الكَنـعـانــيّة

الكَنـعـانــيّة

الأب الحارث ابراهيم

في المقطع الذي سمعناه اليوم عبارة مهمّة جدّاً، وهي قاسية أيضاً عندما لا نُدرِك مقاصد الرب يسوع في قوله: “ليس حسناً أن يُؤخَذ خُبزُ البنين ويُلقَى للكلاب”. وقد يذهب البعض إلى القول أن هذه العبارة لا يُمكن أن تكون صحيحةً على لسان الرب يسوع وأنَّ أحداً دَسّها، لأنَّ المعروف عن يسوع في كلّ الإنجيل هو لُطفه ووداعَتُه وحُبُّه للكبير والصغير، فكيف يأتي بكلامٍ من هذا النوع، لا يليق به، ولا يمكن أنْ يصدُر إلا عن أناسٍ فاسدةٌ أذهانهم لجهة الإعتقاد بالخالق وقد خلَو من المحبّة؟

صحيحٌ أولاً أنّه من الغريب أن يتفوّه الرب يسوع بهذا الكلام، ولا بُدّ عنده مَقصدٌ هامٌّ خلف هذا القول، وهذا ما علينا أن نتبيّنه. وصحيحٌ أيضاً أنَّ مَن لا يعتقد الإعتقاد الصحيح في أنَّ الله هو خالق الجميع وأنه خلَق من طينةٍ واحدة جميع البشر، أنَّ هذا يجعل نفسه من طينةٍ أخرى مبارَكة والناس الآخَرين من طينةٍ غير مبارَكة.

صاحب الإعتقاد السيّء في الله الخالق يَنعَتُ الناس الذين من غير حزبه بنعتوتٍ شتّى وكأنهم ليسوا من الخليقة المفضّلة عند الله، ويساويهم بالحيوانات. هذا كان شأنُ الربانيين (الحاخاميين)، معلّمي اليهود، إذْ اعتبروا أنَّ اليهود هم شعبُ الله المختار، وكأنَّ الله لم يَخلق بقية الناس ولا يحبّها ولا يَعتني بها، فيمتنعوا عن مخالطتهم حتّى؛ بدليل ما قالته السامرية ليسوع على بئر يعقوب: “كيف تكلّمني وأنتَ يهوديٌّ وأنا امرأةٌ سامرية، واليهود لا يُخالِطون السامريين؟” (يوحنّا 4: 9). (وإلى اليوم يأكل اليهود في مطاعم خاصّة بهم وفي صحون خاصّة لكي لا يتنجّسوا من الناس غير اليهود، ويُسمّون غير اليهود “غوييم” أي بهائم). لهذا السبب كان اليهود يبتغون أن يصنَعَ يسوع معجزاته معهم وحدهم وليس مع الأمم، وفقط مرّةً واحدة توسّطوا لقائدِ مئةٍ عند يسوع وطلبوا منه أن يشفي عبده، لا من باب الشفقة على أوجاعه، بل لأجل منفعتهم إذ قالوا: “إنّه مستحِقٌّ أن يَفعَلَ له هذا لأنّه [قائد المئة] يُحبُّ أُمَّتَنا وهو بَنَى لنا المَجمَع” (لوقا 7: 4 و5). أتنظرون! هم يَعتبرونه غير مستحق في الأساس لأنه غير يهودي ولكن يشفع له أنّه يساعدهم ويُشفق على مساكينهم وقد بَنى لهم المجمع. ويسوع لم يتأخَّر عن شفاء غلام قائد المئة، لكن لا للأسباب التي قالوها، بل لأجل إيمانه، حتّى أنَّ يسوع وبَّخ اليهود توبيخاً شديداً ولقّنهم درساً حين بيّن لأي سبب قام بشفاء الغلام بقوله: “لم أَجِد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا” (لوقا 7: 9). فهل اتَّعظوا؟ كلا. هل أيقنوا وآمنوا أنَّ الله لا يَرضى عن الخطيئة وأنَّ مَن يتَّقيه ويَصنَع البِرَّ، في كلِّ أُمَّةٍ، مقبولٌ عنده (أعمال 10: 35)؟ كلا، وسيظهر عدم الفهم هذا في ردِّهم هنا على المرأة الكنعانية كما ظهر في مواضع أخرى أيضاً من الكتاب المقدّس.

لم تكن تلك المرّة الأولى التي يُظهِر فيها يسوعُ أنّه قد أتى لخلاص جميع الناس بخلاف مفهوم اليهود الذين يريدون حصره فيهم. وحين رفض يسوع أن يصنَع معجزات في الناصرة، حيث كان قد تربّى، قال لهم: “بالحقّ أقول لكم أنَّ أرامل كثيراتٍ كُنَّ في إسرائيل في أيام إيليا النبي حين أُغلِقَت السماء مُدّةَ ثلاث سنين وستّة أشهر، لمّا كان جوعٌ عظيمٌ في الأرض كُلِّها، ولم يُرسَل إيليا إلى واحدَةٍ منها إلاّ إلى امرأة أرملة إلى صرفة صيدا. وبُرصٌ كثيرون كانوا في إسرائيل في زمان أليشع النبي، ولم يَطهر واحدٌ منهم إلاّ نُعمان السرياني” (لوقا 4: 25-27). بقوله هذا أظهَر يسوع أن الله كان دائماً مُحبّاً لجميع الناس ولم يكن إله اليهود وحدهم، وهذا ما كان الأنبياء يؤكّدون عليه أيضاً؛ سفر يونان كلُّه منطَلِقٌ من رغبة الله في دعوة الأشوريين في نينوى إلى التوبة على يد يونان النبي، غير أنَّ اليهود القساة الرقاب والغلاظ القلب لم يريدوا أن يفهموا.

سأقصُّ عليكم مثلاً: لو أتَت إليَّ ابنتي تخاطبني وأنا أجبتها: أُغربي عن وجهي، لا أريد أن أراكِ”. أتظنون أنها ستصدّق هذا القول؟ أتظنّون أنّها ستشكّ في محبّتي لها، وهي التي اختَبَرَت دائما لهفتي عليها؟ لا أعتقد أنَّ ابنتي ستشكّ في محبّتي، وسيبقى عندها اليقين الكافي أنَّ كلامي معها ينافي ما في داخلي نحوها. لذلك عندما أتت هذه الكَنعانيّة إلى يسوع، لم يكن عندها شكّ على الإطلاق بمحبّته لها، والأكثر من ذلك أنّها خاطبته باسمه الخاص الذي يُحدِّد رسالته قائلة: “إرحمني يا ربُّ، يا ابن داود”. أنْ تطلب منه الرحمة يعني أنها تعي بشكلٍ ما أنه إله الرحمة الواسعة صاحب الإقتدار في الخليقة، إذ لا تُطلَب الرحمة من غير المقتدر. وأن تناديه يا ربّ يعني أنّها اعترفَت به إلهاً متجسّداً، وكأنَّ هذه المرأة تتفوّه بأسلوب الأنبياء. ثم أردفَت في ندائها بعبارة “يا ابن داود”، معلنةً أيضاً إيمانها بالمسيح، الرب المتجسّد من نسل داود (لوقا 2: 4؛ متّى 22: 41-46). هذا كلّه يعني أنّها كانت تعرفه قبل أن رأته بين الجموع، المعرفة سابقة. هي تناديه بصفته المسيح المخلّص الذي يُجري الحقّ والعدل (إرمياء 23: 5) وقد طلبَت إليه أنْ يَشفي ابنتَها. أليس المزمور يقول أنَّ جميع الأمم سوف تُسبِّحه وسوف تمدحُه سائرُ الشعوب (مزمور 117: 1)؟ ومَن يقول أنَّ الكنعانيين لم يكونوا شعب الله وأنهم لم يعرفوه مطلقاً؟ أليس “إيل” هو الله في لغة الكنعانيين وقد سمّى اليهودُ اللهَ أيضاً بـ “إيل” و”الوهيم” على طريق الجمع؟

ولكي نفهَم جواب الرب يسوع، يجب أن نفهم أولاً صمته. إذ يقول القديس متّى أنَّ الربَّ يسوع، عندما صرخَت إليه الكنعانيّة ليشفي ابنتها الواقعة تحت تعذيب الشيطان، لم يُجِبْها بكلمة وكأنّه كان ينتظر جواب أحدٍ آخَر! فماذا حصل عندما سكت؟ يقول القديس متّى: “دنا إليه تلاميذُه وسألوه قائلين: ’إصرِفْها، فإنها تَصيحُ في إثرِنا!‘” لاحظوا هنا، التلاميذُ يجيبون جواباً لا يَنِمُّ عن شفقة على الإطلاق، وكأنَّ مشوارهم مع يسوع حتّى تلك اللحظة لم يَغسل فكرهم من تعليم الفَرّيسيين الشرير الأعوج الذي حذَّرهم منه (متّى 16: 1-12). لم يعتبر التلاميذ أنَّ هذه المرأة جديرةٌ بأن يُنظَرَ في طلبها لأنها غير يهودية، وإنْ كان الشيطان يُعذِّب ابنتَها، فقالوا له أن يصرفها لأنَّ طلبها غير مشروع، وأنتَ يا يسوع الناصري مخلِّص إسرائيل ولا شأن لك بالكنعانيين. هذه هي العقلية اليهودية العقيمة التي كان يسوع يحاربها وقد صارَ واضحاً الآن أنَّ تلاميذ الرب يسوع أنفسهم لا يزالون تحت تأثير التعاليم الفَرّيسية التي أبطلت وصايا الله (متّى 15: 6 و9؛ بالموازاة مع إشعياء 29: 13 وحزقيال 33: 31). فكان لا بُدّ من إظهار فساد هذه العقلية وسوئها. ولهذ السبب وضَع يسوع هذه النّظرة اليهودية تحت الإختبار ليُبيِّن سخافتها وزيفها وبُعدها عن الله الحق، فقال للمرأة:لم أُرسَل إلاّ إلى الخراف الضّلة من بيت إسرائيل”. ولا بُدّ أنَّ هذا الجواب أسعد التلاميذ المتذمّرين منها وأسعد أيضاً الفَرّيسيين. أجاب يسوعُ المرأةَ كما يطيبُ الجواب عند اليهود، لكن جوابها على جوابه كان مُخجِلاً لفكرهم الضيّق، إذ أتت وسجدَت له. لا تنفكُّ المرأة الكنعانية تؤكّد معرفتها الحقيقية له، ولا يتأخّر القديس متّى عن إظهار بنوّتها لله، فيقول أنها قدّمَت له العبادة مع كونه يُرى إنساناً، ومع العبادة في حركة الجسد تتفوّه بكلمات تعبّدية وتقول: “أغثني يا رب”. لقد أصبح واضحاً لعارفي الكتاب أنّها ترتّل ليسوع الناصري تسابيح داود في المزامير؛ فكأنها تقول: “معيني ومنقذي أنتَ يا ربُّ فلا تُبطئ” (مزمور 70: 5)، أو “أعنّي يا ربُّ إلهي. خلّصني حسب رحمتك وليَعلَموا أنَّ هذه هي يدُك” (مزمور 109: 26)، أو “إختبرني يا الله واعرف قلبي. إمتحِنّي واعرف أفكاري وانظُر إنْ كان فيَّ طريقٌ باطلٌ واهدني طريقاً أبدياً” (مزمور 139: 23 و24). هكذ أخجلَت هذه المرأة “الكنعانيّة”، بتواضعها وانسحاقها أمام الربِّ، كبرياء اليهود وصلفهم. ولم يكتفِ يسوع بهذا القدر بل ذهب أكثر في كشف جوهر إيمانها الثمين وكشف إنحراف الفكر اليهودي فقال: “ليس حسناً”، أي لا يَحسُن في عيون اليهود، “أنْ يؤخَذَ خُبزُ البنين ويُلقى للكلاب”. هذا هو فكر اليهودية الذي كان يسوع بعد المعمدان يدينُه، لأنهم ينظرون إلى أنفسهم أنهم أولاد الله والآخَرون كلاب. تذكرون أنهم عندما سلّموا يسوع للصلب لم يَدخلوا إلى دار الولاية لكي لا يتنجّسوا. دخولهم إلى بيتٍ غير يهودي يُعتبر عندهم عمل نجس يتطلّب تطهُّراً، لأنَّ غير اليهود كلابٌّ. حتّى أنَّ بطرس نفسه بعد كل هذا التعليم من يسوع عن ضلال هذا الفكر ونفيه عن الله احتاج إلى رؤية ليدرك أنَّ الله يُقدّس جميع الناس (أعمال 10: 9-16) ولولا ذلك لم يذهب إلى كورنيليوس (أعمال 10: 28). وأيضاً جواب المرأة الكنعانية أخزى فكر اليهود بالأكثر لأنهم لم تعتبر نفسها من الأبرار بل دائماً تَعُدُّ نفسها من الخطأة المحتاجين إلى رحمة الله ورضوانه فأجابَت: “والكلاب أيضاً تأكل من الفُتات الذي يسقط من مائدة أربابها”. كان جوابها درساً قاسياً لليهود وللتلاميذ أيضاً، فاستحقّت على جوابها الثناء من المعلِّم الذي شَهد لها قائلاً: “يا امرأ، عظيمٌ إيمانُكِ. ليَكُن لكِ ما تريدين”. أعطاها سؤال قلبها لأن “كلَّ ما تطلبونه بالصلاة مؤمنين تنالونه” (متّى 21: 22)، “فشُفيَت ابنتُها من تلك الساعة”.

ونحن اليوم علينا أكثر ممّا مضى أنْ نتَّعظ بالمرأة الكنعانية ولا ندَع فكرنا يسقط في يهودية فَرّيسية تدفعنا إلى تصنيف الناس والمحتاجين إلى الرحمة. المحبّة الصادقة، غير النفعية، تنسكب على كلّ مَن يحتاجها: الصديق والعدو، القريب والغريب. كُن محبّاً للناس وشفوقاً عليهم، تكون بذلك ابناً لله لابساً أحشاء رحمة الله الذي يرزقُ جميع الناس: الشاكرين وغير الشاكرين، المتعبّدين وغير المتعبّدين، المؤمنين وغير المؤمنين. بمحبّتك الصادقة الواسعة تجعل المسيح صديقاً للجميع ومُخلِّصاً للجميع.

عظة حول إنجيل متّى 15: 21-28

Leave a comment