وحده معكم!

وحده معكم!

الأرشمندريت توما بيطار


باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

يا إخوة، يسوع نلقاه دائماً في حركة، إمّا داخلاً وإمّا خارجاً. في كل الأحوال نلقاه مجتازاً، نلقاه عابراً. وهذا لنفهم أنّ علينا أن ننتظر يسوع وعلينا أيضاً أن نكون حسّاسين لمجيئه، لعبوره. وإذا ما شعرنا به عابراً، كان علينا أن نبادر إلى الصراخ إليه. يسوع يأتي في أوقات ويغيب في أوقات أخرى. لا يغيب لأنّه لا يحبّ، بل لأنّنا نحن بحاجة أحياناً لنعمة الله وأحياناً لانحباس نعمة الله عنّا. الإنسان في الحال التي هو فيها لا يستطيع أن يحتمل حضور يسوع الدائم. حضور يسوع الدائم إمّا يحرقه وإمّا يعرّضه للتجربة. نفوسنا ليست في وضعٍ هي معه مهيّأة لسكنى الربّ يسوع بالكامل فيها. لذلك يأتي دائماً ليعزّي قلوبنا، وينصرف ثانية لنعود فنشتاق إليه، لنسعى إليه، لنتعب من أجله. بين كَرٍّ وفَرّ ينمو الإنسان في معرفته ليسوع، في محبّته ليسوع، في قدرته على اقتبال يسوع.

إذاً، يسوع في اجتياز، وعلينا دائماً أن نكون في صحو حتى ننتهز الفرصة ونتمسّك به متى شعرنا بحضوره. وإذا أعميان جالسان على الطريق. هذه هي البشرية، في الحقيقة، بحاجة إلى النور. البشرية عمياء، ولهذا السبب تعاني. وحين نقول عمياء نقصد بذلك أنّها تفتقر إلى نور الله، إلى نعمة الله. الأعميان كانا جالسَين على الطريق. بكلام آخر كانا يستعطيان. والأعمى بالدرجة الأولى يستعطي النور، يشتهي أن يكون له النور. في قرارة نفسه كل واحد منا بحاجة لأن يمتلئ من نور الله. ونحن في الصلاة، في التضرُّع إلى الله، نستجدي النور. نسأل الرحمة دائماً لأنّنا نعرف قسوة الظلمة. فلما سَمِعا أن يسوع مجتاز صرخا قائلَين: “ارحمنا يا ربّ يا ابن داود”. بادراه بالصراخ. نحن لا نتكلّم إلى الله بكلام عادي كما يكلِّم الإنسان صاحبَه. لا نتكلّم إليه كلاماً عقلانياً. نحن نصرخ، والصراخ ينبع من كيان الإنسان. كيان الإنسان يصرخ حين يكون موجوعاً. الإنسان الذي لا يعي مقدار الوجع الذي فيه بسبب فقره، بسبب ظلمته، بسبب حرمانه من نور الله، لا شكّ أنّه يتلهّى بأمور سمجة في هذه الدنيا. الخطيئة هي بالضبط أن نلهو عن الله. كل شيء يبعدنا عن الله إنما هو خطيئة. والخطيئة تصبح نوعاً من التسلية. ولكن التسلية الفارغة التي لا تنفع شيئاً، كالكلب الذي يتلهّى بالعظام. يتلهّى بها لهواً ولكنّه لا يحصِّل غذاءً. الخطيئة دائماً تخرجنا من الواقع المرّ الذي نحن فيه إلى عالم الخيال، إلى عالم التصوُّر الذي نحقّق فيه رغباتنا إيهاميّاً، بالوهم. نفعل ذلك ثمّ نصحو بعد قليل فنجد أنّنا في فراغ، في ألم، في معاناة، أنّنا لم نحصِّل شيئاً. وأحياناً كثيرة نعود فنتلهّى عن الله من جديد. هذه هي الخطيئة. البِرّ الذي هو مقابل الخطيئة يجعلنا ننتظر يسوع. نحن نعرف أنّنا على قارعة الطريق، ومع ذلك ننتظر يسوع. نعلم في قرارة نفوسنا أنّه آتٍ، ولو تأخّر قليلاً فلا بدّ له أن يأتي. ننتظره ونلهج به ونأبى أن نلهو عنه. لذلك نذكره دائماً، نصلّي إليه دائماً، نستدعيه دائماً، نهيِّئ أحشاءنا دائماً لمجيئه، لحضوره، لسُكناه. ولذلك البار هو الذي يرضي الله. نحن نرضي الله بهذه التهيئة دائماً، بهذا الذِكر الدائم، بهذا اللهَج الدائم بالله. حتى إذا ما جاء يسوع بادرناه بسرعة. حين نكون في انتظار النعمة الإلهية يعطينا الربّ الإله أن نحسّ بأنها تقترب منا. يعطينا الفرصة أن نصرخ. يريدنا أن نكون كذلك. هذا لا يزعج السيّد. بالعكس، هذا يعبِّر عن مقدار حاجتنا إلى السيّد. هذا يعبِّر عن انتظارنا للسيّد، عن محبّتنا، عن شوقنا، عن اعتمادنا عليه. ولذلك يفرح الربّ الإله بالذين يصرخون إليه ليل نهار: ارحمنا يا ربّ يا ابن داود. متى قال الإنسان: “ارحمني”، قال كلَّ شيء. لأنّنا نحبّ، في الحقيقة، لا نحتاج إلاّ إلى شيء واحد، أن يتّخذنا الربّ الإله في رحمته. كل شيء بعد ذلك يتأتّى من هذه الرحمة. الإنسان يظنّ أنّه يحتاج إلى أكل وإلى شرب وإلى دواء وإلى لباس. يظنّ أنّه يحتاج إلى أمور كثيرة، لكنّ الحاجة هي إلى واحد. هذا الواحد إذا ما حضر لدينا، هو يعطينا كل شيء. في سِفر الحكمة، في العهد القديم، كلام جميل عن المَنّ السماوي. وتعلمون أنّ يسوع هو المَنّ السماوي النازل من فوق. “أنا خبز الحياة” كما قال. الطريف الجميل في الكلام على المَنّ السماوي في سِفر الحكمة، القول أنّ هذا المَنّ كان يتحوّل في أفواه العبرانيين إلى أطعمة مختلفة، بحسب شهوة مَن يأكلون. فإذا ما اشتهى المرء أمراً وجده في هذا المَنّ. وهذا بالضبط هو يسوع. يسوع يأتينا كخبز كما قال: أنا خبز الحياة. ويأتينا كماء، هو قال: “مَن عطش فليأت إليَّ ويشرب”. ويأتي إلينا كلباس أيضاً: “أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم”. ويأتي إلينا كشمس كما قال في سِفر الرؤيا. في المجيء الثاني لا يعود هناك شمس، لأنّ الربّ الإله يصير شمس المؤمنين. كل شيء نجده في يسوع. يسوع يتحوّل في أفواهنا، في كياننا، إلى كل ما نحتاج إليه، إلى كل ما تشتهيه نفوسنا. لذلك، المهم أن نقتني هذه الجوهرة الثمينة. هذا الترياق الذي هو الدواء لكل شيء. هذا الطعام الذي يُشبِع إلى ما لا نهاية ولا ينتهي إطلاقاً. يسوع عندما كثَّر الخبز من القليل القليل الذي أخذه، إنما أعطانا أن نأكل إلى جيل بعد جيل. لأنّ الفضلات التي بقيت ملأَت اثنتي عشرة قفّة. امتلأت بكِسَر الخبز. يسوع يعطينا إلى جيل بعد جيل. المهم دائماً أن يكون هو قِبلة العين، أن يكون هو شهوة النفس، أن يكون هو الكل في الكل. “الحياة لي هي المسيح”.

إذاً يكفينا أن نسترحم الله، أن تشملنا رحمتُه. في العالم سيكون لكم اضطراب. من دون يسوع مستحيل على الإنسان أن يعيش من دون اضطراب. لا شيء يعطينا سلاماً في العالم. لكن يسوع قال: “سلامي أعطيكم لا كما يعطيكم العالم”. ويعطينا فرحَه أيضاً. يعطينا كل شيء. لذلك إنْ أكلتم أو شربتم أو فعلتم مهما فعلتم، فاعملوا كل شيء من أجل يسوع. المهم أن يكون يسوع هو المطلَب. حين أختار أيّ شيء ألبس، أهذا اللباس أم ذاك، المهم أن يكون فكري مرتكزاً على يسوع. أيّ شيء يوافق يسوع في هذه المناسبة أو تلك. الإنسان الذي يحبّ يعمل ما يعمله دائماً لأجل مَن يحبّه. لا يحتاج الإنسان إذا اعتمَلَتْ في نفسه المحبّة، لا يحتاج لأن يكون تحت أنظار الذي أو الذين يحبّهم. لأنّهم يكونون حاضرين في نفسه. الصبيّة، مثلاً، إذا كانت تحبّ محبّةً أصيلة، تفكّر دائماً في حبيبها. إذا أرادت أن تصفِّف شعرها، تفكّر للحال: أهذا يعجب حبيبي؟ إذا جلست لتأكل وشعرت بأنّ شيئاً ما لا يعجب حبيبها لو كان الآن حاضراً، فهي لا تفعله ولا تأكله. دائماً الإنسان الذي يحبّ يفعل كل شيء من أجل مَن يحبّه، تعبيراً عن محبّته لحبيبه. هكذا ينبغي أن تكون علاقتنا بيسوع. يسوع هو الحبيب، هو الختن، هو العريس. العلاقة بين الرجل والمرأة ليست علاقة مقفَلة بل هي علاقة مفتوحة على يسوع. كلاهما يسأل ما يريده يسوع منهما. بمحبّتهما معاً ليسوع يصيران حبيبَين. المحبّة، في الحقيقة، نحن نستمددها من يسوع. نحن لا نعرف أن نحبّ، نحن ضيَّعْنا الحبّ، نحبّ إلى حدٍّ ما. ولكنْ محبّتنا دائماً، وأتكلّم بشرياً، مَزغولة. فيها شيء غير نظيف، فيها شيء غير نقي، فيها شيء كثير من الأنا. الرجل يحبّ نفسَه في زوجته، والزوجة تحبّ نفسَها في زوجها. أحياناً يحاول الزوج أن يرضي زوجته، ولكنْ يكون الهدف الأخير ما يريده هو منها. لذلك في العلاقات، سواءٌ بين الأزواج أو بين الناس عامةً، هناك دائماً مكان لمحبّة الذات. محبّة الذات تلوِّث كل علاقة مع الناس. لذلك نحن نحتاج دائماً في علاقتنا بعضنا ببعض لأن ننفتح على يسوع حتى نستمدد منه المحبّة. ومتى استمدَدْناها منه إذ ذاك نتعاطاها فيما بيننا فنتمكّن من أن يحبّ بعضنا بعضاً بمحبّة نقيّة من عنده هو. فقط الله محبّة. الإنسان ليس محبّة، الإنسان بعدما سقط صار يتغنّى بالمحبّة، صار يشتهي المحبّة. ولكنْ واقِع الإنسان صار واقعاً مرتكزاً على حبّه لذاته. لذلك قيل: الآخر هو الجحيم. هذا بالضبط يعبِّر عن مقدار محبّة الإنسان لنفسه. يعتبر الآخر كأنّه جحيم بالنسبة إليه. هو مصدر إزعاج بالنسبة إليه. لذلك في الزواج وفي العلاقات عامةً، الكثير من القهر والكثير من الخباثة والكثير من الكذب. الإنسان دائماً، كل واحد منا في الحقيقة، وليس أحدٌ أفضل من سواه، كل واحد منا في الحقيقة يحاول دائماً أن يموِّه نزعاته الآثمة، يحاول أن يموِّه محبّته لنفسه. الذكاء العملي في الدنيا، أتعلمون ما هو؟ الذكاء العملي في العالم هو أن تريد شيئاً، ولكنْ أن توحي للآخر الذي هو واقف مقابلك، أن توحي له بأنّ ما تريده إنما هو لخيره هو. إذا نجحتَ في هذا الأمر كنتَ عملياً ذكياً. هذا نجده في كل نواحي الحياة. نجده في السياسة مثلاً. السياسيّ الذكي الناجح في العالم هو الذي يوهِم الجماهير أنّه يريد الخير لهم. ولكنّه في قرارة نفسه يموِّه مراميه الخاصة ومقاصده الخاصة. يحاول أن يعطي الانطباع أنّه هو باذِلٌ نفسَه من أجل الجماهير، من أجل الشعب. لكنّه، في الحقيقة، يبذل الآخرين دائماً من أجل أنانياته. هناك سياسيون أغبياء يفعلون ذلك بشكل فاضح. وهناك الأذكياء الذين يعرفون كيف يموِّهون نزعاتهم الشريرة. السياسي الروحي والمُحِبّ الوحيد في التاريخ، الصادِق الوحيد، الحقُّ الأوحد، هو يسوع. لأنّه قال وبذل نفسَه. لم يشأ أن يؤذي أحداً على الإطلاق ولم يُضَحِّ بأحد لأجل نفسه ولم يستغلّ أحداً على الإطلاق، إطلاقاً. يسوع لا يعرف الاستغلال. حتى إنّه لا يفرض نفسَه ولا الإيمان به على أحد. إذا أردتَ أن تتبعني، إذا أردتَ، هذا عائدٌ لك. مَن أراد أن يتبعني فليحمل صليبه كل يوم ويأتِ ورائي. الإيمان بحدّ ذاته يترك الخيار كاملاً للإنسان. لذلك يسوع أعطى نفسَه قدوةً. مَن أراد أن يتبعني. وحده يسوع كان قويماً في التاريخ بكل معنى الكلمة، محبّاً في التاريح بكل معنى الكلمة. لذلك نلوذ به ونعرف أنّه هو الجواب لكل ما نعاني منه. ارحمنا يا ربّ يا ابن داود. هذان الأعميان قالا كلّ شيء بهذه الكلمات البسيطة: ارحمنا يا رب يا ابن داود. ماذا كانت النتيجة؟ زجَرَهما الجمع ليسكتا، فازدادا صراخاً. الناس دائماً يهتمّون بمظاهر الأمور. زجَرَهما الجمع ليسكتا. الناس دائماً ينظرون إلى ظاهر الأمور ولا ينظرون إلى ما يجري في أعماق الإنسان. أصلاً لا يستطيعون. من دون روح الله لا يستطيع أحد أن يعرف مقدار ما يعانيه الآخرون. نحن نتبادل الكلام الفارغ في أكثر الأوقات ونعبر بالآخرين عبوراً وقلّما نبالي بهم. لهذا السبب أقسى ما يعاني منه الإنسان الوحدة. يجد دائماً نفسَه وحيداً حتى بين أهله، حتى بين أصدقائه. كيانياً يحسّ بذلك. “أبي وأمّي هجراني أما الربّ فإليه أخذني”. وحده الربّ الإله لا يتركنا يتامى. يتامى من الناس، يتامى من حنان الناس، من ألطاف الناس، من حضور الناس، من بذل الناس، من رحمة الناس. “لا أترككم يتامى”. التلاميذ تركوا يسوع وانصرفوا. قال لهم قبل ذلك بوضوح إنّهم سوف يتركونه وحيداً. وطبعاً اعترضَ بطرس. اعتبر نفسه بطلاً. ولو غادر الجميع يسوع فإنّه هو لا يغادر يسوع إطلاقاً. هو باقٍ معه إلى النهاية. ولكنْ متى شعر بطرس بالأمور ضاغِطة عليه أنكر يسوع بحَلف ثلاث مرّات. الإنسان يترك الإنسان أما الربّ الإله فلا يترك الإنسان أبداً.

لذلك نحن لا نملك شيئاً معزِّياً، في الحقيقة، في هذه الدنيا إلاّ رحمة الله، فقط رحمة الله. في وقت من الأوقات في أورشليم، كما يخبر المؤرِّخ يوسيفوس، أكلت الأمّ وليدَها. متى قسَت الظروف، الناس يتخلّون بعضهم عن البعض الآخر. حتى الأمّهات يتخلّين عن ثمرة أحشائهنّ. الأمر منوط بالظروف. طبعاً بطرس حين كان يَنْعُم برحمة الله كان يبدو كأنّه مستعدّ لأن يخوض معارك لأجل يسوع. ولكنْ ساعة الظلمة لا بدّ أن تأتي، والظروف تكشف الإنسان. لهذا السبب ليس لنا أحد بكل أسف، ليس لنا أحد إلاّ يسوع. هو وحده يبقى معنا. “رحمتك تتبعني جميع أيام حياتي”.

“فوقف يسوع ودَعاهما: ماذا تريدان أن أصنع بكما. قالا له: يا ربّ أن تنفتح أعيننا. فرَقَّ يسوع”. يسوع على عظمته رقَّ. صار كالورقة، إذا نفخَ فيها الإنسان حرَّكها. “فرَقَّ يسوع ولمَس أعينهما فللوقت أبصرا وتبعاه”. حتى نفهم أنّه لا بأس إنْ غادَرَنا الناسُ أجمعون. المهم أن نعرف أنّ يسوع معنا وفيما بيننا كان وكائن ويكون.

آمين.

عظة في 18 آب 2007، حول السبت الثاني عشر من متّى (متّى 20: 29 – 34)

Leave a comment