القدّيس أثناسيوس الكبير

القدّيس أثناسيوس الكبير

إعداد الأب باسيليوس الدبس

إنه البطريرك (البابا)[1] العشرون لكرسي الإسكندرية وهو معروف بـ”حامي الإيمان”و”أبّ الأرثوذكسية” وهو من الآباء المدافعين عن التسليم الحقيقي الأصيل. ولد في صعيد مصر[2] حوالي[3] سنة 296 من أبوين مسيحيَين فقيرين وكان والده كاهناً وقد علّم ابنه روح التقوى والإتضاع[4]. إلتحق بمدرسة الإسكندرية الشهيرة وتردد على البادية حيث تتلمذ على القديس أنطونيوس الكبير[5]. وفي حوالي سنة 313 كان أثناسيوس ينهي دروسه اللاهوتية بالإضافة إلى الفلسفة والبلاغة والشعر ودراسة القانون الروماني، فلفت انتباه اسقفه الكسندروس لحدة ذكائه وسعة إمكاناته فاهتم الاسقف بمتابعة دروسه وفي هذه الفترة (318) أنهى تأليف كتابين وهما: “ضد الوثنيين”، و” تجسد الكلمة” وهو لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره بعدها رسمه شماساً عام 319م. ثم رئيساً للشمامسة وجعل منه أمين سرّه وبادر معه إلىترتيب أمور الكنيسة التي خرجت من مرحلة اضطهاد الإمبراطور ديوقليتيانوس، ورافق البطريرك الكسندروس الإسكندري إلى مجمع نيقية عام 325م، لمواجهة بدعة آريوس.[6]

في 17 نيسان سنة 328م توفى البابا الكسندروس وكان من الطبيعي أن يخلفه القديس أثناسيوس لأنه برهن عن ذكاء وحكمة وشخصية بارزة وفي 8 تموز سنة 328 رسم أسقفاً على الإسكندرية على يد العديد من الأساقفة وكان عمره لا يتجاوز الثانية والثلاثين.[7]

والحقيقة تقال أن هذا القديس العظيم قد عانى من اتباع الهرطوقي آريوس ومن تدخلات الأباطرة الذين أيّدوهم القسوة والأكاذيب والوشايات والنفي إلى أبعد الأماكن، إذ إنه قضى ما يزيد على الثمانية عشرة سنة في المنفى من فترة اسقفيته التي دامت خمساً وأربعين سنة (328-373)[8].

يمكننا أن نوزّع فترة اسقفيته إلى ثلاث فترات غير متساوية، يتخلل كلاً منها زمان نفي فيه أثناسيوس مرّة أو مرتين عن مدينته:

1)     فترة جهاده الأول ضد الآريوسية في عهد الإمبراطور قسطنطين (328-337) والذي نفاه إلى تريف في فرنسا لمدة 18 شهراً، خوفاً على حياته من تهديدات الآريوسيين، الذين اتهموه باطلاً أمام الامبراطور بأنه: منع أبناء الإسكندرية من إرسال الحصة المعينة على الإسكندرية من الحنطة إلى القسطنطينية، بقتل اسقف، بالزنى، بتكسير كأس مقدسة…الخ.

2)      فترة جهاده وقد أدرك معظمه في عهد الامبراطور قسطندس الثاني (337- 361). ففي هذه الفترة عقد مجمع في أنطاكية (339) ودعى إلى عزل أثناسيوس وتعيين الأسقف غريغوريوس الذي دخل الإسكندرية بالقوة وبمعاونة فرقة من الجيش إلى الإسكندرية. توجه أثناسيوس إلى روما ليحظى بحماية اسقف الغرب البابا يوليوس.

توفي البابا سنة350 وأصبح الامبراطور الآريوسي هو الإمبراطور الوحيد فعقد هذا الأخير مجمعَين الأول في مدينة آرل 353والثاني في مدينة ميلانو355 واجبر فيهما الأساقفة الغربيين على توقيع حكم النفي على أثناسيوس مخيّراً إياهم بين النفي والتوقيع.

3)     فترة الجهاد الأخير (نفي فيها للمرة الخامسة ولمدة أربعة اشهر) [9]، والانتصار بعد عهد قسطندس الثاني (361-373). ، والثبات في رعيته بسلام إلى يوم وفاته.

كل هذا الجهاد إنما كان يدور حول شخصانية المسيح والمدافعة عن ألوهية السيد وناسوته والتي أقرّها مجمع نيقية سنة 325 والتي كان الفضل الأكبر لقديسنا الرسولي الكبير. ومن هنا أصبحت حياة القديس أثناسيوس مقرونة بتاريخ هذا المجمع ونتائجه في الأبحاث المخصصة لفكر آباء الكنيسة في القرن الرابع.

ولقد توفي القديس أثناسيوس في 2 أيار سنة 373 وكان من الأساقفة الأوَل الذين اعتبروا قديسين ولو لم يستشهدوا في سبيل الدفاع عن الإيمان.

تعيد له الكنيسة في 18 كانون الثاني و2 أيار من كل سنة.

كتاباته:[10]

عقدية:

1)          ضد الوثنيين

تجسّد الكلمة (سنة 318)

2)         احتجاج ضد الآريوسيين (351)

3)         تاريخ الآريوسية.

أربع مقالات ضد الآريوسية (358)

4)في الثالوث والروح القدس (365)

رسائل موجهة إلى أساقفة، أباطرة، مجامع، …الخ.

تفسيرية:

1.         تفسير المزامير : فيها شروحات تتقدم كل مزمور تبيّن موضوعه العام.

2.         مقال على تفسير المزامير موجه إلى مرسيللينوس يتمحور حول استعمال المزامير في الصلاة ويؤكد شيوع استعمالها في الكنيسة، لأنها تجمع في إيجاز روح أسفار الكتاب المقدس مع تطبيقها للإحتياجات الروحية لكل نفس. ويقول فيها إن ترتيل المزامير ليس بقصد تأثيرها الموسيقي بل ليتمكن المصلّي من التأمل الهادئ في معانيها.

3.         أجزاء متناثرة على إنجيل متّى.

4.         متفرقات على إنجيل لوقا.

5.         حياة وسيرة القديس أنطونيوس الكبير الذي تأثر به كثيراً: ففي سني نفيه بين تريف treves في فرنسا وبين روما وغيرهما من المدن، وحيث نمت صداقات بينه وبين أساقفة الغرب رأى الفرصة مؤآتية لتعريف الغرب بالرهبنة المصرية، فكتب هذه السيرة التي لقيت إعجابا منهم وتراثاً غنياً لنا.

كتابات ضائعة:

هي كتابات جاء ذكرها في كتاباته، أو ذكرها المؤرخون القريبون من عصره مثل المؤرخ سقراط :

1.         خطاب بعثه لتعزية العذارى اللواتي أساء معاملتهن الوالي جاورجيوس الآريوسي (لم يسمح بدفن موتاهن).

2.         رسائله الفصحية إلى القديس باسيليوس الكبير.

أسلوبه الكتابي:

من خلال كتابات هذا القديس نشعر أن إيمانه العميق والثابت هو ما يعطيه الثقة بنفسه ويطبع كتاباته بنفحة روحية مميزة، إنه يريد أن يبرهن عن صحة قوله، فيقول:”من خاصة الدين الإقناع لا الفرض”. فيجمع الإثباتات والأدلّة الواضحة ليظهر حقيقة ما يعرضه.

أمّا اسلوبه فبسيط، منسّق، منطقي، منظّم، فيه شيء من البلاغة والمنطق ومع هذا فقد حرّر أثناسيوس اللاهوت من أفلاطون وفلسفته وبناه على تجسّد المسيح، إنه بهذا الإتجاه متصلّـب الرأي، حازم في الأمور الأساسية ذو قرار لا يتزعزع[11]. في كتاباته تجد بعض التكرار رآه أثناسيوس ضرورياً لكي تصل الكلمة واضحة لمستمعيه:”وجب علينا توضيح المعنى الواحد على وجوه مختلفة لكي لا يظن بنا أننا تركنا ناحية من النواحي كأننا نتكلم عن عجز وتقصير. لأنه خير لنا أن نتعرّض للإنتقاد واللوم بسبب التكرار من أن نترك ناحية كان يجب تفصيلها”.

وإذا كان قديسنا يؤكّد انه يكرر الكلام وإنه يستخدم” وجوهاً أو صوراً مختلفة” فإن الطريقة التي اشتهر بها هي طريقة الحلقات التي تبدأ بحلقة صغيرة تضم فكرة رئيسية ثم تتسع الحلقة إلى حلقة أخرى يضيف فيها فكرة أخرى رئيسية، وهكذا حتى يصل إلى نهاية الموضوع، وهذا ما نلحظه بوضوح في كتابه ” تجسد الكلمة”.

هو يكتب بتسلسل منطقي فريد وتتابع يعبّر عن يقظة كاملة واحتواء شامل للموضوع الذي يريد أن يقدمه للقارئ[12].

تعليمه:

من المعروف قطعاً أن لاهوت أثناسيوس نابع ومرتبط بمدرسة الإسكندرية، التي كانت ولم تزل إلى أيام أثناسيوس وبعده متأثرة بالفكر الأوريجنّي في طُرق البحث والشرح والتحليل، وفي الوقت ذاته كان يصحّح ويقوّم أفكار سابقيه على ضوء الوحي المقدس في الإنجيل. جاهد أثناسيوس ليحوّل نظرة الفلاسفة من لوغوس الفلسفة إلىلوغوس إنجيل يوحنا، ومن اله الفلاسفة إلى الله المستعلَن في المسيح يسوع.

أثناسيوس وغاية الإيمان

جاء الآريوسيون وأنصارهم بمجموعة من النصوص الكتابية ليدافعوا عن موقفهم العقدي وأرادوا حصر البحث اللاهوتي في الكتاب المقدس وحده فاهتموا بالنصوص التي اختاروها لتأييد موقفهم اللاهوتي لكنهم أغفلوا السياق العام للكشف الإلهي. لذلك احتكم أثناسيوس كما ايريناوس قبله إلى ما يسمّى بـ”قانون الإيمان” وقال أن التفسير الصحيح لآيات الكتاب المقدس يصبح ممكناً من خلال المنظور الإيماني، فغاية الإيمان هي الفحوى العقدي الموجود بكثافة في قانون الإيمان وكما حفظته الكنيسة بالتقليد والتراث. وأكّد أثناسيوس أن الكتاب المقدس كافٍ بحد ذاته[13] ولكن إن فُهم في إطار الإيمان الحيّ وبتوجيه من قانون الإيمان نفسه، هذا القانون الذي ليس بسلطة غريبة عن الكتاب المقدس وإنما هو البشارة الرسولية نفسها.

التقليد هو من المسيح نفسه أما التعليم فيتم بواسطة الرسل والإيمان هو من الكنيسة الجامعة. يقول في رسالته إلىسيرابيون:” لننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها وإيمانها الذي أعطاه الرب وبشّر به الرسل وحفظه الآباء، لأن الكنيسة أَُسست عليه، ومن يسقط منه شيئاً لا يُعتَبَر بل ولا يكون مسيحياً” (إلىسيرابيون 28:1). في نظره الكتاب المقدس هو التقليد الرسولي، ومن المميز أن أثناسيوس لم يستخدم لفظة التقليد بصيغة الجمع لأن وحدة التقليد هي البرهان الحاسم الذي قدّمه ضدّ الآريوسيين.

العرفان اللاهوتي

المسيحية ليست اعتناقاً لأفكار خيالية، لا جذور لها في الكيان الإنساني بل أن عرفان المسيح مبني على جذور عميقة مدفونة في النفس وهذه الجذور تحتاج إلى تجديد وانتباه لكون الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله. وتأكيد هذه الحقيقة يتم أولاً بانتشار المسيحية في الوسط الوثني الذي يفيض بالقصص والعقائد والأساطير، وقال، أن خيال الإنسان شيء والعودة إلى حقيقة قدرات الإنسان وقدرات النفس شيء آخر. فالمسيحية ليست فلكلوراً شعبياً وليست صياغة خيالية إنما هي كشف عن حقيقةِ ما هو كائن في النفس من ملامح تُمكِّنها من التعرف إلى خالقها.

إن دراسة العقيدة المسيحية هي دراسة حياة الإنسان وتطوره ودراسة صيرورته إلهاً. لهذا يحتاج الإنسان إلىالعرفان الآتي من الخالق لكي يتمكن من العيش كإنسان ويتمتع بالقدرات والمواهب التي وهبها الله للطبيعة الإنسانية، لذلك فالعرفان الآتي من الطبيعة يجب أن يخضع للعرفان الآتي من المسيح، ولو كان الإنسان في وضع عادي، غير ساقط، لتمكّن من أن يتعلّم الكثير عن الله من الخليقة ومن الكون ومن الآخرين. ولكن بسبب وضعه الحالي فإن هذه المعرفة ليست كافية. فلو كانت كافية لما حدثت كل هذه الشرور الجسيمة مطلقاً. فبعد السقوط لم يكن الإنسان بحاجة إلىنظام فلسفي لينقذه من ضلاله بل كان بحاجة إلىقدرة الله لكي تجدده وتجدد النفس.

هذا ما جعل الإنسان يحتاج إلىعرفان الله حتى يكوِّن عرفاناً حقيقياً، ولهذا جاء الإلـه المتجسد وكشف عن نفسه :”العرفان الحقيقي لا يتم الاّ في اشتراك الإنسان في لاهوت الكلمة”.

أثناسيوس لا يكتفي بالكلام عن العرفان الذي نناله بالإيمان بل يؤكد ضرورة مقارنة الديانة المسيحية مع غيرها من الديانات، فالمقارنة لازمة لفهم الإيمان الذي نؤمن به.

اللاهوت هو تدرّج في فهم التدبير الإلهي لأن هناك تدرّج في التدبير من العهد القديم إلىالعهد الجديد. فبتنازل الإله نتدرّج في معرفة التدبير في حدّ ذاته إلىاللاهوت ويصبح التجسد كشفاً عن الله وإرتفاعاً إلى عرفان حقيقته.

في سيرة القديس أنطونيوس، التي كتبها أثناسيوس، نجد أن أنطونيوس يحاور الفلاسفة الوثنيين الذين جاؤا للإستهزاء به ويقول لهم :” إن الإيمان الحيّ أسبق من البرهان المنطقي، وهو العرفان الحقيقي، والإيمان يستند إلىميل النفس، أمّا الجدلية فتستند إلى فنِّ الكلام. فالبراهين المنطقية ليست مهمة عند الذين يملكون الإيمان الحي، والمسيحيون لا يملكون سرّ الحياة المسيحية في حكمة كلام اليونانيين بل في قوة الإيمان الحقيقي”.

الخلق والخالق

كانت فكرة الخلق عند اليونانيين بدعة ففكرة الخلق لم تكن مقبولة عندهم. العالم بالنسبة لهم كان أزلياً وغير قابل للتغيّر هو مسلَّمة أساسية لبناء أيّ شيء إذ بدونه لا وجود للفكر ولا للخيال ولا المنطق لكن الحركة كانت موجودة فيه، فالكون ليس جامداً بل هناك حركة دائرية فيه.

البشارة المسيحية عند انتشارها شكّلت تحدياً لهذا العقل. هو رسالة صعبة على الفلاسفة طالما أنّ الكتاب المقدس يفتتح كلامه بـ”في البدء خلق (برأ) الله العالم” التشديد المسيحي كان على أن العالم مُحدث وإنه إشارة إلىالخالق، والله هو الذي أحدث شيئاً لم يكن موجوداً أَلا وهو العالم الذي هو سرّ ومعجزة الحرية الإلهية.

أثناسيوس في موضوع الخلق أشار إلى هوة (شقّ كبير) بين الكائن المطلق والعالم المُحدَث. فهناك اسلوبان من الوجود يختلفان إختلافاً جذريا. من جهة، هناك كيان الله اللامتغيّر والسرمدي الذي لا يعرف الفساد والفنـاء، ومن جهة أخرى هناك جريان العالم وتغيّره وفساده وفناؤه، هناك توتر أساسي بين اللافساد الإلهي وفساد العالم المتغير. فلا وجود للتشابه بين المخلوق والخالق.

الثبات والترتيب في الكون منحت للعالم من الكلمةLOGOS [14]. فالخليقة تصمد بتأثير مباشر من الكلمة الإلهي (أي العناية الإلهية). الإنسان نفسه يشارك في عدم ثبات العالم بكونه كياناً مركباً وصائراً من العدم. فهو في طبيعته كائن مائت لكنه يثبت بنعمة الله وكلمته. كلمة الله حاضر في العالم حضوراً دينامياً (بالقوة) وليس بالطبيعة. إنه خارج العالم من حيث الطبيعة. يقول أثناسيوس:” إنه خارج كل شيء من حيث الجوهر وفي كل شيء من حيث قواه. هذا التمييز بين الجوهر والقوى هو تمييز بين كيان الله الداخلي وظهوره الخلاّق في عمل الخليقة”. وكلمة اللهLOGOS هو خالق، لأنه صورة الآب ووجوده لا يرتبط بالخليقة ولا بمخطط الله للخلق. يقول أثناسيوس في كتابه الثاني ضد الآريوسيين:” فكلمة الله لم يصر من أجلنا وإنما نحن صرنا من أجله وفيه خُلق كل شيء. لم يصر من الآب لضعفنا، لأنه قوي وقدير. لكي يخلقنا صار كآداة ؟ ما عاذ الله ‍‍!! الأُمور ليست هكذا “.

الخليقة بحسب أثناسيوس هي عمل إلهي وإرادة مشتركة بين الأقانيم الثلاثة، ووجود الإبن فيعود إلى الجوهر الإلهي أمّا وجود الخليقة فيستند إلى الإرادة الإلهية فقط. إذ كان الكلمة ليس إبناً حقيقياً للآب فالله نفسه ليس أباً حقيقياً وإنما مشكّل ومكوّن للخليقة، وطبيعة الله ستكون عاقرة في وقتٍ ما وغير مخصبة، ستكون نوراً لا يضيء وينبوعاً جافاً وسيكون شمساً بلا شعاع.

يتساءل أثناسيوس :” متى كان الله بدون ما هو خاص به ذاتياً أو كيف يظن أحدٌ أن ما هو خاص به ذاتياً إنما هو غريب عنه ومختلف عن جوهره. وكيف يقول أحدكم إنه خُلق ابناً ليخلق العالم ؟ أليس بقولكم هذا تثبتون ضعف الخالق، إن كان لا يقوى وحده على خلق كل شيء؟ كما لو أنه نجّار أو صانع سفن لا يقدر أن يعمل شيئاً بدون مطرقة أو منشار. في الكتاب المقدس، يقول الله أن المخلوقات مصنوعة، أمّا بخصوص الإبن فلم يستخدم أبداً لفظة صنع. المخلوقات تبيد وأمّا الإبن فباقٍ “.

الله… لم يكتف بمجرّد خلق الإنسان كما فعل بسائر الخلائق غير العاقلة على الأرض بل خلقه على صورته ومثاله، هو مخلوق على صورة الله وليس هو صورة الله، لكنه أعطاه نصيباً من قوة كلمته لكي ينال هذه القوة كما لو كانت إنعكاساً للكلمة، ويصبح بفضلها عاقلاً. وعندما خلق الله الضابط الكل الجنس البشري أعطاه نصيباً من صورته، ربنا يسوع المسيح، حتى إذا ما رأى الصورة أي كلمة الآب، استطاع أن يكّون فكرة عن الآب الذي أبدعه”[15]. لكن بعد سقوط الإنسان مَن ذا يستطيع أن يرى الله؟ أو يعرفه؟

يجيب أثناسيوس ويقول:” مَن الذي يقوم بتعليم العالم عن الآب؟… لعل أحداً يقول أن العقل البشري يدرك الآب من تلقاء نفسه. ولكن العقل البشري يعجز عن مقاومة غواية الأرواح الشريرة. ولعل أحداً يقول أن الخليقة تتحدث بمجد الله. ولكن الخليقة موجودة والبشر لا يزالون يتخبّطون في ضلال عن الله… تركوا الله وأظلمت أنفسهم فصوَّروا لأنفسهم تماثيل وأصنام… حولوا مجد الله إلى الخشب والحجارة. حلّ الكون مكان الله لا بل نصّب البشر أنفسهم آلهة. وعندما احتلت كل هذه مكان الله في نفس الإنسان لم يعد هذا الأخير محتاجاً إلىنظام فلسفي ينقذه من ضلاله، بل إلى قوة الله القادرة على تجديد النفس أو الميلاد الثاني (يو3:3-5)…انحطَّت نظرات البشر إلىأسفل وكأنهم غاصوا في العمق باحثين عن الله في الطبيعة وفي الحسّيات … فجاء الإله المتجسد وأعلن عن نفسه.

إن مخلص الكل، المحبَّ البشر، كلمةَ الله اتخّذ لنفسه جسداً، وكإنسان مشى بين الناس وقابل إحساسات كلّ البشر في منتصف الطريق حتى يتعرفوا على الله في الجسد، وأن يدركوا الحقّ بما يعلنه الربُّ في جسده ويُدركوا الآب به”[16].

الإتحاد بالله

“صار الإله إنساناً ليصير الإنسان الهاً” مقولة أثناسيوس المشهورة تلخّص لاهوته كلِّه بما يتعلّق بعلاقة الله بالإنسان وبالعكس. ويشرح قديسنا هذه العلاقة فيقول :” لقد تأنّس إبنُ الله لكي نتألّه نحن، واستُعلن في جسد إنسان منظور لكي نتقبّل نحن صورة الآب غير المنظور، واحتمل ظلم ووقاحة الإنسان لكي نحتمل نحن ميراث الخلود”[17]. حينما نشترك في المسيح الكلمة (Logos)نشترك في الآب لأن الكلمة هو كلمة الآب.

فلو كان المسيح هو في الآب بالمشاركة وليس من الآب بالجوهر (من نفس جوهر الآب Omoousios)، لما استطاع أن يؤلِّهنا إذ يكون هو نفسه مؤلَّهاً وحسب. فإذا كان الذي يملكه المسيح هو بسبب المشاركة (مع الآب) لاستحال عليه أن يعطيه للآخرين، لأن الذي له لا يكون حينئذ ملكه، بل يكون ملكاً للذي وهبه”[18].

ويشدد أثناسيوس على الوهية السيد كحجرٍ للزاوية[19] في تحقيق خلاص الإنسان فيقول :”لا يمكن للإنسان أن يتأله إذا كان إتحاده بالمسيح إتحاد مخلوق بمخلوق، أو إذا لم يكن المسيح هو من جوهر الله بالحق. كذلك لا يمكن للمسيح أن يحضر الإنسان أمام الآب وفي حضرته لو لم يكن هو كلمة الله بالطبيعة والحق… هكذا لا يمكن للإنسان أن يتأَّله لو لم يكن الكلمة الذي صار جسداً هو بالحقيقة من جوهر الآب وهو كلمة الآب الخاصة. “[20]

“المسيح لم يكن إنساناً ثم صار إلها، ولكنه كان إلهاً وصار إنساناً وذلك لكي يؤلِّهنا…لذلك فكل الذين دعاهم الله أبناء فهؤلاء اختارهم وألّههم بواسطة الكلمة الإبن المساوي له في الجوهر”[21].

“مَن الذي لا يتعجب ويكرِّم هذا … فلولا أن أعمالاً إلهية للمسيح الكلمة قد حدثت بالفعل بواسطة الجسد لما كان ممكناً للإنسان أن يتألّه. وكذلك وبنفس المعنى فلولا أن خواص الطبيعة البشرية الضعيفة (كالموت مثلاً) قد أُسندت للكلمة لما كان ممكناً للإنسان أن يتخلّص منها”[22].

وكما أن الربّ صار إنساناً لما لبس جسداً، هكذا نحن نتألّه بالكلمة إذ نتحد بجسده. وحينئذ نرث الحياة الأبدية معه”[23].

“لقد صار إنساناً ليؤلهنا في نفسه، هو حُبل به ووُلد من امرأةٍ عذراء حتى ينسب لنفسه جنسنا الخاطىء لكي نصير نحن جنساً مقدَّساً، شريكاً في الطبيعة الإلهية، على حدِّ قول بطرس الرسول”[24].

” نحن لا نتألّه إن كنا نشترك في جسد إنسان عادي ولكننا نتألّه لأننا نأخذ جسد المسيح الكلمة بذاته”[25].

[1] لقب بابا كان يطلق على كل أسقف”لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون، لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (1كو 4: 15). ولم يستعمل بمفهومه الحالي إلا في القرن الثالث ميلادي وقد أطلق اللقب في الغرب حينها على أسقف روما كاليستوس ,وبين القرن الثامن و القرن الحادي عشر تركز التعبير على شخص اسقف روما بشكل خاص دون أن يلغى في الإسكندرية. راجع: بحث الجنس البشري عن الله (شهود يهوه)ص 271، Ency. Encarta. (CD).

[2] كان يعيش طفولته في مدينة اخيم ويرجح أنه كان يمارس فن البناء

[3] سنة 293Ency. Encarta. سنة 295Encyc. Grolier. سنة 297 “المسيح في القرآن ص363”

[4] مات والده ودفن في الإسكندرية بعد سنة 358م. (راجع متى المسكين :أثناسيوس الرسولي، ص 27)

[5] “لقد رأيت أنطونيوس مراراً وتعلّمت منه لأنني لازمته زمناً طويلاً وسكبت ماءً على يديه”.

[6] كاهن ليبي ولد سنة 256، تتلمذ على يد لوقيانوس المعلم الأنطاكي كهن في مصر ونادى أن المسيح هو مولود من العدم، فحرمه المجمع المسكوني الأول، فلجأ إلى فلسطين، ثم توجه نحو صديقه أوسابيوس النيقوميذي، وهناك ألّف كتاباً عنوانه “ثاليا” أو “المائدة”تعمّد فيه أسلوباً يجمع الشعر والنثر، ليسهل نقل تعليمه للناس. توفي سنة 336.

[7] راجع أثناسيوس الكبير، مجموعة من المؤلفين، منشورات النور ص20 و Encyclopedie Encarta 98 “Athanase,saint” ، فلسفة الفكر الديني ص 365 : رسم أسقفاً في “7 حزيران”، حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 649 : “سيم اسقفاً عام 326 في سن الثلاثين”.

[8] راجع : Larousse: Dictionnaire Encyclopedique, tome 3, page 120

[9] Encyclopedie Microsoft Encarta (CD)

[10] :لمزيد من التفاصيل راجع :القديس أثناسيوس الرسولي، الأب متّى المسكين، ص 677-680، أو أثناسيوس الكبير، منشورات النور، ص 55

[11] راجع أثناسيوس الكبير، منشورات النور، ص 32و33و35.

[12] راجع : نشرة رعيتي، سنة 1986 العدد 39، ص3.

[13] “إني أعتقد أن الأسفار المقدسة الملهمة كفيلة بحد ذاتها أن تُعلن الحق” (ضد الوثنيين، 1).

[14] يشبّه أثناسيوس علاقة الخليقة بالكلمة بالموسيقي الذي يضبط أوتار القيثارة، ويجعل النغمات ترتفع وتنخفض حسبما يشاء:” هكذا إذ أمسك حكمة الله الكون كقيثارة جعل ما في الهواء متوافقاً مع ما في الأرض، وما في السماء متوافقاً مع ما في الهواء، وأَتحَد الجزء مع الكل. . ” (رسالة الى الوثنيين 3:42)راجع : القديس أثناسيوس في مواجهة التراث غير الأرثوذكسي، ص 161.

[15] تجسد الكلمة: 11:1-3 راجع الرسالة سنة86عدد4.

[16] تجسد الكلمة : 2:15

[17] تجسد الكلمة:54

[18] الرسائل الفصحية:51

[19] الركن الأساسي للخلاص عند القديس أثناسيوس الكبير هو في كمال الطبيعتين في المسيح، أي أنه إله تام، حقيقي، من جوهر الآب نفسه، القادر وحده على خلاص البشر، وأيضاً إنسان تام، آخذاً طبيعتنا بتمامها، ليخلص ما اتّخذه. ولكنّه يشدد أيضاً أن عمل الخلاص هو نابع من الحب الإلهي الثالوثي إذ يقول في حديثه في سر المعمودية، داحضاً تصرّف الذين يعمّدون باسم أحد الأقانيم :” من يرفض هذا الاقنوم أو ذاك من الثالوث الأقدس واعتمد باسم الآب فقط والإبن وحده أو الآب والإبن خلا الروح القدس فذاك لا يشترك بالسرّ أصلاً لأن الكمال والخلاص هما في الثالوث”. (الرسالة إلى سيرابيون 30:1). راجع الأنوار في الأسرار ص 29

[20] العظة الثانية:70

[21] العظة الأولى :22راجع الرسالة عدد 4 سنة 86 ص:27-37.

[22] العظة الثالثة 33

[23] العظة الثالثة 34

[24] الرسالة إلىأدلفوس : 4

[25] الرسالة 71 إلىمكسيموس : 2

Leave a comment