الإطلال على الملكوت

الإطلال على الملكوت

الأرشمندريت توما بيطار

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

يا إخوة، ما يطلبه الربّ يسوع المسيح هنا فائق للطبيعة. الإنسان بصورة طبيعية يتعلّق بأبيه وأمّه، يتعلّق بابنه وابنته. أما يسوع فيطلب أن تكون محبّتنا له أكبر من كل علاقة طبيعية. وأكثر من ذلك، يطلب الربّ يسوع أن نحبّه أكثر من أنفسنا، ولهذا يقول: “مَن وجد نفسَه يُهلكها ومّن أَهلك نفسَه من أجلي يجدها”. ما يطلبه الربّ يسوع مستحيل. بشرياً مستحيل. لذلك يسمّيه هنا صليباً، ويقول: “مَن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقّني”. المطلوب أن ينسلخ الإنسان عن نفسه وعن خاصته وعن عالمه. هذا ممكن؟ لو لم يكن ممكناً لما كان الربّ يسوع قد طلبه. ولكن هذا ممكن بالله فقط.من دون نعمة الله مستحيل علينا أن نتمِّم وصيّة الله. حتى أبسط الوصايا مستحيل علينا أن نتمِّمها من دون نعمة الله. بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً على الإطلاق. مهما فعل الإنسان يبقى قاصراً عمّا يطلبه الله. ولكن ما يطلبه الله ليس فقط ممكناً بالله، ولكن ضروري للإنسان. العلاقة بين الناس، العلاقة بين الإنسان ونفسه، لا يمكنها أن تستقيم إذا لم يكن المسيح في الوسط، إذا لم يكن المسيح هو الرابط بين الإنسان والإنسان، بين الأب وابنه وبين الأم وابنتها وبين الزوج والزوجة. إذا لم يكن المسيح هو الرابط، فإنّ العلاقة لا تكون طبيعية بالمعنى الدقيق للكلمة. كل علاقة من دون يسوع هي علاقة سقوط. صحيح أنّ الناس يتزوجون وأنّ هناك علاقات قربى بالدم بين الناس، ولكن هذه مشوبة كلّها بالأنانيات وحبّ الذات. الرجل يحبّ نفسه في امرأته ويريدها أن تكون كما يتصوّرها. يريدها أن تكون موافقة لأهوائه. والعكس أيضاً صحيح، المرأة تريد رجلاً يناسب تطلّعاتها ويناسب أحلامها ويناسب أهواءها. لهذا، لا يمكن أن تستقيم علاقة بين اثنين إن لم يكن المسيح هو الرابط بينهما. كل علاقة ينبغي أن تمرّ بيسوع. محبّتنا ليسوع هي الضمانة لمحبّتنا لبعضنا البعض. لذلك الوصيّة الأولى والعظمى هي: “أحبَّ الربّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك”. والوصيّة الثانية التي تنبع من الأولى هي: “أحبَّ قريبك كنفسك”. الوصيّة الثانية من دون الوصيّة الأولى تكون قريبة من الخطيئة. لذلك يقول الربّ يسوع كلاماً صارماً في شأن العلاقات بين الأقرباء. يقول: “ما جئت لأُلقي سلاماً بل سيفاً، جئت لأُفرِّق الإنسان ضدّ أبيه والإبنة ضدّ أمّها والكنّة ضدّ حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته”. ما معنى هذا الكلام؟ لو لم يكن هناك خلل في العلاقات بين الناس، لما كان يسوع يقول كلاماً كهذا، لا سيما وأنّه يقول إنّه جاء ليُعطي الناسَ سلاماً. “سلامي أُعطيكم، ولكنْ لا كما يُعطيكم العالم”. “في العالم سيكون لكم اضطراب”.

كل علاقة من دون يسوع في العالم هي علاقة مضطربة، هي علاقة قائمة على مصالح، على أنانيات مشتَرَكة. إذا التقتْ مصلحة اثنين التقيا، وإذا افترقتْ مصلحتهما افترقا. هذا صحيح، إذاً، سواء بالنسبة للعائلة أو بالنسبة للأقرباء أو بالنسبة لأهل القرية الواحدة أو البلد الواحد. ولكنْ المحبّة الحقّ لا تطلب ما لنفسها. طالما الإنسان له مصلحة في إنسان آخر فليست المحبّة هي الرابط بينهما. وإذا لم تكن المحبّة هي الرابط بين الناس، فالرابط بين الناس شيء فاسد. لذلك، من دون المحبّة، أو بالأحرى من دون يسوع، تتحوّل العلاقات إلى علاقات يشوبها الرياء. ما معنى الرياء؟ الرياء له مظهر صالح، ولكنّه شيء فاسد. الإنسان يتظاهر بأنّه محبّ، ولكنّه، في قرارة نفسه، إنسان أناني. الإنسان المرائي يتظاهر بالصدق وهو كاذب، يتظاهر بأنّه حَمَل وهو ذئب كاسر. الرياء يكون دليل نفسٍ نجسة. والنفس النجسة هي التي تعشق ذاتها. لذلك مَن وجد نفسه يُهلكها. مَن أراد أن يحقِّق نفسه في الحياة، عليه أن يُهلك نفسه، أي عليه أن يُهلك ما يعتبره أنّه نَفْسُه. بكلام آخر، أنا أعتبر أنّ سعيي إلى مصلحتي أولاً وقبل كل شيء هو أمر مشروع. كل الناس يفعلون ذلك. هذا عند الله نجس وغير مقبول. إذا أردتُ أنا أن أُحقِّق نفسي في المسيح، فإنّ عليّ أن أطلب لا مصلحتي، بل مجد الله وما فيه الخير للآخرين، كما أطلب، وبنفس المقدار، الخير لنفسي. إذاً، هناك ما عليّ أن أُهلكه في نفسي: هذه النزعة إلى تقديم نفسي في كل شيء وفي كل أمر وفي كل مصلحة. أحبّ دائماً أن أتكلّم وأحبّ الناس أن يسمعوا لي. عليّ أن أفعل العكس حتى أُهلك نفسي الساقطة لأجد نفسي الأصيلة التي هي في المسيح. بدل أن أتكلّم وأطلب من الناس أن يسمعوني، أسمع الناس جيداً وأتعلّم منهم. وإذا كان عندي شيء أنفع به الناس أتفوّه به، وإلاّ ألزم الصمت. لا أعتبر نفسي أي أنا الغاية، أعتبر أنّ الآخرين هم الغاية. أتكلّم لكي أنفع الناس، وأسعى إلى أن أنتفع من الناس. وفي هذا أو ذاك، أسعى دائماً لأن أُتمِّم عمل الله، أسعى لأن أمجِّد الله.

إذاً، هناك عنف ينبغي على كل واحد منا أن يتعاطاه في حياته. العنف الحقيقي ليس ضدّ الناس. المعركة الحقيقية ليست ضدّ الناس، المعركة الحقيقية هي ضدّ أهواء النفس. إذا كنتُ أنا إنساناً غضوباً، عليّ أن أشنّ على غضبي حملة شعواء حتى أتعلّم الوداعة. هذا ممكن؟ أجل ممكن، بنعمة الله هذا ممكن. ولكنْ نعمة الله لا تفعل فيّ إن لم أكن متعاوناً معها. أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوّيني. “ولكنْ، بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً”. المعركة الحقيقية هي معركة الإنسان مع روح الزنى، مع روح الكذب، مع روح الخباثة، مع روح الرياء. هذه أعنف المعارك. الناس، كل الناس، يظنّون أنّ الدنيا تكون بخير متى تمَّ القضاء على فلان وفلان وفلان ممّن يعتبرونهم أشراراً. ولكنْ هؤلاء الذين نعتبرهم أشراراً، هؤلاء الذين يُفترَض بنا أن نتعامل معهم باعتبارهم أعداء لنا، هؤلاء يقول الربّ يسوع في شأنهم كلاماً آخر: “أحبّوا أعداءكم”. إذاً، ليس عدوّي هو المشكلة، لأنّي أنا لستُ خيراً من الذين أنتقدهم، أنا لستُ خيراً ممّن أعتبرهم أشراراً. الإنسان الآخر الذي ترونه أمامكم اعتبروه مرآة لكم. إذا رأيتم فيه زنى، ففتّشوا في أنفسكم عن روح الزنى لأنّه موجود فيكم. إذا اعتبرتم الآخرين كذبة، ففتّشوا في أنفسكم عن الرياء والكذب، تجدوا أنّكم لستم خلواً من النقائص والعيوب والخطايا التي تنسبونها إلى الآخرين. لذلك نحن في تعاملنا مع الناس نتعلّم منهم كيف نعرف أنفسنا على حقيقتها. الإنسان الذي ليس فيه روحُ زنى، الإنسان العفيف بمعنى الكلمة، وهذه قاعدة، إذا رأى إنساناً زانياً، فإنّه لا يقول عنه إنّه زان، يتصرّف بطريقة أخرى، بطريقة مختلفة. إذا رأى إنساناً ساقطاً في الزنى، يسترحم الله على نفسه وعلى هذا الأخ، وتطفر الدموع من عينيه ويصلّي من أجله ويستر عليه ويطلب الرحمة من أجله. كل إناء ينضح بما فيه. إذا كان الإناء ممتلئاً من روح الزنى فإنّه ينضح دينونة للآخرين. وإذا كان الإناء ممتلئاً من روح العفّة، فإنّ الإنسان، إذ ذاك، يفيض حبّاً للآخرين. الربّ يسوع قال بوضوح: ” إن لم يزد برّكم على العشّارين والزواني فلن تدخلوا ملكوت السموات”. لذلك، الآخر هو مرآتي. طالما فيّ حدّة في إدانتي لأخي، طالما فيّ حدّة في حكمي عليه، فأنا إنسان ممتلئ خطايا ونجاسات. وبالتالي، متى رأيتُ أنّ هذا هو حالي أسترحم الله على نفسي، أستعين بالله، أستعيذ به. أما الآخر فأُصلّي لأجله وأصمت في شأنه. لأنّ مَن يدين إنساناً إنما يأتي بالدينونة على نفسه. لأنّه بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم. “مَن أنتَ يا مَن تدين عبد غيرك، هو لمولاه يثبت أو يسقط، والربّ قادر أن يثبّته”. أفتظنّ، يا أيّها الإنسان، أنّك، وأنتَ تدين إنساناً آخر وتفعل الأمور نفسها التي يفعلها، أنّك تنجو من دينونة جهنم؟ كلا أبداً. لذلك حرب الإنسان هي ضدّ نفسه، ضدّ أهوائه، ضدّ حقيقة نفسه، لا ضدّ تصوّره لنفسه.

البشر يتصوّرون أنفسهم أنّهم أنقياء، أنّهم صالحون. هكذا يتصرّفون وهكذا ينظرون إلى أنفسهم. معظمنا كالفرّيسي، ينظر إلى العشّار وإلى خطاياه، وليس مستعداً أن ينظر إلى خطايا نفسه. ينظر ما يعتبره صالحات في نفسه، وما صالح إلاّ الله. ليس المهم أن ينسب الإنسان الصلاح إلى نفسه، المهم أن يقول عنه الربّ الإله إنّه صالح. لذلك يعيش الإنسان من دون المسيح في كذبة كبيرة. يكذب على نفسه ويكذب على الآخرين. روح الكذب منبثّ في العالم، وروح الكذب هو روح الشيطان المسمّى الكذّاب، وهو القاتول أيضاً. لأنّ الكذب يقتل. كل إنسان يسلك في الكذب يقتل نفسه وهو يظنّ أنّه بألف خير. أما نحن فعلينا أن نُهلك الكذب في نفوسنا، وأن نُهلك كل روح غريب في أنفسنا، حتى نجد أنفسنا على أصالتها. وهذه لا تكون من دون يسوع ومن دون وصيّة يسوع ومن دون محبّة يسوع ومن دون عِشرة يسوع ومن دون صليب يسوع. “خذوا نيري عليكم وتعلّموا مني”. مَن أراد أن يتعلّم من المعلّم، هذا يصير أصيلاً. طالما نفوسنا بعيدة عن يسوع، فهي نفوس غارقة في الزيف. مزيّفة، ممتلئة أكاذيب وتصورات خاطئة. لو كان الواحد منا ليعرف نفسه على حقيقتها لكان في قرف دائم من نفسه كل يوم. لذلك، إذا أردتُ أن أسلك قويماً، فعليّ أن أنظر بطريقة مختلفة إلى الناس وبطريقة مختلفة إلى نفسي. بدل أن أنظر إلى عيوب الناس أنظر إلى ما فيه خيرهم، “أَحبّ قريبك كنفسك”. وبدل أن أنظر إلى حسنات نفسي أنظر إلى ما فيّ من سيئات حتى أُصلح نفسي. معرفة النفس على حقيقتها أعظم الفضائل. ومن دون معرفة النفس على حقيقتها يموت الإنسان في خطاياه وهو لا يعرف.

لذلك جاء الأنبياء قديماً ومن بعدهم الرسل ليزعجونا، ليزعجوا ضمائرنا المائتة، ليُحيونا، ليُحيوا ضمائرنا التي لا حسَّ فيها. لهذا، أعظم الفضائل أن يعرف الإنسان نفسه أنه خاطئ. وإذا قلنا أن يعرف، نقصد بذلك أن يحسَّ بقرارة نفسه أنه خاطئ. الإحساس بالخطيئة أعظم بكثير من إقامة الموتى. مَن يحسّ بخطاياه، بحسب القدّيس إسحق السرياني، أعظم ممن يقيم الموتى. لهذا، عيني دائماً على نفسي. أنا أقف من نفسي، ويُفترَض أن يقف كل واحد منا من نفسه، موقف الديان. مَن يتعلم أن يدين نفسَه فإن الله لا يعود يدينه. وكلّما كان الإنسان دَيّاناً للآخرين، كلّما كان هذا دليلاً على أنه لا يعرف نفسه. لأن مَن كان بيته من زجاج فلا يرشق أحداً بالحجارة. لذلك مهمٌّ جداً أن نعرف أننا سريعو العطب، أننا على معطوبية. إذاً، نداري الآخرين ونسأل الآخرين رحمة ونصنع رحمة مع الآخرين ونبتعد عن إدانة الآخرين، حتى يمتنع الله عن إدانتنا ولو ارتكبنا عشرة آلاف جريمة، الله لا يديننا من بعد. الجريمة التي هي أعظم من كل جرائم الأرض والخطيئة التي هي أعظم من كل خطايا الأرض أن يدين الإنسان إخوته. متى عرفنا أن نمتنع إلا عن رحمة الآخرين – نحن مديونون فقط للآخرين بأن نحبّهم – ولمنا أنفسنا ووضعنا أنفسنا واعتبرنا أن المسيح جاء ليخلِّص الخطأة الذين نحن أوَّلهم، إذ ذاك نكون حقاً على مشارف الملكوت.

عظة في السبت السابع من متّى (10: 37 – 42، 11: 1)

Leave a comment