الكآبة بين العلم والحياة الروحية

الكآبة بين العلم والحياة الروحية

الأب أنطوان ملكي

لا بدّ أن الكثيرين منّا يعرفون أحباءَ لهم، من أصدقاء أو حتّى من أفراد العائلة، يصارعون الكآبة أو الإحباط (depression)، حتى أن كلمة “مدبرس” دخلت لغتنا اليومية. وقد تكون معاناة الإنسان على درجات متفاوتة من الحدة، أو قد تكون مزمنة أو متقطعة. البعض منّا، أو نحن أنفسنا، نتصارع مع هذا الاختلال المنتشِر الذي تُظهر الإحصائيات أنه ثالث اضطراب من حيث الانتشار، إذ يعاني منه ما يقارب 8% من الناس. وكما تتنوع أسبابه تتنوع أيضاً آثاره وتطال الشخص المُعاني وعائلته ومجتمعه.

يظن البعض أن الكآبة هي من نتاج هذا العصر. الواقع هو، على ما تذكر الدراسات، أن انتشارها هو من نتاج هذا العصر بينما وجودها هو من نتاج السقوط. في العهد القديم، عرف أيوب الكآبة وهو يخبرنا: “كَلَّتْ عَيْنِي مِنَ الكآبة، وَأَعْضَائِي كُلُّهَا كَالظِّلِّ” (أيوب 7:17). كما ويقول لنا إرميا: “مَنْ مُفَرِّجٌ عَنِّي الكآبة؟ قَلْبِي فِيَّ سَقِيمٌ.” (إرميا 18:8). وفي العهد الجديد، عرف الرسل وآباء الكنيسة آثار الكآبة المؤذية. يقول الرسول بولس “الحزن [الكآبة] العالمي يولّد الموت”. هذا “الموت” هو موتٌ عن كل عمل اجتماعي ومهني يُنتَظَر أن ننجزه في هذا العالم، وهو “موت روحي” كونه يحجب عن النفس نور محبة الله ويتركنا في ظلام اليأس. يخبرنا القديس يوحنا كاسيان: “لكن أولاً علينا أن نجاهد ضد شيطان الكآبة الذي يطرح النفس في اليأس. علينا أن نطرده من قلبنا. إن هذا الشيطان هو الذي لم يترك قايين يتوب بعد أن قتل أخاه، ولا يهوذا بعد أن خان معلمه”. عرف الشيوخ الروحيون في تراثنا الأرثوذكسي الاكتئاب وكانت لهم مقاربتهم الخاصة في التعاطي معه. أغلبهم اعتبره أحد أعراض الغرور الذي كان دواؤه التواضع.

من عوارض الاكتئاب الكسل المفرط، البكاء، الضجر المستمر، الإنهاك، القلق، الأرق واليأس. هذه كلّها إشارات إلى ضرورة عدم إهمال الأمر والحاجة إلى تفحّص النفس بشكل دقيق. يحتاج الإنسان إلى البحث في داخله عن الأوهام المحطَّمة في حياته، وعن الأحلام المخبأة من دون أن تتحقق، وعن الغضب المكبوت، وعن الأمور التي يمنعه غروره من الاعتراف بأنّها أثّرت فيه. الاكتئاب هو حاجز يمنع الإنسان من الاشتراك والتمتع بثمار حياته. الاعتراف والانفتاح ضروريان لأن الرفض والقمع يساهمان في تنمية الاكتئاب.

من هنا أن أول خطوة في التعامل مع الاكتئاب هي في قبول أنّه ليس مجرّد مرحلة، وأن صاحبه يواجه مشكلة ينبغي علاجها. من ثمّ على المُعاني تفحّص نفسه بشكل واقعي وصادق لاكتشاف ما الذي يقلقه بالحقيقة. قد يكون صعباً على المرء أن يفحص نفسه بنفسه، لذا لا بد من أب روحي أو من معالج. ضروري أن يكون واضحاً أن الأب الروحي ليس طبيباً نفسانياً ولا يحق له أن يلعب هذا الدور، كما أن المعالج النفساني ليس أباً روحياً ولا يحق له أن يأخذ هذا الدور. لكل من الاثنين منهجيته التي تتيح له أن يميز الخيط الفاصل بين المرض الروحي والمرض النفسي. من هنا أنّه متى وُجد الأب الروحي صاحب التمييز والمعالج النفسي المؤمن يصير العلاج ممكناً والشفاء ممكناً.

من الصعب رؤية الأمور التي تسبب الاكتئاب، مع أنها تلازم صاحبها بشكل مستمر. لكن التخلّص منها ليس مستحيلاً بل ممكناً من خلال علاج روحي متزامن مع علاجات أخرى طبية أو سلوكية. هنا، تكمن صعوبةٌ حقيقيةٌ تعيق هذا النوع من العلاجات في بلادنا، وهي تعذّر إيجاد طبيب مؤمن يعرف طريقة الآباء العلاجية، أو حتى يعترف بها. فطريقة الآباء تقوم على الاعتراف والصلاة، والقراءات المختارة، والأسرار التي تقدّم الشفاء الروحي للعقل والجسد والروح، فيما أكثر الأطباء لا يعرفون إلا التحاليل والحبوب.

إن فهم عملية الاكتئاب يساعد في السيطرة عليها، أمّا الشفاء فهو أولاً عطية من الله. متى عرف الإنسان حالته يمكنه أن ينظر إليها كفرصة لأن يكون شخصاً أكثر إنسانية، شخصاً أكثر امتلاءً واكتمالاً، وأكثر إيماناً وحكمة ومعرفة.

Leave a comment