكلام آخَر، أنا لا أرعى إخوتي لأنّي، مزاجياً، أرغب في ذلك. أرعاهم لأنّ المسيح كلّفني بهم. لهذا، كل مؤمن باقٍ في التعب من أجل إخوته راعياً لهم إلى المنتهى. هذا لكي يبقى أميناً لربّه. هذا لكي يحفظ الأمانة إلى المنتهى.

بناء عليه، طالما لا زلنا خاضعين لمزاجيّتنا، طالما لا زلنا نتأفّف من إخوتنا، فنحن نفرِّط بالأمانة المسلّمة إلينا من الله. الله يعطينا ما يعطينا للخلاص، ونحن نُلقي بما يعطينا جانباً غير مبالين به.

إذاً، يا إخوة، لماذا نتعب؟ نتعب لكي ننتفع. لسنا نتعب لكي نقوم بخدمة يستفيد منها الآخَرون. فقط نتعب لأنّنا إنْ لم نتعب لا تأتينا الراحة من فوق. كلٌّ، إذاً، يتعب من أجل نفسه، في الحقيقة، حين يتعب من أجل الإخوة. أنا بحاجة إلى إخوتي أكثر بكثير مما إخوتي بحاجة إليّ. ليضع كل واحد منا، يا إخوة، هذا الأمر في ذهنه، ليتأمّل فيه جيداً. ليس أخي هو الذي ينبغي أن يشكرني من أجل خدمة أؤدّيها له، بل أنا عليّ أن أشكره لأنّه أتاح لي فرصة أن أخدمه. لا بل أشكر الله على الفرصة التي أتاحها لي وأعطاني أن أؤدّي لأخي خدمة.

إذا ما جعلنا هذا الأمر نصب أعيننا، فلا شكّ أنّ إخوتنا سيكونون، في عيوننا، أكثر بهاء وجمالاً مما هم عليه. نحن نتذمّر كثيراً، نتأفّف كثيراً. دائماً ما نتّهم الآخَرين بشتى الاتهامات. والأحقّ أن يتّهم كل واحد منا نفسه بالقصور في المحبّة، بالقصور في خدمة الآخَرين، بالقصور في خدمة الله. نحن المقصِّرون. إخوتنا هم ما هم عليه. لهم مزاجهم ولنا مزاجنا. نحن لا نلتقيهم على أساس المزاجيات. نلتقيهم في المسيح. مَن كان منكم بلا خطيئة فليَرْم الآخَرين بحجر. مَن منا مزاجه مثالي؟ ليس هناك أحد إلاّ وهو معطوب. نحن معطوبون، معطوبون بخطيئتنا، معطوبون بذواتنا، بأنفسنا، بأهوائنا. لذلك همّنا الأساسي ينبغي أن يكون كيف يتخطى كلّ منا مزاجه، أهواءه، نَفْسَه، إرادته. نتخطى ذواتنا لنؤدّي خدمة لله في الإخوة. نجعله نصب أعيننا. نجعل السيّد نصب أعيننا في تعاملنا مع الإخوة. إذ ذاك كل شيء يأخذ في التغيّر. وإلاّ نبقى حيث نحن، ولا يتقدَّم أحدٌ منا خطوة واحدة ولو مرّت عليه آلاف السنين. أخي هو حياتي، وأنا راعيه، والربّ، برعايتي لأخي، يرعاني. آخُذ مما يعطيني الله وأتعاطاه مع إخوتي. هكذا يصير المسيح معنا وفيما بيننا. أفعل ذلك كل يوم لأنّ حياتي مرتبطة به. من دون هذا المسير أنا لا حياة لي. أبقى أتخبّط في ظلمتي إلى ما لا نهاية. لكي أخرج إلى النور عليّ أن أتمثَّل بالراعي الصالح وبالرعاة الصالحين، بالقدّيسين. فإنْ فعلتُ ذلك دخلتُ في الطوبى، وإنْ لم أفعله أعيش في خطيئتي وأموت في خطيئتي.

عظة في تذكار القدّيس يوحنّا الذهبي الفم، 27 / 1 / 2006

Leave a comment