في ساعة لا تظنّونها!

في ساعة لا تظنّونها!

الأرشمندريت توما بيطار

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

يا إخوة، يسوع مجتازٌ دائماً. يسوع لا يتوقّف في مكان. هو في حالة عبور دائمة في كل الأزمان. ليس هناك إنسان، ولا واحد، إلاّ ويجتاز يسوع به. وهو يراه، يرى ما في أعماقه، يعرفه جيّداً، يعرفه أكثر بكثير مما يعرف هو نفسَه. ويسوع يطلب الذين يعرفون والذين لا يعرفون، ولا سيما الخطأة المغرِقين في خطاياهم. لأنّه محبّة، فإنّه يحبّ هؤلاء أكثر من سواهم، لأنّهم بحاجة إلى رحمة. الأم في البيت إذا كان لها أولاد ومَرِض واحد منهم، فإنّها تنصرف إلى الاهتمام به أكثر من الباقين أجمعين. الله لا ينظر إلى خطايانا بل ينظر إلينا. هناك تمييز دائمٌ عند الله بين الإنسان وخطيئته. الله لا يحبّ أبداً ما نفعل، إذا كان إثماً، لكنّه يحبّنا في كل حال.

لاوي ابن حلفا كان إنساناً هامشيّاً، على هامش المجتمع في ذلك الحين. وكان إنساناً يمثّل حالة الظلم، والناس كانوا يأنفون منه وينصرفون عنه. وكانت حياته تتواتَر كل يوم عند مائدة الجباية. في كل يوم كان يصنع الظلم وكان يجرِّح الناس في نفوسهم، في أرزاقهم، ولا يبالي. والخطيئة متى اعتَدْنا عليها لا نعود نحسّ بها. لهذا السبب علينا أن نحذرها في كل حين، لئلا يموت الحسّ الذي فينا بالخطيئة. رغم ذلك، رغم أنّ لاوي كان قد فَقَد، من زمان، الإحساس بظلم الناس، فإنّ يسوع اجتازَ به. ماذا رأى فيه؟ هذا هو يعرفه. لم يطلبه يسوع لأنّه إنسان صالح. الله لا يحتاج إلى أحد، الله هو المعطي كلّ شيء. لذلك لا فضَل لأحد منا إذا ما دَنا من يسوع، يسوع هو الذي يُدْنيه منه. “ليكون فَضْل القوّة لله لا منّا”. يسوع هو الذي ينادي، وهو، في آن، يعطي الأُذنَ لتسمع. المهم ألاّ يكون الواحد معانداً. وطبعاً بإمكان كل واحد أن يكون كذلك. “فاليوم إنْ سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم”. قال له يسوع اتبعني، فقام وتبِعَه. لماذا تبِعَه؟ لا نحن نعرف ولا هو نفسه يعرف. الأسباب البشريّة ليست هي المهمّة. المهم، إذا ما تحرّك القلب في اتجاه يسوع، أو، بالأحرى، إذا ما حرّكتْنا النعمة في اتجاه يسوع، أن نَتَّبع الصوت الداخلي الذي فينا ولا ينظرنّ أحدٌ منّا إلى الوراء كامرأة لوط، لئلا يُضيِّع الفرصة، لأنّ يسوع مجتاز. حين تمسُّنا النعمة يكون يسوع مجتازاً، فإذا لم نقبض على النعمة، إذا لم ننتفع منها، فإنّها قد لا تعود ثانية. يسوع ليس مَوفوراً لنا كل يوم وساعة نشاء. هناك أوقات هو يعرفها، حرجة، يجتاز بنا فيها. هذه علينا أن ننتهزها، وإلاّ يفوتنا القطار. لأنّ القلب يتغيّر باستمرار. حين تغيِّرنا النعمة، حين يكون الإنسان مُهيّأ لاتّباع المعلّم، فلا يتأخَّرنّ إلى الغد وإلى ما بعد الغد ظنّاً منه أنّ ثمّة أموراً عليه أن يرتّبها في حياته. يسوع قال بوضوح لذاك الإنسان: هلمّ ورائي. فقال له: دعني أولاً أذهب وأدفن أبي. فقال له يسوع: دَعْ الموتى يدفنون موتاهم. نحن علينا أن نتّبع يسوع حالما يمسُّ قلوبنا. بعد ذلك هو يتكفّل بكل شيء. لا شيء في الدنيا أكثر أهميّة من اتّباع يسوع. لا بل الحياة تستحقّ أن تُعاش لأنّ فيها يسوع. كذلك التلاميذ تركوا كل شيء وتبِعوه، تركوا حتى عيالهم. لا شكّ أنّهم كانوا يفتقدونهم من وقت إلى آخر، ولكنْ حياتهم اتّخذتْ وجهة سيْر واضحة حين تبعوا المعلّم.

إذا لم ننتهز الفرصة فإنّنا نشتاق من بَعْد إلى يسوع كلاميّاً، يصير بنا ما صار بالمخلّع الذي بقي ينتظر أربعين سنة مَن يلقيه في الماء. لا شكّ أنّه ضيّع الفرصة التي أتته مرّة، وبعد ذلك صار يتعلّل بعلل الخطايا وصار مقيماً في عاطفيّته وفي انتظار ما سَبَق أن اجتاز به وذهب. يسوع قال له اتبعني ودخل إلى بيته، إلى بيت لاوي. لاوي كان إنساناً خاطئاً وبيتُه كان بيت الخطأة. هكذا نَفْس كل واحد منّا تحتَشد فيها الخطايا من أنواع كثيرة. رغم ذلك لا يأنف يسوع من أن يدخل إلى نفوسنا، إلى حياتنا. لأنّ نفوسنا، في الحقيقة، هي بيته. لا يظنّنّ أحد منا أنّ حياته مِلْكُه. حياتنا هي مِلك يسوع. نحن لسنا لأنفسنا، نحن قد اشتُرينا بثمن. الله أصلاً هو الذي خلقنا ومن ثمّ افتَدانا. لذلك نحن لسنا لأنفسنا. يسوع متى دخل إلى حياتنا، فإنّه يغيّر كل شيء. المهم أن نُماشِيَه، المهم ألاّ نقسّي قلوبنا. العشّارون والخطأة الذين اتّكأوا مع يسوع وتلاميذه لم يكن هناك خطرٌ أن ينجسّوه، بل البَرَكة كانت أن يبرِّرَهم هو بجلوسه فيما بينهم. الله ينقّي، لذلك عِشرتُه عِشرة خلاصيّة. مهما كانت خطايانا، الله متى دخل في صُلب حياتنا، فإنّه يجعل كل شيء جديداً. لذلك حياتنا إيمان، نحن لنا عمل واحد هو أن نؤمن. والإيمان معناه أن نُسلِم أنفسنا له بالكامل، من دون تحفّظ، من دون شروط. هو بعد ذلك يفعل كل شيء ويتمِّم كل شيء.

فلمّا رأى الكتبة والفرّيسيّون الذين هم رمز العناد، وتالياً رمز الرياء، لمّا رأوا يسوع يأكل مع العشّارين والخطأة، قالوا لتلاميذه: ما بال معلّمكم يأكل ويشرب مع العشّارين والخطأة. الكتبة والفرّيسيّون يحكمون على الناس، يُصدرون الأحكام سلفاً. وهذا لأنّهم لا يعرفون أنفسهم. كل مَن عرف نفسه واستَبانت خطيئته لعينيه يَرأف بالعشّارين والخطأة. لأنّه يعرف أنّه ليس أحد بلا خطيئة، ويعرف أيضاً أنّ الخطيئة خِدعة، والكل عُرضَة لها، وليس أحد بريئاً منها. يسوع لا يشاء أن يحكم على أحد. للمرأة الزانية قال: أين هم مُدينوك؟ فقالت له: ذهبوا. فقال لها: ولا أنا أدينك، اذهبي ولا تخطئي بعد. يسوع جاء ليطلب أن يخلِّص ما قد هلك، لذلك لا يتلهّى عن الخلاص بإصدار الأحكام، فالدينونة لم تأتِ بعد، الزمن زمن توبة، وكل خطيئة تُغفَر لبني البشر. المهم ألاّ يجدِّف أحد على روح الربّ بقوله عن عمل الله إنّه عمل الشيطان.

فلما سمع يسوع – يسوع سمع ما قاله الكتبة والفرّيسيون ربما بصوت منخفض سمعه جيّداً. والربّ يسمع الأفكار قبل أن يسمع الكلام. لأنّه يعرف الإنسان، يعرف ما في داخل الإنسان – وإذ سمع قال: “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، لكن ذوو الأسقام”. الخطيئة مَرَض، والخطأة مرضى، ويسوع هو الطبيب. الطبيب يأتي إلى المرضى، أي إلى الخطأة. “فإنّي لم أتِ لأدعو صدّيقين بل خطأة إلى التوبة”. الله يأتينا ممتلئاً حناناً، لذلك لا مطرح لليأس بين الناس إذا ما أدركوا طبيعة يسوع. يسوع أوسَع بما لا يقاس من خطايانا، من ضعفاتنا، من تقصيراتنا، من زلاّتنا، من هفواتنا، من آثامنا. لذلك، الفرصة سانحة أبداً لكل واحد منا لكي ينهض من جديد، لكي يبدأ من جديد، لكي يتوب. المهم أن تدور حياتنا في فلك يسوع. “إنْ سمعتم اليوم صوته فلا تقسّوا قلوبكم”. لأنّه ليس أسوأ من قسوة القلب. قسوة القلب انتحار، والحياة قصيرة، والفرص ليست بكثيرة ولكن نحن قادرون بنعمة الله أن نبدأ من جديد كل يوم، أن نتوب إلى يسوع كل يوم. ويسوع لا يترك أحداً منّا من دون تعزية، من دون تشديد. المهم ألاّ ننصرف عنه إلى شيء آخر مهما كان، كما قال فيليبس لنثنائيل عن يسوع: “إنّ الذي كَتَب عنه موسى قد وجدناه، وهو يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة”. متى وَجَدنا الحبيب، فلا نتركنّه. وكما ورَد في نشيد الأنشاد، متى تخطّى الواحد منّا الحرّاس، متى تخطّى الواحد منّا حدود الشريعة، إذ ذاك، يجد يسوع بانتظاره، فليتمسّك به ولا يُفْلِته. لأنّ الحياة كلّها كامنة في عين الحبيب، ويسوع يأتينا دائماً كما ليقيم فينا كفي خدر. لأنّه يفرح بإنسان واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين لا يحتاجون إلى توبة. المهم أن نتّبعه، أن نسير في إثره، أن نفتح القلوب والعيون عليه، حتى لا تفوتنا رائحةُ حضرته وطِيبُ وجوده ورحمةُ مواعيده.

فمَن له أذنان للسمع فليسمع.

عظة حول (مر 2: 14 – 17) في السبت الثالث من الصوم، 10 آذار 2007

Leave a comment