القدّيس أفرام السوري: منحاه اللاهوتي

القدّيس أفرام السوري: منحاه اللاهوتي*

سبستيان بروك+

نقله عن الإنكليزية أحد رهبان عائلة الثالوث القدوس

الشاعر كلاهوتيّ

تبدو فكرة الشاعر كلاهوتيّ، لكثيرين، تناقضاً في التعبير: فقد يتعاطى الشعراء الموضوعات اللاهوتيّة، لكننا لا نتوقّع أن يعبّر اللاهوتيّون عن رؤيتهم بالشعر. إذا ما كان من خسارة هنا فنحن الخاسرون لأننا، لقرون خلت درسنا فيها اللاهوت، كثيراً ما ضيّقنا على أنفسنا في ما اعتبرناه طرق البحث اللاهوتي، كما لم نفطن للقول المأثور الذي تفوّه به أحد صغار معاصري القدّيس أفرام، أفاغريوس، الذي كان قدّيسنا ليوافقه الرأي عن طيب خاطر لمّا قال: “إذا كنت لاهوتيّاً فستصلّي بحق، وإذا صليّت بحق فأنت لاهوتيّ”. على هذا لا نستغربنّ إذا ما وجدنا لاهوتاً جيّداً في شاعر كأفرام لأنه درج بوضوح على “الصلاة بحقّ”.

موقف القدّيس أفرام هو بمثابة ترياق طالما احتجنا إليه، ترياق لذلك النهج الذي انشغل اللاهوتيّون، في إطاره، بالتحديدات اللاهوتيّة، horoi باليونانيّة، أي الحدود. بالنسبة لأفرام، ليست التحديدات اللاهوتيّة خطرة، من حيث الإمكان، وحسب، بل يمكنها أن تكون تجديفاً أيضاً. بإمكانها أن تكون خطرة لأنّها إذا ما وفّرت حدوداً معيّنة، فقد يكون لهذه االحدود تأثير قتّال ومفعول تحجيري fossilizing في فهم الناس لموضوع البحث الذي ليس، في نهاية المطاف، سوى الخبرة الإنسانيّة لله. كذلك بإمكان التحديدات العقديّة، في رأي، أفرام، أن تكون، عمليّاً، بعض تجديف لأنّها تمسّ سمة من سمات الكيان الإلهي. فإذ يحاول المرء أن “يحدّد” الله يكون، فعليّاً، قد سعى إلى احتواء من لا يُحتوى، وأن يَحدَّ من لا يُحدّ.

ولمّا كان أفرام قد عاش في زمنٍ كانت النظرة فيه إلى الآريوسيّة، بمختلف أشكالها، أنها مصدر أولي للخطر على الكنيسة، فإنّ الكثير مما أثاره أفرام حول الموضوع يركّز على ولادة الابن أزليّاً من الآب. فالذين جعلوا هذه الولادة داخل الزمن، وبالتالي لجهتنا نحن من الهوّة الكيانيّة القائمة بين الخالق والمخلوق، أمكنهم أن يعالجوا الموضوع باعتبار أن العقل البشريّ المخلوق قادر على التحقيق فيه. بالنسبة لأفرام، وللأرثوذكس بعامة، هذا تجديفٌ مزدوج: فإنّ الأفرقاء الآريوسيين لم يجعلوا الإبن في الجهة المغلوطة من الهوّة الكيانية وحسب، بل انساقوا، بفعل هذا الضلال الأصلي، إلى محاولة التحديد العقلاني لولادة الابن من الآب.

ولكن إذا ما بدت “التحديدات” الإيمانيّة وكأنّها تحصر الله الذي لا يُحدّ، ضمن حدود معيّنة، فكيف يجب على اللاهوتيّ أن يطرح الموضوع؟ إنّ البحث عن تحديدات لاهوتيّة- وهذا ميراث أُخذ عن الفلسفة اليونانيّة- ليس، بحال، السبيل الوحيد للاستطلاع اللاهوتي. فموقف أفرام، المغاير تماماً لهذا الموقف، يعتمد التخالف Paradox والرمزيّة أسلوباً. لذا يبدو الشعر كأداة أوفق من النثر، من حيث أن الشعر أكثر قابليّة على حفظ الديناميّة الأساسيّة والانسياب اللذين يميّزان هذا الموقف اللاهوتيّ.

كيف لا يتحرّك لاهوت التخالف؟ لتمثيل التباين، بطريقة بسيطة، بين ما يمكن تسميته الموقف الفلسفي من اللاهوت، بما في ذلك بحثه عن التحديدات، والموقف الرمزيّ، بإمكان المرء أن يتصوّر دائرة ونقطة في مركز الدائرة تمثّل السمة الإلهيّة موضع البحث. فالموقف الفلسفيّ يهتمّ بإبراز هويّة هذه النقطة ومكانها، بكلام آخر بتحديدها، بإقامة حدود لها. هذا فيما لا يسعى الموقف الرمزيّ إلى شيء من هذا. بالأحرى يمدّنا بسلسة من الأزواج Pairs المتخالفة، واضعاً إيّاها في نقاط متقابلة على خطّ الدائرة. هذا فيما تُترك النقطة المركزيّة من دون تحديد، لكنّ بعضاً من طبيعتها وحركاتها يُستَخلصُ عبر وصل النقاط المتقابلة والتخالفات المتباينة على خط الدائرة. النهج الأوّل يبدو وكأنّه يوفّر فهماً جامداً للنقطة المركزيّة، فيما يعرض لها النهج الأخير فهماً ديناميّاً بصورة أساسيّة.

بين أفضل ما لأفرام من التخالفات Paradoxes كلامه على التجسّد، كمثل المقولات التالية: “العظيم الذي أضحى وضيعاً” . “الغني الذي أضحى فقيراً”. “المخفيّ الذي أعلن عن نفسه”. دونك مثلاً كيف يحاول أن ينقل بعضاً من سرّ ولادة الكلمة الإلهي من مريم: (أفرام يوجّه كلامه إلى المسيح أوّلاً)

أمّك علّة تعجّب: ولجها السيّد فأضحى عبداً؛ ذاك الذي هو الكلمة دخل فلزم الصمت في داخلها؛ الرعد دخل فيها فلمّا يحدث ضجّة؛ إلى هناك دخل راعي الجميع فأضحى فيها حملاً ثغا لما خرج منها.

حشا أمّك قَلَبَ الأدوار:

فمؤسس الكلّ دخل بكلّ غناه

لكنّه خرج فقيراً؛ المُمجًّد ولجها

لكنّه خرج وديعاً؛ البهيّ حلّ فيها

لكنه طلع منها لابسًا حلة وضيعة.

القدير دخل فلبس انعدام الأمان من حشاها.

مموّن الجميع دخل فاختبر الجوع؛ ذاك الذي يسقي الجميع دخل فاختبر العطش؛ عـريانًا مجردًا أتى منها ذاك الذي يستـر عري الجميع. (الميلاد 6:11-8)

بعض المفاهيم والموضوعات الأساسية

في كتابات أفرام يلقى المرء عددًا من المفاهيم الأساسية والموضوعات المتكررة التي نحتاج لأن نكون على بيّنة من البعض منها منذ البدء لأنها بمثابة مبادئ للغته اللاهوتية.

الخالق والخليقة

يدرك أفرام أن الفصل حاد بين الخالق والخليقة. في أحد أناشيده عن الإيمان(11:69) يتحدث عن هذه الفجوة الكيانية كهوّة، وهو بذلك يعكس التعبير الوارد في مثل لعازر والغني (لوقا 26:16). على امتداد هذه الهوّة “ما هو مصنوع لا يمكنه أن يصل إلى صانعه” (الإيمان 30:2). هذا معناه أنه ليس لدى “الطبائع” المخلوقة ما تقوله بشأن الطبيعة الإلهية.

على أن الوضع المحدد لهذه الهوّة بين الخالق والخليقة كان، في القرن الرابع، كما رأينا، موضع خلاف. يجعل أفرام موضع الكلمة الإلهي في جهة الخالق من هذه الهوة الكيانية، فيما تنتمي الكائنات الملائكية، جنبًا إلى جنب والكائنات الأرضية، إلى جهة الخليقة.

يرتبط بهذا الإدراك بشأن عجز أي من المخلوقات عن عبور هذه الهوّة إلى الخالق تسليم، يشترك فيه أفرام وعدد من الآباء، مؤدّاه أن العقل الذي يقتني معرفة شيءٍ ما ينبغي أن يكون أعظم من مادة معرفته. على أساس هذا الفهم للأمور، كل من يدعي إمكانية معرفة الله، وبالتالي وصفه، فكأنه يقول أن العقل البشري قادر على “احتواء” الله الذي لا يحتويه شيء. من هنا نفور أفرام من محاولات استقصاء (aqqueb) أو تفحص (b s a) طبيعة الله.

كل من كان قادر على استطلاع أمر ما

أضحى حاويًا لما يستطلعه؛

إن معرفة تفضي إلى احتواء الكلي المعرفة

تكون أعظم منه،

لأنها قادرة على قياسه بجملته.

عليه فإن إنسانًا يستطلع الآب والإبن

لهوَ أعظم منهما!

وحاشا أن يكون الأمر كذلك وأناثيما

أن يكون الآب والإبن موضع استطلاع،

فيما يتعظّم التراب والرماد! (الإيمان16:9).

إن تحذيرات أفرام المتكررة من “استقصاء” و”تفحص” التواري الإلهي يجب ألا تسوقنا إلى اعتباره معاديًا لما هو عقلاني. كلا البتة، فالعقل البشري، كما يراه هو، له مجال تحرك واسع في دائرة الخليقة، حيث يتمثل دوره في البحث عن نماذج ورموز ميسرة تعينه على فهم الحقـيقة الإلهية. فقط عندما يسعى العقل إلى عـبور الهوة الكيانية يستأهل الشجب. فالنطاق الموافق للاستطلاع العقلي محدود بالمواضع التي أظهر فيها الله نفـسه في العالم المخلوق، في المعلَنات. من هنا قول أفرام في أحد نشائد الإيمان(9:8):

ثمة استطلاع عقلي في الكنيسة

يستقرئ ما سبق إعلانه:

لم يكن العقل ليتفحص المخبوءات.

ويأتي هذا بنا إلى موضوعـنا التالي: التوتر المبدع في استعمال أفرام المتزايد لتعبيري”المعلَن” و”المخبوء”.

المخبوء والمعـلن

إن استعمال أفرام لإحدى هاتين اللفظتين، “المخبوء” و”المعلَن”، مؤشر على اعتماده واحداً من منظورين مختلفين تمام الاختلاف. فهو بالأحرى يستعين بما يمكن تسميته”المنظور البشري”: الله مخبوء إلا بقدر ما يكشف هـو عن نفسه. هذه الخبرة البشرية للتواري الإلهي (kasyuta) ممكنة فقط من خلال ما يكشف هـو به عن نفسه. بالنسبة للمخلوق، اختبار الإعلانات الذاتية لله، على تفاوتها، الواحدة بعد الأخرى، لا يمكن إذا ما ضُمّ بعضها إلى البعض الآخر أن يؤول إلى إعلان كامل للتواري الإلهي؛ فالكشف جزئي أبدًا. هذا معناه أن المنظور البشري ذاتي الطبع بصورة أساسية: كل فرد إنما يقرب تواري الله عبر مجموعة مميزة من نقاط الكشف (galyata).

غني عـن القول أنه في التجسّد، صار إعلان التواري الإلهي للبشرية على أكمل ما يكون، مع أن الألوهة، حتى في التجّسد، حافظت على تواريها.

مَن الذي لا يؤدي الشكر للإله المخبوء، أكثر الكائنات تواريًا، الذي أتى مفرِّجًا الإعلان الإلهي، وهـو أكثر الكائنات انفـتاحًا، لأنه لبس جسدًا وأحست به أجساد أخرى، مع أن العقول لم تدركه البتة. (الإيمان7:19)

أو بصورة مسهبة:

رباه، من يقدر أن يحدق في تواريك

الذي صار إلى كشف؛

بلى، قد اعتُلِنَت عتمتك

ولوحظت؛ كيانك المخفي خرج إلى الضوء، بلا حد.

ذاتك المرهوبة حصلت في أيدي من أمسكوك.

كل هذا جرى لك، ربي،

لأنك صرت كائنًا بشريًا.

فالسبح لمن أرسلك،

ولم يعتوره الخوف،

لأنه انكشف ظهورك

وكذا مولدك البشري،

فإن ولادتك من الآب باقية بمنأى من الناس

وقد حيّرت كل الذين نظروا فيها. (الإيمان2:51-3)

وعلى خط مواز ٍلهذا المنظور البشري، الذاتي، ثمة منظور آخر هو منظور الحق الإلهي (Shrara، qushta). هنا نقطة الانطلاق ليست الخبرة البشرية لله، بل كيان الله الفعلي (ituta) ذا الوجود الموضوعي، الممكن اختباره فقط بطريقة متوارية ذاتية. ليست النماذج (Types) والرموز نقاط كشف galyata من هذا المنظار، ولا حالات من الإعلان الإلهي الذاتي من خلال الخليقة المنظورة، بل لها تواريها الذي يشير إلى شيء ما سوف يستعلن في المستقبل: ما هـو “مخبوء” في رموز الطبيعة والكتاب المقدس ينكشف في المسيح، في التجسد: أما ما يبقى مخبوءًا في الأسرار فلسوف يستعلَن في آخر الدهور، في الفردوس.

في شعر أفرام يتحابك هذان المنظوران بشأن المخبوء والمعلن على نحو خلاق إلى حد بعيد. حالة التوتر التي يحافظ أفرام عليها ما بين هذين القطبين ليست سوى حالة توتر بين تسامي الله وإقامته فيما بيننا.

أولية الإيمان

وثمة مسلمة أساسية أخرى عند أفرام مؤدّاها أنه فقط بالإيمان تقدر البشرية أن تقتني معرفة ما لتواري الله : “بالإيمان يكشف الله عن نفسه” (الإيمان 2:72). الإيمان شرط مسبق للفهم. وكما سنرى بعد قليل، الشرط المسبق لأي استقصاء لاهوتي هو الإيمان القويم مقرونًا بموقف دهش وحب.

الزمنان

هذا ليس موضوعًا يعالجه أفرام مباشرة، ولكن إذا ما كان لنا أن نفهم شعره حق الفهم فعلينا، أولا، أن نعي التمييز الضمني في أشعاره بين الزمن العادي، التاريخي، والزمن المقدس. هذا التمييز طبعًا، مألوف لدى طلاب الأنثروبولوجيا والدين المقارَن( وهو أساسي لفهم موافق لليتورجيا)، لكنه منسي، في الغالب، في مجتمعاتنا المعاصرة ” المتقدمة”.

فالزمن العادي خطي الطابع. كل نقطة فيه لها ما يسبقها وما يتبعها. أما الزمن المقدس فلا يعرف ما هو قبل وما هو بعد، فقط الآنية الأزلية. ما هو مهم بالنسبة للزمن المقدس هو مضمونه، لا موضعه الخاص في الزمن الخطي. هذا معناه أن الأحداث الحاصلة في نقاط مختلفة في التاريخ، والتي تشترك في المضمون الخلاصي ذاته- كمثل ولادة المسيح ومعموديته وصلبه ونزوله إلى الجحيم وقيامته- كل هذه الأحداث تتضافر معًا في الزمن المقدس لتجعل المضمون الخلاصي قابلاً لأن يتمحور حول أي من النقاط المتعاقبة في الزمن الخطي. هذا يفسّر، مثلاً، كيف أن معمودية المسيح، مع أنها تأتي قبل موته وقيامته في الزمن الخطي، جرى فهمها في التراث السوري المبكر باعتبارها أساسًا للمعمودية المسيحية .

كذلك مفهوم الزمن المقدس مهم في نشائد أفرام من منطلقين آخرين:

أولاً: يلقي الزمن المقدس ضوءًا على فهم أفرام لمغزى نزول المسيح إلى الجحيم، أي للعالم التحتي للأموات. ففيما تشكل حياة المسيح المتجسدة على الأرض مدخلاً إلى المكان والزمان التاريخيين، في فلسطين القرن الأول، يتركز الاهتمام في النزول إلى الجحيم على الزمان والمكان المقدسين وحسب: هذا معناه دخول المسيح إلى الزمن الفائت والآتي معًا، وهو غير محصور في مدى جغرافي. النزول إلى الجحيم، والحال هذه، له أهمية بنيوية في رسم صورة للخلاص تعادل أهمّيتها أهمية الحياة الأرضية للمسيح، من حيث أنها تتفادى الاتهام بالخصوصية أي أن يكون عمل المسيح محدودًا باعتبارات الزمن التاريخي والمكان الجغرافي. إن الغرض من عقيدة نزول المسيح إلى الجحيم هو بالضبط أن يبين أن التجسد يؤثّر في كل الزمن التاريخي وفي كل المكان الجغرافي. لتحقيق هذا الأمر، لا بد من الحديث بلغة الزمن المقدس والمكان المقدس، وبالتالي لا يمكن وضع النزول إلى الجحيم إلا بطريقة قصصية شعرية، الشيء الذي يؤدّيه أفرام بدينامية كبيرة في النصف الثاني من منظومته النشيدية النصيبية.

المنطلق الثاني لأهمية مفهوم الزمن المقدس في فهم فكر أفرام يختص بالتوتّر بين الخبرة المسيحية لسريّ المعمودية والشكر في الزمن التاريخي وتحقيقهما الكامل في الزمن الأخروي. وبما أن الحياة الفردوسية في الزمن الأخروي تنتمي إلى الزمن المقدس، فإنه من الممكن للأفراد أن يختبروها، مسبقًا في الزمن التاريخي على الأرض، ولكن بدرجات متفاوتة.

الواحد  والكثرة

إن الحرية، التي بها يمتزج ما هو فردي بما هو جماعي والعكس بالعكس في الفكر السامي، أمر مألوف لدارسي العهد العتيق. هذه الطريقة في التفكير سارية تمامًا في كتابات أفرام، خاصة عندما يتحدث عن آدم: “آدم” عند أفرام يمكن أن يشير إلى الفرد، كما في رواية التكوين، ويمكن أن يشير إلى الجنس البشري بعامة، أو حتى لهذا وذاك بالتتابع. آدم هو كل رجل. إشارة الرسول بولس إلى المسيح باعتباره “آدم الأخير” (كور45:15) تتّخذ، بهذا المعنى، مغزى خاصًا بالنسبة لأفرام: ففي عدد من المناسبات يتحدث بتخصيص عما لبسه الكلمة في التجسد أنه “جسد آدم المائت” وعن “جسد آدم الذي ينتصر في المسيح” (الصلب11:5). أو قد يستعمل أفرام لفظة “آدم” ليربط فعل التجسد بالزمن الأول والإسخاتولوجي معًا:

مبارك الذي لبس آدم

فجعله يرتكض ويعبر

على الخشبة إلى الفردوس.

والتوتّر الخلاق إياه، بين الفردي والجماعي، تمكن ملاحظته في فهم أفرام للعلاقة بين المسيحي كفرد والكنيسة. الكنيسة هي التي جرت خطبتها إلى المسيح في المعمودية في الأردن، فيما نفس الفرد هي المخطوبة في كل احتفال معمداني مسيحي.

نمط الخلاص

لقد كان خلق آدم وحواء(البشرية) في حال وسطى، لا هما مائتان ولا خالدان، فكانت ممارستهما لإرادتهما الحرة في الامتناع عن الأكل من ثمرة شجرة المعرفة هي التي حسمت الأمر. فلو حفظا الوصية (وأفرام يؤكّد كم كانت بسيطة)، لكان الله كافأهما لا بإعطائهما ثمرة شجرة المعرفة وحسب، ولكن ثمرة شجرة الحياة أيضًا، ولجُعلا خالدين وأُلِّها. غير أن واقع الحال أنهما أخفقا في حفظ الوصية، فطُردا من الفردوس وأُخضِعا للموت الذي يعتبره أفرام خلاصًا رحمانيًا من التبعات الرهيبة لعدم الطاعة.

من هنا أن تدبير الله كان توفير الواسطة لإعادة آدم/البشرية إلى الفردوس، مع الإستمرار في توقير هبة حرية الإرادة التي منحها للبشرية. ولكن لم يكن الله ليرغب في عودة البشرية إلى الحال الأولية الوسطى في الفردوس. في الفردوس الأخروي، ما ينتظر البشرية هو هبة الألوهة من شجرة الحياة، وهي ما قصده الله لآدم وحواء أصلاً. الفردوس الأولي والفردوس الأخروي ينتميان كلاهما إلى الزمان والمكان المقدسين، فهما موجودان أبدًا وموصولان مباشرة بنمط الخلاص المقدّم لكل كائن بشري. أما الطرد من الفردوس فيمثل الإنتقال من الزمان والمكان المقدسين إلى الزمان والمكان التاريخيين، أي الدخول إلى العالم الساقط للمكان الجغرافي والزمان التاريخي اللذين نحن عارفون بهما جيدًا.

هذا ويلاحظ أفرام النمط التفصيلي لتكامل سيرورة السقوط وسيرورة الإستعادة: كل التفاصيل بشأن السقوط يصبح معكوسًا بحيث يعرض علينا سلسلة من النماذج المتخالفة على رأسها آدم والمسيح، وحواء ومريم. يتّصف تاريخ الخلاص، والحال هذه، بكونه سيرورة استشفائية تمتد، في آن، إلى الوراء لتبلغ الزمن الأولي، وتنزل إلى أعماق حالة السقوط البشري. ففي التجسد، لا يلبس الله الكلمة “آدم” و”جسد آدم” وحسب، بل “جسدنا” و”البشرية” و”حالنا الضعيفة” أيضًا.

إن نمط التكامل يبدأ باستجواب مريم، بحكمة، للملاك، في مقابل إخفاق حواء، بغباء، في استجواب الحية. هذا التباين التراثي، بين طاعة مريم وعصيان حواء، ولّد لدى أفرام صورة الشيطان وهو يسكب السّم في أذن حواء. في مقابل ذلك توصف مريم بأنها حبلت عبر الأذن:

كما أنه عبر الحشا الصغير لأذن حواء

دخل الموت وتدفّق

كذلك من خلال الأذن الجديدة لمريم

دخلت الحياة وتدفّقت.

نمط التكامل هذا يصبح مترابطًا بإحكام في الآلام، كما تبيّن هذه الأبيات:

في شهر نيسان سدّد الرب

ديون آدم الأول ذاك:

أعطى في نيسان أعراقه في مقابل أعراق آدم

وأعطى عن شجرة آدم الصليب

اليوم السادس من الأسبوع قابل اليوم السادس للخليقة.

كذا كان عند “هبوب ريح النهار” (تكوين8:3).

أنه أعاد اللص إلى عدن (الكنيسة8:51).

أو على نحو أكثر تفصيلا:

ربنا أخضع قوته فأمسكوه

يعطي موتُه المحيي الحياة لآدم.

أعطى يديه لتخترقها المسامير

ردًا على تلك اليد التي قطفت الثمرة؛

ضُرب على الخد في قاعة المحاكمة

ردًا على ذاك الفم الذي التهم [الثمرة الحرام] في عدن،

لأن آدم انزلقت قدمه،

سُمِّرت قدما [السيد].

نُزِعت ثياب ربّنا لنلبس

نحن باحتشام؛

بالمر والخل حلّى

مرارة السم الذي أنفذته الحية

في الجنس البشري. (نصيبية1:36)

النمط إياه طُبِّق على القيامة :

قبر المسيح والبستان هما رمز عدن

حيث مات آدم ميتة مستترة،

لأنه فرّ وأخفى نفسه بين الشجر

كما لو دخل قبرًا وبه تغلف.

الأحد الحي، الذي أودع القبر،

نهض الآن في الحديقة

وأنهض آدم الذي سقط في البستان:

من قبر البستان أتى المسيح بآدم في مجد

إلى حفل الزواج في حديقة الفردوس.(الصلب 13:8).

الإرادة الحــــرة

تلعب الإرادة الحرة في فكر أفرام دورًا بالغ الأهمية. ثمة نشيد له فيه القرار التالي :”أيها الرب، لقد عظّمت الجسد الصغير أكثر من سائر المخلوقات إذ أسبغت عليه الإرادة الحرة”. وكما سبق فرأينا، خلق الله آدم في حال وسطى لكي يكافئه بحال أسمى لو اختار، بملء إرادته الحرة، أن يحفظ الوصية:

لم يكن الواحد العادل ليُسرّ بإعطاء آدم الإكليل

من دون مقابل،

مع أنه سمح له أن ينعم الفردوس بلا تعب.

عرف الله أنه لو أراد آدم لقدر أن يحظى بالمكافأة.

هذا كان لأن العادل الأحد رغب في تعزيزه،

فإنه ولو كانت مرتبة الكائنات العلوية عظيمة

بالنعمة،

فإن الإكليل الممنوح للإنسان عن حسن استعمال إرادته الحرة

ليس بأقل منها. (الفردوس 8:12).

بسبب سوء استعمال آدم إرادته الحرة قُذف من الفردوس، وبفضل حسن استعمال القديسين لهذه الموهبة كوفئوا:

مبارك الذي حاك الوصايا

لكي يكون للإرادة الحرة أن تتكلّل بها؛

مبارك الذي أكثر الأبرار،

الشهود الذين أذاعوا بالإرادة الحرة. (الكنيسة9:3)

لقد كان بإمكان الله أن يُجبرنا على إرضائه ولا يزعج نفسه. لكنّه جهد بكلّ الطرق ليتيح لنا أن نسلك في مرضاته عن إرادة حرّة منّا (الإيمان 5:31).

جيل نوح أعطى أفرام ممثلاً ممتازاً لحسن أو إساءة استعمال الإرادة الحرّة:

خذ نوح مثلاً: قادر هو على تبكيت

معاصريه برمّتهم، لأنهم لو رغبوا

لكان بإمكانهم هم أيضاً أن يزدهروا،

لأنّ قوّة إرادتنا البشريّة الحرّة

كانت واحدة فيهم وفي نوح. (الكنيسة 9:3).

وليس نشاط الإرادة الحرة محصورًا في المجال الخلقي، فإنه وقف علينا بالكلية أن نستجيب لمختلف أشكال إعلان الله عن نفسه: “إرادتنا الحرة هي مفتاح كنزنا”(الكنيسة 5:13).

الإرادة الحرة نصيب كل واحد منا بالمقدار عينه، ولو لم تظهر بوضوح في أولئك الذين استعبدوا أنفسهم بأنفسهم للخطيئة. هذا الأمر يفسره أفرام مستعينًا بمقاربة طبيّة:

إن طبيعة إرادتنا الحرة هي إياها في كل واحد:

فلو كانت قوتها ضعيفة في الواحد، لكانت ضعيفة في الجميع،

ولو اشتدّت في الواحد لكانت كذلك في الجميع.

طبيعة الحلاوة تبدو حلوة لمن كان في صحة جيدة،

وتبدو مُرّة لمن كان مريضًا؛ كذلك بالنسبة للإرادة الحرة:

مريضة ًتكون للخطأة ومعافاة للأبرار.

متى أراد أحد أن يفحص طبيعة الحلاوة

فهو لا يفحصها أو يجربها في أفواه من اعتلّوا:

بل الفم المعافى هو الذي يوفّر الآتون

لاختبار الأذواق.

أيضًا متى رغب أحد في امتحان قوة الإرادة الحرّة

فلا يمتحنها في النجس، المعتلّ في أفعال بشعة؛

كلا، بل الإنسان الطاهر، المعافى، هو الذي يمدّنا

بالآتون الذي فيه نختبر ذلك.

ولو كان المريض ليقول لك أن طعم الحلاوة

مرّ، فالحظ مقدار ما نمت عليه علّته،

حتى أساء إلى الحلاوة التي هي

مصدر المباهج.

أيضًا لو قال لك بعض النجسين

أن قوة الإرادة الحرة واهية، فالحَظْ

كم قطع رجاء نفسه

بإفقار الإرادة الحرة، وهي الكنز

الذي اقتنته البشرية (الكنيسة18:2-23).

قــيمة الجـــسد

ينأى أفرام بعيدًا عن النزعات الأفلاطونية أو الثنائية مما يميّز بعض التيارات في الزمن المسيحي المبكّر. هؤلاء سعوا إلى الطعن في قيمة الجسد. نقطة الإنطلاق في موقفه الإيجابي أن الجسد هو جزء من خليقة الله، وبالتالي لا يجوز احتقاره، حتى لا نقول اعتباره شرّاً بحال.غير أن لأفرام بشأنه ثلاثة اعتبارات أخرى مهمة.

أولا بديهية الكتاب المقدس نفسه : في تعليق أفرام على رسالة كورنثوس الأولى(19:6) “أما تعلمون أن أجسادكم هي هيكل الروح القدس الساكن فيكم”، يشير إلى الكرامة التي أسبغها الله نفسه على الجسد إذ جعله “مسكنًا وموطناً للثالوث” (التعليق على الرسائل البولسية). ويستطرد فيورِد قول إنجيل يوحنا(23:14): “إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي، إليه نأتي وعنده نصنع منزلاً”. ثم بعد ذلك يقول، في تعليقه على 2 كورنثوس 5، إنه ” كما استأهلت أجسادنا أن تكون مقرًا لروحه، كذلك يجعلها مستحقة في النهاية لأن تلبس المجد الأبدي”. وفي مكان آخر يتحدث عن الجسد البشري من حيث إنه قد صار هيكلا جديدًا لله، عوض الهيكل على جبل صهيون( الهرطقات 4:42).

ثانيًا، إن كون الله قد “لبس جسدًا” ( الميلاد2:9وغير مكان) يدل على أنه ليس شيء نجسًا أو عديم القيمة في الجسد. ففي المقطوعة التالية، يجادل فئة من المسيحيين يتمسكون بالقول أن الجسد نجس لكنهم يقبلون سر الشكر:

لو كان ربنا قد احتقر الجسد

باعتباره نجسًا أو مكروهًا أو فاسدًا،

لكان يجب أن يكون الخبز المقدس وكأس الخلاص، لهؤلاء الهراطقة،

مكروهًا ونجسًا أيضًا؛

لأنه كيف يمكن للمسيح لو احتقر الجسد

أن يلبس الخبز،

فالخبز مرتبط بذاك الجسد الواهي.

وإذا كان قد سرّ بالخبز الأصم،

فكَم تراه يسرّ بالجسد

الناطق العاقل؟ ( الهرتقات2:47)

الشيء نفسه يُقال عن الله الذي سمح للأجساد البشرية أن تساهم القدسات التي هي جسده ودمه:

ما كان الله ليخلط قدساته بالجسد

لو كان الشرير أصل الجسد (الهرطقات 3:43)

فالجسد والنفس مهمّان سواء بسواء في عينيّ أفرام. فقط لكلّ منهما دور خاص يلعبه:

الجسد يشكرك، ربّي،

لأنّك خلقته مسكناً لك،

والنفس تعبدك

لأنك خطبتها إليك في مجيئك (الهرطقات 5:17)

الجسد هو بمثابة الخدر فيما العروس، التي هي النفس، تلقى الختن السماويّ.

التصوير

يفاجَأ حديث العهد بشعر القدّيس أفرام، للحال، بغنى تصاويره. هنا يكفي أن نبرز قليلاً من صوره المفضّلة.

الألوهة كنار

غالباً ما يصف أفرام الألوهة كنار؛ على ذلك في التجسّد “دخلت النار حشا مريم، ولبست جسداً ثمّ خرجت” (الإيمان 2:4). النار “رمز الروح القدس” (الإيمان 10:40). وفي سرّ الشكر، “الروح القدس هو في الخبز المقدّس، والنار في الخمر” (الإيمان 8:10). في ذبائح العهد القديم، نزول النار من السماء كان علامة الرضى الإلهي (1 ملوك 38:18؛ الإيمان 13:10). بينما في سرّ الشكر “نار المراحم أضحت ذبيحةً حيّةً من أجلنا”، وهي نار نحن، في الواقع، نساهمها (الإيمان 13:10).

هذه النار الإلهيّة لها ميزة مزدوجة، فهي قادرة

على أن تقدّس وأن تدمّر:

مباركون أنتم، يا إخوتي،

لأنّ نار الرحمة نزلت

فالتهمت خطاياكم

وطهّرت وقدّست أجسادكم (الظهور الإلهي 10:3).

الميزة المزدوجة لعمل النار تتمثّل أيضاً، في غير إطار، في استعمال أفرام للاستعارة من علم المعادن، متناولاً بالكلام موضوع الآتون. مثال ذلك:

ليكشف لكم أيوب قحة الشيطان

كيف يسأل ويتوسّل إلى الأحد العادل

مستأذناً ليمتحن أذهانكم في آتون التجارب.

هذا ما قاله الكائن المقيت:

لم يسبق للفضّة أن جُرّبت من دون نار

إذ ذاك يخزى الباطل، وما هو حقّ ينال

ما يستحقّه من مديح (الفردوس 11:12).

اللباس

لعلّ آلَف صور أفرام تلك التي لها علاقة بلبس الثياب وخلعها. فبواسطة صور اللباس يقدّم أفرام، لقرّائه، لوحة متماسكة عن تاريخ الخلاص. تعبيره المفضّل عن التجسّد، في هذا الإطار، هو “لبس جسداً” (تماشياً مع المعنى القديم للفظة السريانيّة esarkothe التي تقابل لفظة “تجسّد” في دستور الإيمان النيقاوي).

الحبل والولادة

وثمّة صورة أخرى مألوفة جداً عند القديس أفرام هي الحبل والولادة. ولعلّ تكرار هذه الصورة عنده إشارة إلى موقف مميّز له من النساء وفهمه لهنّ. يتماشى هذا والتأكيد الذي يميّز المسيحيّة السوريّة المبكّرة للمعموديّة كميلاد جديد بدل أن تكون موتاً وقيامة، باعتبار النموذج اليوحنّائي في مقابل البولسيّ.

العين والنور والمرآة

أفرام، كما يبدو واضحاً، كان مأخوذاً بالمرايا – لا المرايا الزجاجيّة التي نعرفها اليوم، بالمرايا المعدنيّة التي كان يجب حفظها ملمّعة لتعكس الضوء وصورة المتطلّع فيها. استعمال صور المرآة والنور والعين سمح لأفرام بسبر عالم البصريّات في شأن الإدراك الروحيّ.

التصوير الطبيّ

التصوير الطبيّ مألوف، طبعاً، في الكتاب المقدّس، لكنّه عرف بين يدي أفرام تطوّراً كبيراً يحتاج إلى دراسة خاصّة. هنا أشير فقط إلى تلقيب المسيح بـِ “الطبيب الحكيم” أو “الصالح” وبحامل “دواء الحياة”…

رسوم أخرى

كذلك نلقى الصور المستقاة من عالم الزراعة والرماية والإبحار والتجارة والسفر، وسائر مجالات الحياة الأخرى، أقول نلقاها في كلّ موضع في أناشيد أفرام. ولعلّ فيض هذه الرسوم المستمدّة من الحياة اليوميّة في شعره هي السبب في أن شعره يحتفظ بنضارة وفوريّة مميّزة حتّى بالنسبة للقارئ العصريّ.

ولا بدّ أخيراً من ملاحظة ميزة غير متوقّعة في كتابات أفرام، هي روح الدعابة لديه. هذه يستغلّها، في العادة، بأسلوب الانتقاص الذاتي، خصوصاً في بعض المقاطع الأخيرة من شعره، كما في خاتمة أحد الأناشيد الجميلة عن سرّ الشكر:

اطّلع، ربّي، فإن حضني قد امتلأ من فتات

مائدتك،

لم يعد هناك موضع بين ثنايا ثوبي

فأَمسِكْ عنّي عطيتك إذ أعبد لديك،

احفظها في مخزنك مهيّأةً لتعطينا

إياها في مناسبة أخرى (الإيمان 22:10).

صيغ الكشف الذاتي الإلهي الثلاث

إذا لم يكن بإمكان العقل البشريّ المخلوق أن يجتاز الهوة الكيانيّة القائمة بين الخالق والمخلوق فكيف تمكن معرفة أي شيءٍ عن الله؟ جواب أفرام هو أنّه لا شيء البتة كان ممكناً لو لم يأخذ الله نفسه المبادرة ويعبر الهوّة ليعلن عن نفسه لخليقته بطرق مختلفة:

لو لم يرغب الله في الكشف عن نفسه لنا

لما كان هناك شيء في الخليقة

قابلاً لبسط أي شيء واضح بشأنه (الإيمان 7:44).

في رأي أفرام بإمكاننا أن نبرز ثلاث طرائق رئيسيّة تتحقق بواسطتها سيرورة الإعلان الذاتي الإلهي هذه: من خلال النماذج types والرموز الموجودة في الطبيعة والكتاب المقدّس معاً. من خلال “الأسماء” أو الإستعارات التي يسمح الله باستعمالها في الكتاب المقدّس. وبصورة خاصّة، بالطبع، من خلال التجسّد الإلهي.

فالنماذج types والرموز هي بمثابة مؤشّرات. ففي إطار المنظور البشري الذاتي، يمكن اعتبار النموذج أو الرمز إعلاناً عن ميزةٍ ما من ميزات التواري الإلهي (بغضّ النظر عما إذا كان ممكناً لهذه الميزة أن تُستعلَن بصورة أكمل في المستقبل). إلاّ أنّه يبدو في إطار المنظور الإلهي الموضوعي أن الحاصل هو العكس: فثمة ميزة من ميزات الحقيقة الإلهيّة تتوارى في النموذج أو الرمز. يستعمل أفرام جملة من المفردات (بما فيها اللفظة اليونانيّة tupos)، ولكنّه يستعمل بالأكثر لفظة Raza (جمعها Raze) التي تعني “خفيّ، سرّ، رمز”. فالرمز والحقيقة (Shrara) مترابطان بشكلٍ حميميّ لأن الرمز أو Raza ينطوي على “القوّة الخفيّة” أو المعنى (hayla kasya) الذي للحقيقة. يشترك أفرام في هذا الفهم “الراسخ” للفظة “رمز” والعديد من الآباء الروم Greek واللاتين. هذا ويجب التأكيد أن هذا الفهم للرمز يختلف كثيراً عنه في الإستعمال الشائع اليوم حيث يتباين الرمز بحدّة في العادة وما يرمز إليه. وإنّه لأمر ذو مغزى أن جمع لفظة Raza (Raze) أو “أسرار mysteries” هي اللفظة المستعملة في السريانيّة، عادة، لأداء كلمة أفخارستيّة (مقارنة باللفظة اليونانيّة ta mysteria).

من هنا يبدو بوضوح أن فهم أفرام الأكيد لماهيّة الرمز هو الذي يقوده إلى اتخاذ موقف إيجابيّ جداً من الحمّالتين الأساسيتين للرموز، النص الكتابي (وخاصة العهد القديم) والعالم الطبيعي المحيط به. فالكتاب المقدّس والطبيعة (ktaba and kyana) يشكّلان، بالفعل، شاهدين لله، كما هو مطلوب في الشريعة اليهوديّة (يوحنّا 17:8)، فهما:

الشاهدان اللذان يمتدان إلى كلّ مكان،

والموجودان في كلّ آن

والحاضران في كلّ لحظة

يبكّتان غير المؤمن المتنكّر للخالق (الفردوس 2:5)

حيثما أدرت عينيك، هناك وجدت رمز الله

ومهما قرأت، هناك وجدت نماذجه (العذرية 12:20).

بالنسبة لأفرام، كلا الكتاب المقدّس والخليقة يطفح برموز الله وأسراره، الرموز التي يمكن أن تشير عموديّاً إلى كيانه الثالوثيّ أو أفقيّاً إلى ابنه المتجسّد.

على أنّ الله، في الكتاب المقدّس، لا يكشف شيئاً من نفسه بواسطة الرموز وحسب، بل يلبس لغة البشر أيضاً، “يلبس الأسماء”، كما يعبّر هو عن ذلك غالباً. أكثر هذه الأسماء مجرد استعارات مستقاة من أحوال الناس. أفرام يرى في هذا التدبير تنازلاً هائلاً من قِبَل الله الذي انحدر ليلقى البشريّة على أرضها، في لغتها الخاصّة. إلا أن أفرام يصرّ على انّه لا يجوز لنا، من ناحيتنا، أن نسيء استعمال هذا اللطف وفهم هذه “الأسماء” أو الاستعارات فهماً حرفيّاً.

أخيراً، عندنا أكملُ كشف ذاتيّ لله في التجسّد إذ يلبس الله الكلمةُ “جسداً بشريّاً”، ويأتي بالتجسّد في لغة الناس، كما كان الحال سابقاً في العهد العتيق، إلى ذروة لائقة:

إن عظمة الله التي تلبّست بكلّ أنواع

الاستعارات

رأت أن البشريّة لم تُرد أن تلقى الخلاص

عبر هذا السند،

فأرسل الله ابنه الحبيب الذي استعاض عن

المجازيّة المستعارة

التي لبستها عظمة الله قبلاً،

بلبس أعضاءٍ حقيقيّة، كبكر،

واختلط بالناس:

أعطى ما يخصّه وأخذ

ما يخصّنا

حتى بهذا الاختلاط يُحيي حالنا المائتة (الهرطقات 9:32).

الشروط المسبقة للبحث اللاهوتي

اللاهوت كغيره من الحِرَف الفكريّة، يمكن أن يتّخذ إحدى صيغ ثلاث، باعتبار الموقف الذهنيّ للشخص الذي يشرع في البحث. بالدرجة الأولى، يمكن للعقل أن يتوخّى السيطرة وإخضاع موضوع البحث لذاته. هذا الموقف هو ما يميّز الكثير من البحث العلميّ وغيره من أنواع البحث منذ أيام فرنسيس باكون. أفرام، عن صواب أو عن خطأ، يرى، في هذا الموقف، أساساً اعتمده العديد من المفكّرين “الهراطقة” في زمانه. في ميدان اللاهوت، بصورة خاصّة، مثل هذا الصَلَف العقلانيّ مقيت لدى أفرام تماماًً.

وثمّة منحى آخر يتخذ ما يبدو أوّل الأمر انّه صيغة مقبولة أكثر من سابقتها، وهي الصيغة النموذجيّة للكثير من البحث اللاهوتيّ اليوم. هنا يشرع العقل في دراسة موضوع البحث بطريقةٍ حياديّة و”علميّة” قدر الإمكان. وهذا منحى مثمر جداً في العديد من الأوساط وقد جرّبه أفرام، على ما ألمح، لكنّه وجده ناقصاً:

أعدني إلى تعليمك، ربّي: أردت أن أقف إلى الوراء

لكنّي رأيت أن هذا الأمر يزيدني فقراً. فالنفس

لا تحصّل فائدة تذكَر

إلاّ من خلال الحديث إليك (الإيمان 1:32).

المنحى الثالث الذي اعتمده أفرام هو منحى الالتزام، الالتزام قبل كلّ شيء بالحبّ والدَهَش. ففيما ينطوي المنحى الثاني على حركة باتجاه واحد من العقل إلى موضوع البحث، فإنّ المنحى الثالث هو عمليّة باتجاهين، التفاعل فيها متواتر فقط من خلال مثل تفاعل الحبّ هذا يمكن للمعرفة البشريّة للحقيقة الإلهيّة أن تنمو. بهذا المعنى يتابع أفرام كلامه في النشيد الآنف الذكر فيقول:

كلّما تأمّلتُ فيك، ربّي،

اقتنيتُ منك كنزاً حقيقيّاً.

كلّما تأمّلتُ في سمة من سماتك

سرى منك فيض

لا طاقة لي على احتوائه.

منبعك، سيّدي، محجوب

عن الإنسان الذي لا يعطش إليك؛

كنزك يبدو فارغاً

لمن رَذَلَك.

الحبّ هو حافظ

مخزنك السماويّ (الإيمان 32: 3-2).

إنّ الطريقة التي نعي فيها الله والعالم المخلوق من حولنا تتوقّف على موقفنا الأساسي منه، ما إذا كنّا ندركه كموضوع بحث منفصل عنّا (في هذه الحالة يمكننا إما أن نحاول السيطرة عليه أو التعاطي معه كمساوٍ لنا)، وإمّا أن نرى أنفسنا داخلين، بما لا طاقة لنا على تغييره، في علاقة وموضوع بحثنا، وكما هو الحال بالنسبة للاهوت، مستعدّين عمليّاً للإشتراك في السرّ المعروض علينا. بالنسبة لأفرام لا شكّ أن هذه الطريقة الأخيرة ليست فقط الوحيدة الممكنة، ولكن أيضاً الطريقة الوحيدة التي يمكن بواسطتها التماس أي معرفة الله.

وثمّة تلازم جوهريّ بين الموقف المبدئيّ من الارتباط والمشاركة، والإحساس بالدَهَش والوقار. مثل هذا الإحساس بالدهش يتخلل كلّ كتابات أفرام. وكما هتف هو “مباركٌ الربّ الإله الذي أدهش عقولنا من خلال الشؤون الحياتيّة البسيطة” (الإيمان 43). لكنّه، بالأَولى، دُهِشَ حيال الظهور الأقصى لحبّ الله للبشريّة لمّا لبسها بنفسه (الصوم 6:3؛ الهرطقات 7:35). “انّه لَمُدهِشٌ حقّاً أن الله انعطف على الرماد” (الإيمان 11:46).

الدَهَش يولّد الحبّ والتسبيح، و”على قدر ما يكون حبّنا، يكون اقتناؤنا، من خلال التسبيح، لحياة لا حدّ لها” (نصيبية 5:501). والحقّ، أن المرء إذ يحيا من دون تسبيح يحيا كما لو كان ميتاً:

أسبّح الله ما دمت حياًّ، ولا أكون

كَمَن لا وجود له؛

أسبّح الربّ في حياتي، ولا أكون

كميتٍ بين الأحياء.

لأن من يقف بطّالاً يموت مضاعَفاً،

الأرض التي لا تنتج تسلب

من يحرثها (نصيبيّة 1:50).

ومن دون حبّ لا تُبلَغ الحقيقة:

الحقّ والحبّ جناحان لا فصل لأحدهما عن الآخر،

الحقّ بلا حبّ عاجزٌ عن الطيران

والحبُّ من دون حقّ عاجزٌ عن التحليق

فإنّ نيرهما واحد متناغم (الإيمان 12:20).

إن السطر الثالث من هذا المقطع الشعريّ يأتي بنا إلى أمرٍ آخر يرتدي أهميّة خاصّة عند أفرام، فإنّ نقطة الإنطلاق لأي نوع من البحث اللاهوتيّ هو أن نعرف أيّة مجالات لاهوتيّة يمكن استقصاؤها بالعقل البشريّ وأيّة مجالات يتعذّر فيها ذلك علينا. بكلام آخر علينا أن نعرف بالتحديد أين تكمن الهوّة الكيانيّة بين الخالق والخليقة. هذا معناه أنّه إذا لم ينطلق المرء من موقف لاهوتيّ أرثوذكسيّ، فإنّه يُخطئ من أوّل الطريق. فالمفاهيم الأوّليّة الخاطئة لا تفضي إلاّ إلى المزيد من اللغط. هذه كانت شكوى أفرام من شتّى المواقف الآريوسيّة.

كذلك، فقط في ضوء المعتقد الأرثوذكسي يمكن الكتاب المقدّس أن يفسَّر تفسيراً موافقاً:

مفاتيح العقيدة التي تفتح مغالق الكتاب المقدّس

فتحت لعينيّ كتاب الخلق،

مخزون تابوت العهد، تاج الشريعة،

إنّه الكتاب المقدّس بنصّه، فوق كلّ ما إليه،

الذي أدرك الخالق ونقل أعماله:

“معايناً” كلّ ما تكشف من أعمال يديه،

ومواد صناعته (الفردوس 1:6).

تفسير الكتاب المقدّس

ما سمح الله بقوله عن نفسه في الكتاب المقدّس هو، بالنسبة لأفرام، مصدر أوّلي لأي معرفة بشريّة له. فأسماء الله ومختلف النماذج Types والرموز في الكتاب المقدّس تشكّل نقاط تلاقٍ بين الله والبشريّة: الله في تنازله الإلهي انحدر إلى مستوى الفهم البشريّ. من جهة بشريّة، إذا ما كانت الفائدة لتُجنى من هذه الفرصة المعروضة علينا من الله تعريفاً عن نفسه، فثمّة أمران أساسيّان لدينا، كما أشرنا: أوّلاً أن لا نجحد النعمة ونأخذ الأسماء والاستعارات المستعملة لله في الكتاب المقدّس على حرفيتها، وثانياً أن على القارئ أن يلتزم موقف المتقبّل والمنفتح. فلو تعاطى الكتاب المقدّس من منطلق خاطئ، أو استناداً إلى تصوّراته الخاصّة، فإنّه إذ ذاك لا يخيب عن معرفة الله في الكتاب المقدّس وحسب، ولكنْ يمكنه، عمليّاً، أن يقع في الضلال.

من الممكن القول أن للكتاب المقدّس معنى خارجيّاً ومعنى داخليّاً، وفيما يمتّ الخارجيّ إلى نطاق ما يمكن تسميته بالواقع التاريخيّ، يمتّ الداخليّ إلى الواقع الروحي. كِلا المعنيين يتعايش والآخر، على غرار الناسوت واللاهوت في المسيح المتجسّد. إنّ التوازي الذي يراه أفرام بين تجسُّديّ الإله، الأوّل في لغة الناس حين “لبس الأسماء” في الكتاب المقدّس، ثمّ تجسُّد ابن الله بحد ذاته، هذا التوازي يُلقي ضوءاً على فهمنا للكتاب المقدّس وعلى الحاجة التي يراها أفرام في تفسيره لضرورة توفّر الإيمان. ففي غياب الإيمان، يبقى يسوع الناصريّ مجرّد وجهٍ تاريخيّ. إنسانيته، للرائي، هي كلّ ما هو منظور. فقط عندما ينظر الرائي بالعين الداخليّة للإيمان يستبين لاهوت المسيح. كذلك الأمر بالنسبة للكتاب المقدّس. فحيث لا تكون هناك عين داخليّة للإيمان، يكون المستبين هو المعنى الخارجيّ التاريخي للكتاب المقدّس – أي ما يدعوه الآباء بعامّة “الحرف”. هذا هو منظور الدراسة الكتابيّة العلميّة الأكاديميّة. وعلى قدر ما نما فرع المعرفة هذا في القرن الماضي، ازداد هذا المنظور التاريخيّ انتظاماً. بالنسبة لأفرام هذا المنظور غير كافٍ لأنّه يختصّ بالواقع التاريخيّ وحسب. فكما أن عين الإيمان، وحدها، قادرة على التحرّك من الشخص التاريخيّ ليسوع المسيح المتجسّد، كذلك بالنسبة للكتاب المقدّس، فقط عين الإيمان تقدر أن تدخل إلى داخل لتكتشف شيئاً من المعنى الداخليّ، من الواقع الروحي:

الكتاب المقدّس مبسوط كمرآة،

ومن كانت عينه صافية رأى فيه صورة الحقّ (الإيمان 8:67).

من الطبيعي لأفرام، كلاهوتيّ، أن يهتمّ أوّلاً بالولوج إلى المعنى الداخلي للكتاب المقدّس. هذا مستوى غير قابل للاستطلاع إلاّ بالتمييز (Purshana) وبعين الإيمان الداخليّة هذه. أفرام يؤكّد، في الحقيقة، أن التوقّف عند التصريحات البرّانيّة للكتاب المقدّس عن الله والتعاطي معها بحرفيتها عمليّة خطرة. هنا تكمن الخطورة في أنّ هذه التصريحات تؤول إلى مفاهيم خاطئة بشأن طبيعة الله. وهي، في آنٍ معاً،علامة جحود كبير وإساءة فهم لتنازل الله بسماحه للناس أن يتحدّثوا عنه بلغتهم:

إذا ما اكتفى أحد الناس بتركيز انتباهه

على الاستعارات المستعملة بشأن عظمة الله،

فإنّه يسيء إلى هذه العظمة ويمثّلها

تمثيلاً خاطئاً من خلال استعارات

لبسها الله لمنفعة البشريّة،

ويجحد تلك النعمة

التي أحنت قامتها إلى مستوى الطفولة البشريّة،

مع أنّه ليس بين الله وبينها أي شيء مشترك

فهو لبس شبه البشريّة

ليأتي بالبشريّة إلى مثاله (الفردوس 6:11).

ولا نظنّن أن أفرام لا يبالي، أو لا يعير اهتماماً المعنى التاريخي الخارجي للكتاب المقدّس: هذا المعنى الخارجيّ له عنده وظيفة مهمّة على غرار إنسانيّة المسيح. فالمعنى التاريخيّ الخارجيّ والمعنى الروحيّ الداخلي للكتاب المقدّس متداخلان بصورة حميمة ومترابطان كمثل حال الجسد والنفس في الإنسان وكمثل الناسوت واللاهوت في المسيح. المهمّ بالنسبة لأفرام هو الفهم الموافق للعلاقة الداخليّة وكذلك التفاعل القائم بين هذا وذاك. أن ننكر قيمة الواحد ونكتفي بالتركيز على الآخر خطر وضلال في أيّ اتجاهٍ كان. من هنا إنّ صراع أفرام واليهود كان أنّهم نظروا إلى ناسوت يسوع وحسب وإلى المعنى الخارجيّ للكتاب المقدّس فقط وأنّهم رفضوا أن يلِجوا المعنى الداخلي، الأمر الذي لو حدث لقادهم إلى الإيمان بالمسيح:

خزي اليهود

لأنهم فشلوا في دراسة

السبب الذي من أجله كانت الشريعة ولم يجدوه.

في المقابل ذوّبوا معنى الوصايا

وتسلّحوا به،

مكتسين، بلا فهم،

بأصوات الكلمات،

لأنهم لم يتعبوا ليجنوا

آتون الفكر الذي به يستطيعون

أن يمحّصوا الحقيقة والمعنى الأصيل

للكتاب المقدّس (الهرطقات 4:50).

يدرك أفرام بوضوح أن هناك فرقاً كبيراً بين طبيعة التفسير الخارجي التاريخي والتفسير الداخلي الروحي للكتاب المقدّس. الأوّل المحدود بدائرة الخليقة له نهاية. التفسيرات، أقلّه نظريّاً، يمكن تحديدها والقطع بشأنها. فيما التفسير الروحي للكتاب المقدّس يعمل على أساس مجموعة أخرى من القواعد، ويمتاز، أساسيّاً، بالمرونة، وعدد التفسيرات فيه لا يمكن تحديده بصورة نهائيّة. فالأسماء التي لبسها الله في الكتاب المقدّس، وكذلك الرموز والنماذج Types الموجودة في كلّ مكان في الطبيعة والكتاب المقدّس بآن، ما هي سوى نوافذ، أو قلّ مجرّد نقور يمكن التطلّع من خلالها إلى الحقيقة. أوّلاً لكي يرى المرء من خلال هذه النقور فإنّ الشرط الأساسي هو النظر بعين الإيمان، وحيثما وُجدَ فإنّه يعمل بطرقٍ مختلفة باعتبار الأشخاص أنفسهم، أو حتّى بطرق مختلفة بالنسبة للشخص الواحد في أوقات مختلفة. الإنسان الذي تكون عينه الداخليّة “مظلمة” لا يرى الكثير في الكتاب المقدّس، ولكن من كانت عينه “نقيّة صافية” فإنّه يعاين الكثير: “كلّ واحد بمقدار التمييز لديه يدرك الإله العظيم الذي هو فوق الجميع” (الميلاد 200:4).

على هذا النحو، يكون الغنى الهائل للحقّ أو قل الواقع الروحي لعين الإيمان متى حدَّقتَ في الكتاب المقدّس الذي لا يستطيع أحد أن يحتوي كلّ شيء فيه. ثمّة ما لا يحدّ من “التفاسير” التي هي وصف لممل يمكن أن تعاينه العين الداخليّة:

لو كان هناك معنى واحد لكلمات

الكتاب المقدّس لاكتشَفَهُ

أوّل معلّق، ولمّا تسنّى للسامعين الآخرين

أن يختبروا لا تعب البحث ولا فرح الاكتشاف.

بالأحرى، كلّ كلمة من كلمات الرب لها صيغتها

ولكلّ صيغة مقوِّماتها، ولكلّ مقوِّم ميزته.

فكلّ فرد يستوعب بمقدار طاقته ويفسِّر

بمقدار ما يُعطى له (التعليق على الدياتيسيرون 22:7).

ليس الموضوع موضوع تفسير صحيح وآخر مغلوط كما هي الحال في التفسير التاريخي. بالأحرى، التفسير يكون سارياً بقدر ما يكون له معنى بالنسبة لشخص معيّن في وقتٍ معيّن. الخطأ يدخل في الصورة حين يدّعي إنسان ما أنّ تفسيره الروحي هو الوحيد الممكن، أو أنّ المعنَيَين الداخلي والخارجي لفقرة ما لا تنسجمان إحداهما مع الأخرى. هذا حتماً ليس واقع الحال، فكلا النمطَين في التفسير، التاريخي الذي يتعاطى المعنى الخارجي، والروحي الذي يتعاطى المعنى الداخلي، صيغة فريدة للواقع أو “الحقيقة”، والحقيقة الواحدة أو الواقع الواحد لا يلغي الآخر. كلا الصيغتين تتعايش والأخرى بيسر.

أفرام، لأسباب واضحة، لا يهتمّ إلاّ نادراً بالتفسير التاريخي، وحيثما كان له دور يلعبه على هذا الصعيد فما يفضي به ليس مرضيّاً تماماً قياساً بالتقنيّات المتطوّرة للتفسير التاريخي كما نمت على امتداد القرن الفائت. ولكن حيثما كان اهتمامه الأساسي المعاني الداخليّة، الروحيّة، للكتاب المقدّس، وهذا هو قطب اهتمامه في العادة، فإنّ تبصّراته لا تزال قابلة لأن تدهش القارئ العصريّ لأنها تنطوي على عمق كبير.

في هذا المقطع، استخلصتُ ما بدا لي أنّه جوهر فهم أفرام للكتاب المقدّس وتفسيره، والآن حان الوقت لتركِه يتحدّث عن الأمر بنفسه. في هذه الفقرة عن تعدّد المعاني الداخليّة للكتاب المقدّس، يبدأ أفرام بتوجيه كلامه إلى المسيح:

من يقدر أن يستوعب مدى ما يمكن

اكتشافه في قولة واحدة من أقوالك، ربّي؟

فإننا نخلّف فيها أكثر بكثير مما نأخذ منها

كالعطاش يرتشفون من النبع.

واجهات كلمة الرب أكثر بما لا يقاس

من وجوه أولئك الذين يتعلّمون منها. لقد أسبغ

الله على كلمته جمالات شتّى ليتسنّى لكلّ مَن

يتعلّم منها أن يتفحص تلك المزيّة التي تعجبه.

والله أخفى في لبّ كلمته كلّ أنواع الكنوز

ليتيسّر لكلّ منا أن يغتني بها، كائنة

ما كانت الوجهة التي يتأمّل فيها. فإنّ كلمة الله

شجرة حياة تعرض عليك من كلّ صوب

ثماراً مباركة. وهي كمثل الصخرة التي

ضُربت في البريّة وصارت شراباً روحيّاً

لكلّ واحد من هذه الجهة وتلك: “أكلوا

طعاماً روحيّاً وشربوا شراباً روحيّاً”.

على كلّ من خاض الكتاب المقدّس ألاّ يظنّ

أن ما اكتشفه من غنى هو كلّ الموجود، بالأحرى

أن يدرك أنه قابل لاكتشاف القليل

من الغنى الكثير الموجود فيه.

ولا لأنّ الكتاب المقدّس كان غنى للقارئ

فالقارئ يفقره. بالأحرى، إذا لم يكن بمقدور القارئ

أن يجد المزيد فليعترف برحابة الكتاب المقدّس.

إفرح لأنّك وجدت ما في وسعك

ولا تحزن لأنّ شيئاً بقي عنك.

الإنسان العطشان يفرح لأنّه شرب

ولا يحزن لأنّه لم يتمكّن من شرب النبع إلى الأخير.

ليُطفىء النبع عطشك. لا يطفئنّ عطشك النبع!

إذا انطفأ عطشك ولمّا ينقص النبع،

أمكنك أن تشرب ثانية متى عطشت.

ولكن إذا نشف النبع بعدما تملأتَ، فإنّ انتصارك عليه

يكون ضرراً لك. اشكر على ما جنيت

ولا تتذمّر بشأن الفيض الباقي. ما أخذته صار حصّة لك،

وما خلّفته وراءك يمكن أن يكون ميراثك (التعليق على الدياتيسيرون 18:1-19)

* هذا المقال مستقى ممن كتاب “العين المضيئة” (بالإنكليزيّة) للعلاّمة الإنكليزي في مضمار السريانيّات سبستيان بروك. وهو عن الرؤية الروحيّة للقديس أفرام السوري

+ سبستيان بروك هو أهم الأرثوذكسيين العاملين على التراث السرياني وله عدد كبير من الكتب والمقالات في هذا الموضوع

Leave a comment