كيف نفرح بميلاد المسيح؟

كيف نفرح بميلاد المسيح؟

الأب حارث ابراهيم

ميلاد ربّنا يسوع المسيح هو بلا شكّ “عيدٌ”، والعيدُ دعوةٌ مفتوحةٌ للفرح، ولكن الفرح عندنا لا يكون بالمجون (بالأعمال المُخِلّة) لأنه فرحٌ مقدّس لذا يكون الفرح بالله ومِن الله.

وللتأكيد على أنَّ الفرح هو من الله يقولُ الكتاب المقدّس أنَّ اللهَ نفسَه يفرح إذ عندما خلَق اللهُ العالَم سُرَّ به ورأى كلَّ شيء أنَّه حَسَنٌ، وهذا ما يُردِّدُه مزمور الغروب: “يَفرح الربُّ بأعماله” (مزمور 104/103: 4). كما أنّ اللهَيدعو البشر إلى الفرح إذ يقول الكتاب في سفر اللاويين 23: 1-4، 40: “وكلَّمَ الربُّ موسى قائلاً: كلِّمْ بَني إسرائيل وقُلْ لهم: مواسمُ الربِّ التي فيها تنادون محافل مقدّسة، هذه هي مواسمي … هذه مواسم الرب المحافل المقدّسة التي تنادون بها في أوقاتها … وتفرحون أمام الرب إلهِكم“. ويُكمل في سفر التثنية 12: 12: “وتفرحون أمام الرب إلهكم أنتم وبنوكم وبناتكم وعبيدكم وإماؤكم“. إذاً هذا الفرح هو عملٌ جماعيٌّ (محفل) وهوعملٌ مبارَكٌ يلتئم فيه جميع الناس ويقفون أمام الرب معاً[2] في اجتماع مقدّس[3]. مصدرُ الفرح هو الله وموضوع الفرح هو الله أيضاً[4]، فعندما ندرك أننا محبوبون من الله بهذا المقدار الكبير أنه تنازل إلينا تتهلَّل قلوبُنا ولا تعود تتسع لمقدار البهجة التي تَغمُرها فتكاد تطير من الفرح. يقول المزمور 32: 11: “إفرحوا بالرب وابتهجوا يا أيها الصدّيقون واهتفوا يا جميع المستقيميّ القلوب”، والمزمور 64: 10: “يفرح الصدّيقون بالرب ويحتمي به ويبتهج كل المستقيميّ القلوب“، والمزمور 68: 3: “الصدّيقون يفرحون ويتهلّلون أمام الله ويتنعّمون بالسرور“.

الفرح إذاً ليس جديداً ولكنّه الآن أصبح مرتبطاً ارتباطاً قويّاً بالمسيح، لكون المسيح هو ابن الله المتجسِّد[5] الذي تغلّب على كلِّ آلام البشرية وفتح لنا الطريق للتغلُّب عليها[6]، بما في ذلك أكبر عدوٍّ لنا أي الموت. أظهر المسيحُ محبّة الله الكبيرة لنا نحن البشر فكان عمله دعوةً للفرح ونتلمّس ذلك في الكتاب المقدّس منذ الحبل به إلى مولده ولم يزل حتى قيامته وصعوده إلى اليوم: فيوم سلَّمَ الملاكُ جبرائيل على مريم قال لها: “إفرحي أيتها الممتلئة نعمة[7]، الربُّ معكِ، مبارَكةٌ أنتِ في النساء” (لوقا 1: 28)، وهذا ما نُنشدهُ في المديح أيضاً، وعندما أتت مريمُ الحاملُ بيسوع لزيارة أليصابات الحاملَ بيوحنّا ارتكض الجنينُ بابتهاج في بطنها عندما سمع صوت سلام مريم[8] (لوقا 1: 44)، وبعدما مدَحَت أليصاباتُ مريم وبارَكتها أنشدَت العذراء: “تعظِّم نفسي الربَّ وتَبتهِج روحي بالله مخلّصي” (لوقا 1: 46)، ولمّا ظهر الملاكُ للرعاة الساهرين بَشّرهم بالفرح قائلاً: “لا تخافوا، فها أنا أبشِّركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب؛ إنّه وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مخلِّصٌ هو المسيح الربُّ” (لوقا 1: 10-11)، وإذا أكملنا في حياة يسوع يقول لنا الكتاب أنَّ زكا لمّا قَبِلَ يسوعُ دخولَ بيته استقبَلَه في منزله فَرِحاً (لوقا 19: 6)، والنّاسُ الذين تَحلّقوا حول يسوعَ متابعين أعمال رحمته وتحنُّنه استقبلوه في أورشليم راكباً على جحشٍ وطرحوا ثيابهم في الطريق وابتدأوا “يفرحون ويسبّحون الله بصوتٍ عظيمٍ لأجل جميع القوات التي نظروا قائلين: مبارَكٌ الملك الآتي باسم الرب. سلامٌ في السماء ومجدٌ في الأعالي” (لوقا 19: 37-38)، وعندما قام الربُّ من بين الأموات نَزَعَ الحزنَ من قلوب التلاميذ الذين “فرحوا لمّا أبصروا الربَّ” (يوحنّا 20: 20)، وكذلك الخصيُّ الذي عمّده فيلبُّسُ الشمّاس، يقول القديس لوقا أنه بعد المعمودية “ذهب في طريقه فَرِحاً” (أعمال 8: 39).

الذين في القديم آمَنوا بعمل المسيح الخلاصي كانوا يَترنّمون قائلين: “أمّا أنا فعلى رحمتك توكّلتُ، يبتهج قلبي بخلاصك” (مزمور 13/12: 5) كان الخلاص الذي بشَّر به الأنبياء وانتظروه[9] مصدر بهجة في قلوب المؤمنين، فرحوا لمجرّد أنَّ الله وعَدَ بالخلاص وكان هذا الرجاء وحده يُسبِّب لهم الفرح، فكيف عندما يأتي الخلاص ويتحقّق؟ بالتأكيد سيكون هناك فرحٌ أعظم. والفرحُ لا يكون بدون تعبير خارجيٍّ عنه[10] مثل الابتسام والطرب أوالإنشراح ونرى هذا واضحاً أيضاً في الكتاب المقدّس بتسبيح الملائكة القديسين للطفل المولود “المجدُ لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي النّاس المسرة” (لوقا 2: 14) وبتسبيح الرعاة الذين بعد أن زاروا الطفل في المغارة وأخبروا بأمر الملاك الذي بشَّرهم رجعوا كما يقول القديس لوقا “وهم يمجّدون الله ويسبّحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم” (لوقا 2: 20) وهذا الفرح المترجَم بالتسبيح هو ما عناه القديس يعقوب الرسول بقوله: “أمسرورُ أحدٌ فليُرتِّل” (يعقوب 5: 13) فالترتيل علامة شكرٍ ودليل اغتباط.

إذاً مشارَكتُنا في التراتيل التي تقام في الكنيسة في كل المواسم، ومن ضمنها موسم الميلاد بالطبع، تعني أنّنا مشاركون أيضاً في الفرح وفي التسبيح[11]، هذه هي العلامة الأولى. مَن كان لا يشعر بمثل هذا الفرح يَملأ قلبه ولا يستطيع المشاركة في التسبيح، عليه أن يتوب عن خطاياه ويسعى إلى التنقية هاتفاً مع النبي داود “قلباً نقيّاً أُخلُق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جَدِّد في أحشائي. لا تطرحني من أمام وجهك وروحُك القدوس لا تنزعه منّي. إمنحنيبهجة خلاصك وبروحٍ رئاسيٍّ أعضدني” (مزمور 51/50: 10-12) أي، يسأل اللهَ أن يعطيه ما يكفي من الإيمان ليبتهج بالخلاص الإلهي، تماماً كما قال الرسلُ للرب “زِدْ إيماننا” (لوقا 17: 5). حتّى يبتهج الإنسانُ بخلاص الله يجب أن يكون مؤمناً بهذا الخلاص وبالتالي مُمتنّاً لله فيُنشدَ ويُسبِّح، فإن تَشكَّك أحدٌ في الإيمان أو كان إيمانه ضعيفاً فهو بحاجة إلى قراءة الإنجيل ودرسه بإرشاد أبٍ مختبرٍ ومقتدر، وعندنا في كنيستنا تفاسير كتابية لآباءٍ كثيرين وقد صار هناك عددٌ منها لا بأس به منشور باللغة العربية وفي متناولنا، فلو طالعنا بعضاً منها لساعدتنا كثيراً على التأمّل في تدبير الله لخلاصنا وفي محبّته لنا غير المتناهية[12].

ولا يقتصر الفرح بالعيد على المشاركة في التسبيح مع الجماعة وعلى قراءة الكتاب المقدس وتفاسير الآباء القديسين، بل يتعدّاه إلى ما يجعل العيد مقدّساً (محفل مقدّس). فاليوم المقدّس للرب هو اليوم الذي نبتهج فيه بالرب، نعم، ولكن هو أيضاً اليوم الذي فيه يظهر عمل الله التقديسي في حياتنا نحن وفي مجتمعنا[13]. بمعنى أن نتعلّم السلوك بحسب معاني العيد ومدلولاته، وهذا يَحفَزُنا على تفحُّص بعضٍ من معاني عيد ميلاد السيد المسيح:

أولهاالمظاهرعدم الاهتمام بالمظاهر، وعدم الأخذ بالمظاهر. فالمسيح السيّد الرب وُلِدَ في بيت لحم، لا في القرية حيث لم يستقبله أحد، بل في مغارة[14]، بدون خدم ولا حَشَم، رافقته الملائكة وسبّحته (الحقيقة أنها بقيت ترافقه منذ أن حلَّ في أحشاء القديسة مريم يوم البشارة)، لم يكن يسوعُ يهتمّ بالمظاهر؛ لو أراد لسخَّر الخليقةَ بأسرها لحضوره ولكنه كان عازماً أن يبقى مستتراً إلا عن قلّة تناجيه وتطلبه فلم يُخفِ ذاته عنهم[15]، وحقيقته رغم الفقر الظاهر في حاله وقت الولادة[16] لم تمنع المجوس من السجود له وتقديم العطايا. فالظاهر لا يشير إلى الحقيقة بالضرورة: العظمة الحقيقية هي في القلب الممتلئ نعمة، ومظاهر الأبّهة لا تَصنع مجداً لصاحبها.

وثانيهاالتواضع. فهو ذو المجد والجلال أخلى ذاته واتّخذ صورة عبدٍ (فيليبي 2: 7 و8) فكان معلّماًَ للتواضع (كتواضع العذراء في لقاء الملاك لوقا 1: 48) مِمّا يحدونا إلى توخّي البُعد عن الكبرياء بالإنفصال عن الآخرين لكونهم ليسوا من مستوانا!

وثالثهاالبساطة وعدم التشكيك. فالرعاة آمنوا بقول الملاك وهرعوا إلى المغارة فوراً، والمجوس صدّقوا النَّجم ولم يتشكّكوا من وجود الطفل مقمّطاً في مذود وموضوعاً في مغارة بدل القصر وفراش الحرير كعادة الملوك، كما آمنَت العذراء بقول الملاك وفَعَلَ مثلها يوسفُ. فعلينا أن نكون بسطاء كالحمام ولكن حكماء كالحيّات (متّى 10: 16).

ورابعهاالمسالمة. مسالمةُ الآخَرين وعدم الخصام مع الناس تتطلّب مجهوداً لأن فيها إنكاراً للذات وفيها محبّة لله وللآخرين. فإن كان اللهُ قد صالَحَنا في المسيح (2 كورنثوس 5: 18، 19؛ كولُسّي 1: 20) فالأولى أن نتصالح نحن مع بعضنا البعض[17] عملاً بقول الرب “أريد رحمةً لا ذبيحة” (هوشع 6:6؛ متّى 9: 13) وكقول المزمور “الذبيحة لله روحٌ منسحقٌ، قلبٌ خاشعٌ متواضعٌ هذا لا يرذله الله” (50: 17)، لهذا السبب أوصانا ربّنا يسوع قائلاً: “فإنْ قدَّمتَ قربانَكَ إلى المذبح وهناك ت&#

Leave a comment