الحياة العائلية

الحياة العائلية

الأب أنطوان ملكي

العائلة المسيحية في خطر لأنّ الحس العائلي في خطر، بالرغم من الكلام الكثير عن الاهتمام بالحياة العائلية في وسائل الإعلام. وعلى مثال أغلب الأمراض الاجتماعية في أيامنا، مشكلة فساد العائلة لا تُحَلّ بمجرد التربية والإعلام والبرامج والقوانين، بالرغم من كون كل هذه عناصر بنّاءة، بل وكما هي الحال دائماً، الشفاء موجود في قلوب الذين يشكّلون العائلة نفسها، والتوبة هي كلمة السر.

فسلوك العائلة الأرثوذكسية بطريقة بنّاءة إيجابية مُحِبَّة معطية للحياة، هو أمر يتطلّب صلاة وتصميماً ونظاماً لا بل يتطلّب موقفاً تبشيرياً. هذا لأن مناخنا الاجتماعي صار لا يساعد عائلاتنا الأرثوذكسية. إنّ التأمّل في هذا المناخ المزعج يؤدي إلى الإحباط واليأس، ما دفع أحد الرعاة لوصفه بأنّه عاصفة من التجارب، بيئة نسيت الله أو رفضته. فبيئتنا تقوم على المادية إذ لا تحثّنا إلاّ على النجاح المادي: العمل، المدرسة، الراديو، التلفاز، الإنترنت، الجرائد، المجلات، وحتى جيراننا. ما يحرّك الحياة اليومية بشكل أساسي هو جني المال والسلطة وتحصيل ما هو أفضل مما عند الآخر. بيئتنا تشجّع على التنافس والخداع، حتى صار الناس يسحق بعضهم البعض سعياً للحصول على الأفضل بأقل ثمن أو بلا ثمن. المتطلبات المادية جعلت البشر عبيداً للتكنولوجيا، وارتفعت كلفة الحياة في السعي وراء الراحة إلى درجة أن العائلات التي لا يعمل فيها الوالدان معاً قليلة جداً. لذا يجد الأهل والأولاد أنفسهم معاً يجاهدون تحت أحمال ثقيلة من المتطلبات اليومية. الإرهاق والقلق منتشران بشكل عام. العائلات تتفكك وأغلب الناس يعانون من الوحدة. البعض يطلب العزاء في التلفاز أو بالتسلية السمعية-البصرية، البعض الآخر يسافر، وغيرهم ينغمس في الشهوات الحسية. يأخذ آخرون طريقاً أخرى من الهرب عن طريق العيش بطريقة زائفة، وآخرون يذهبون أبعد من ذلك إلى الكحول أو المخدرات. إنها عواصف من التجارب.

لذا إذا كنا نرغب بصدق بالتغيير في حياتنا وحياة عائلاتنا، علينا أولاً أن نرفض طرح الملامة على غيرنا وأن نتحمّل مسؤوليتنا. ولكن قبل تحمّل المسؤولية، من الضروري استدعاء معونة الرب. نحن بالحقيقة لا نمسك بزمام كل شيء في حياتنا، ولوحدنا لا نستطيع أن نقوم بكل شيء أو ننجزه. نحن بحاجة لمعونة الله. عندما نستدعي الرب، ندرك كيف قد أُخذنا بالكذبات المتنوعة حول ما هو ضروري في الحياة. إن هذه النقطة المحورية هي نقطة التوبة، حيث نبدأ بتحويل المدّ الذي كان يدفعنا، أو يجرّنا، أو يقذفنا ونفهم أننا لسنا قباطنة أرواحنا ولا ملاّحي أقدارنا. كل حياتنا مترابطة ضمنياً، وما يفعله كلٌ منا وما هو عليه يؤثّر على كل شيء وعلى كلّ شخص في كل مكان. ما أن نبدأ بالنظر إلى ما وراء خداع المادية وحب الكسب والاستهلاك، حتى نبدأ بإدراك أننا بالفعل لا نحتاج كلّ ما يقولون لنا أنه ضرورة، وبأننا نستطيع العيش سعداء بأقل من هذا بكثير، وبأننا لسنا ملزَمين على أن نعيش موجَّهين بالكسب المستمر، وبأننا لسنا بأي شكل مجرّد مخلوقين للشراء. هذا النوع من الإدراك ضروري، لأنّه جذر التوبة وأساس التغيّر نحو الأفضل في حياة الشخص والعائلة والرعية.

إلى أين يقودنا هذا في عائلاتنا الأرثوذكسية؟ إلى التوقف عن معاملة أحدنا الآخر، في عائلاتنا وفي رعايانا، وكأننا سِلَع. البشر هم كالأيقونات: قيمتهم هي في مَن هم، وليس في ما هم أو كم يعرفون ومَن يعرفون أو كم هم جذّابون أو كم يحصِّلون. لهذا نحن نحتاج لأن نبدأ مجدداً في معاملة أحدنا الآخر بمحبة لطيفة صبورة حاضنة، كمثل أزهار ونباتات رقيقة في حديقة. هذا ما شجّعته الأرثوذكسية دائماً، وهناك قصص كثيرة عن أشخاص أتقياء عاملوا البشع والمريض والمحروم والمشوَّه كأزهار جميلة وكظهورات للمسيح.

تحتاج العائلات الأرثوذكسية لأن تتجذّر في محبة المسيح لتكتسب الحياة والقوة لمقاومة مدّ المادية، وهذا يكون عن طريق الانتباه الثابت الذي يتطلّب يقظة. لذا على الأهل أن يقوموا بجهود حقيقية لكي يقودوا أولادهم بالمثال وليساعدوهم من خلال محبتهم للمسيح والقديسين، فيجدوا المحبة والقوة في الحياة لمواجهة كل صعوبة بالرجاء وهزيمة الإغراءات وقهر الخطيئة والعيش في حرية المسيح.

لكن هذا لا يكون بلا صلاة ومن دون قراءة الكتاب المقدس يومياً. لذا ضروري تعزيز العادات المسيحية الحسنة التي تعكس حقيقة أن إيماننا الأرثوذكسي يلامس كل أوجه حياتنا: مباركة الطعام وشكر الله عنه والاشتراك أقله في وجبة واحدة يومياً، مباركة العائلة عند الخروج من البيت، الوقوف وجيزاً قبل السفر، مباركة الله عند النهوض من النوم وعند الذهاب إلى الفراش، وقبل العمل أو اللعب أو مباشرة أي مشروع. في الاتكال على هذه البركة نحن نستطيع أن ننمو. وبهذه البركة نحن قادرون على العيش والمشاركة في محبة المسيح. تنمو المحبة وتزدهر عندما نكون يقظين روحياً. يعلّم الأهل أولادهم اليقظة بالمثال مبتعدين عن الخصومة والدينونة منتبهين من الروح الانتقادية طالبين من الله أن يضع حارساً على أفواههم ويوجّه قلوبهم بعيداً عن الأفكار الردئية.

إذا كنا يقظين أفراداً وعائلات، إذا كنا أمناء، وإذا ثابرنا متشبثين بيد المسيح مخلصنا، سوف نجد أننا، كمثل الرسول بطرس، سوف لن تهزمنا عواصف التجارب، بل سوف نبحر بأمان في سفينة الكنيسة إلى ميناء الأمان حيث الفرح السماوي، فنخلّص نفوسنا ونفوس أفراد عائلاتنا ومجتمعنا.

Leave a comment