القديس يوحنا الذهبي الفم كمرشد روحي

القديس يوحنا الذهبي الفم كمرشد روحي

الأب جوزف ألن

ترجمة الأب ابراهيم سرّوج

كتب القديس يوحنا الذهبي الفم عدداً من رسائل الإرشاد الروحي سنعتمد من بينها على “رسالة الى أرملة شابة” وعلى “رسائل الى أوليمبيا”. كتب القديس يوحنا الذهبي الفم عدداً من رسائل الإرشاد الروحي سنعتمد من بينها على “رسالة الى أرملة شابة” وعلى “رسائل الى أوليمبيا”.

في عمله الأول نرى كلاّ من الدور الذي تلعبه الكتابة في الإرشاد الروحي وكيف يمكن دمج الأزمنة في عمل خدمة أكثر شمولاً ودائمة التطور. نرى مرشداً يتحسّس الإضطراب الذي يعتري حياة أرملة شابة. بدعوة منها، يدخل الى قصة حياتها ومعه هذه النصيحة الرقيقة:

بما أنه يتوجب على الذين يصابون بالمحن ألاّ يقضوا جلَّ حياتهم في الحداد والدموع، بل عليهم أن يتخذوا ترتيبات مسبقة تحسباً للبرء من جراحهم… فمن المفيد أن نصغي الى كلمات التعزية والواساة. (ص ١۲١ من نصّ الذهبي الانكليزي في آباء نيقية).

“صاعقة وقعت”؛ لقد اجتازت الأرملة الخطوة الأولى من الحزن الذي يعاني منه الجميع بعد الخسارة – “الصدمة”. خلال هذه الفترة، يدرك الذهبي أن ما تقدر المرأة على تعلّمه يسير جداً، ولهذا يظلّ في معظم الوقت “صديقاً روحياً” صامتاً. فيما بعد، ومع تقدم معالجة الحزن، يعلم، بما أوتي من الفطنة وحسن التمييز، أن الوقت اللازم للصمت قد انتهى وآن الأوان للتحدث عن خسارتها. “في الوقت الذي كانت فيه العاصفة لا تزال على أشدّها”، يقول، كان قد امتنع عن قول أي شيء كان يمكن أن “يزيد النار اشتعالاً”. إنه الآن مستعد للدخول الى الأبعاد المختلفة لحياتها.

يواجه في مطلع الأمر مسائل شبابها ومعاناتها، أمنها وثروتها (إذ كان زوجها على ما يبدو ثرياً)، وأخيراً حياتها العاطفية والجنسية. يُبدي في كلّ حالة اعتناقاً واضحاً لها. طريقته في المواجهة ليست محاضرة، ولا هي حديث يحتكر وحده في الكلام (مونولوج)، لكنه منبثق من إصغاء دقيق لمحنتها. هذا يوضح الى أيّ مدى يتساوق الذهبي مع “جذوره اللاهوتية”، لأنه يربط حالتها الخاصّة بنكبة البشرية الساقطة بشكل عام. إنه يتآلف أيضاً مع الوسط الذي تعيش فيه – عصر من الإنحراف والفساد الأخلاقي في ظل حكم الإمبراطور تيودوسيوس؛ انقلابات وتحولات نتيجة الحرب مع القوطيين التي خلّفت الكثير من الأرامل وتركتهم في حالة مشابهة لحالة المسترشدة. يحذّرها من السقوط فيما يُسمّى الإشفاق على الذات والكآبة والقنوط واللامبالاة المتهورة التي يتميّز بها غير المؤمنين (الوثنيين)؛ يذكّرها بأنها مسيحية، وعلى المسيحيين ألاّ يفقدوا الرجاء أبداً. عليها أن تدرك حقيقة مأساتها الحاضرة وتدعها تعمل من أجل خدمتها على أمل أن تنال الحياة الأبدية. يجب ألاّ يفاجئها الوضع، بل عليها أن تمسك به، تعترف به وتستغله كي تقوى – كي تقوى بالضبط لأنه حَدَثَ.

في سلسلة من “أربع رسائل الى أوليمبياس”، يتوجه المرشد نفسه بالحديث الى شمّاسة ووريثة لثروة كبيرة. كانت قد تزوّجت في السادسة عشرة من عمرها وترمّلت على نحو مأساوي في الثامنة عشرة. كانت سخيّة في تبرعاتها لخدمة الكنيسة، للمرضى والفقراء، لدرجة أن الأمبراطور ثيودوسيوس لاحظ الأمر وقرّر أن يحوّل بعض هذه الثروة إلى أغراضه الخاصة بأن دبّر لها زواجاً من إسباني شاب. كانت نصيحة الذهبي إليها، مرة ثانية، بأن تضع رجاءها في الإنجيل، لكنه يطبّق هذه النصيحة على مجاليّ اهتمامها الرئيسيين: الإستعمال الصحيح للثروة والإستعمال الإكليريكي الفاسد.

حول النقطة الأولى، يُعرِّض نفسه لغضب الأساقفة ورجال الدين بتحذيرها من السخاء العشوائي – حتى نحو الكنيسة؛ لأن الثروة هي أمانة منحها الله ويجب استعمالها بحكمة وتعقّل. حول النقطة الثانية، يحاول أولاً أو يوضح لماذا أوليمبيا “حزينة ومغتمّة” بخصوص الكنيسة. يسأل، “هل هو بسبب العاصفة الشريرة الضاربة التي ألمّت بالكنيسة. يعترف “أنا لا أتخلّى عن الرجاء بأشياء أفضل إذا ما عرفت من هو الموجِّه لكل هذا”، وينصحها بأن تتخلّى عن اهتماماتها “بالموقف العابر والزائل الفاني”، وتواجه الشيء الوحيد البغيض والرهيب فعلاً – ألا وهو الخطيئة. يجب أن نحيل كل شرّ أو ظلم الى مسيح الإنجيل الذي قاسى أيضاً من “اللوم والإهانات، من التوبيخ والسخرية التي أنزلها به العدو”. يجب أن نتصرّف كما يتصرّف الله نفسه: “إنه لا يقمع الشر في بدايته”. ومع ذلك، وعلى الرغم مما يمكن أن نعتقده نحن البشر، “فالله نفسه هو الذي يرتّب كل الأمور طبقاً لحكنه الغامضة”. يواجه المرشد ابنته الروحية بالواجب المسيحي الحقيقي الوحيد الذي تواجهه في حالتها الحاضرة: أن “توازن” بين مِحَنِ وبلايا العالم (الشكل الزائل) وبين عالم السعادة السماوية الخالد المقبل والذي نسبق منذ الحياة الحاضرة فنتذوقه. يشجعها قائلاً: “حوّلي ذهنك عن القنوط وخذي التعزية من عملية الموازنة هذه”.

تكشف رسائل الذهبي عن مرشد روحيّ يطلب شهادة الإنجيل على الدوام ويطبّق رسالته وعِبَرَه على أوضاع بشريّة محدّدة، ويظهر هذا بشكل خاص وحيّ في مراسلته مع أولمبيا. في “رسالة الى أرملة شابة”، يكشف عن العناصر اللاهوتية للإعتناق، والتمييز في تحديد وقت الإرشاد، متحدّياً مسترشدته كي تحوّل بمساعدة الله واحداً من أشدّ عناصر الحياة قتامة الى نور. في كلا الحالتين على المرشد الروحي المعاصر ألاّ يُخفق في رؤية التفاعل والتداخل بين ما قاله “الذهبي الفم” والطريقة التي قاله فيها.

عن كتاب “الطريق الداخلي”، للأب جوزف ألن، ترجمة الأب ابراهيم سرّوج، منشورات مكتبة السائح، ص. 125-127، “ممارسو الإرشاد الروحي”

Leave a comment