صورة العالم المعاصر

صورة العالم المعاصر

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس

ترجمة الأب أنطوان ملكي

 

عبر العصور، حاول كثيرون فهم حالة العالم الذي يعيشون فيه من أجل مواجهة المشاكل التي تطرأ. إن لم يدرس المرء حالة العالم لا يكون قادراً على إيجاد مخارج من المأزق. اليوم نلاحظ أن عديدين يحاولون تحديد صورة العالم المعاصر، بينهم فلاسفة وعلماء اجتماع وعلماء نفس وسياسيون وإعلاميون وغيرهم. في كل الأحوال، يجب أن نلتفت إلى آراء اللاهوتيين وفوق الكل آراء أباء الكنيسة الخالدين.

معروف أن آباء الكنيسة يؤمنون بأن الطبيعة البشرية في حالة سقوط، ما يعني أنها محكومة باللذة الحسية والألم وهذا ما يشكل الخطيئة الأصلية (الجدية). إذاً، كما أظن، علينا أن نرى حالة العالم المعاصر من خلال العلاقة بين اللذة والألم ومن خلال تجاوزهما.

بعد بعض الملاحظات التمهيدية سوف أحاول التركيز على قديس عظيم من كنيستنا يستطيع فعلياً مساعدتنا في ما نواجه في أيامنا، لأنه معروف بعظم نفاذ بصيرته وقدرته الفكرية، إضافةً إلى خبرته الواسعة في الشؤون الإلهية. إنه القديس مكسيموس المعترف، الذي يمكن اعتباره بحق أباً معاصراً لأنه يجمع مواهب كثيرة: المعرفة العميقة للأمور البشرية والتيارات الفلسفية في عصره، وخبرة الله، وأسلوب رائع في الكتابة. وبالإجمال نستطيع القول، انه يجمع المعارف اللاهوتية والفلسفية والاجتماعية والنفسية والوجودية.

مواجهة الألفية الثالثة

إني أومن أننا نقف عند نقطة تحول مميزة في التاريخ. الكل يحكي عن الألفية الثالثة التي سوف يدخلها الجنس البشري بكثير من الآمال. على كلٍ نحن نستطيع أن نفهم الحاضر ونقدّر المستقبل إذا امتحنّا ما جرى في الماضي بتأنٍ. مع خوفي من تعميم الخاص، أود أن أؤكد بعض السمات المميِّزة للألفيتين السابقتين، أقلّه بالنسبة للكنيسة. فمن جهة، تتميز الألفية الأولى بالاضطهادات والهرطقات التي حدثت في الكنيسة وبالطبع أثرت في المجتمع. ومن جهة أخرى تتميز بشهادة الكنيسة وتحديد الإيمان في المجامع المسكونية حيث كان الآباء العظماء في الواجهة. إذاً في الألفية الأولى كان هناك نمو واضح لروح الشهادة، فقد ظهر في الكنيسة الشهداء الذي أعطوا شهادة حسنة عن الإيمان، كما تمت صياغة التعليم الأرثوذكسي عن المسيح الإله الحقيقي وعن الكنيسة. المجامع المسكونية حددت أرثوذكسياً كل ما يتعلق بالمسيح (الخريستولوجيا) والروح القدس والثالوث والإنسان والكنيسة. أيضاً في هذه الفترة ظهرت الرهبنة الأرثوذكسية كردة فعل على دهرنة حياة الكنيسة. معروف بالطبع أن الرهبنة هي خبرة الحياة النبوية الرسولية المشابهة الشهداء تُحيا في الكنيسة الأرثوذكسية.

الألفية الثانية تتسم بالتطور اللاهوتي للهدوئية الأرثوذكسية التي وُجدت قبلها. إذ بعد مواجهة الاضطهادات والهرطقات ورسم خطوط الإيمان الأرثوذكسي الموحى، حاربت الكنيسة الدهرية التي تمثلت بالابتعاد عن المواصفات اللاهوتية الأرثوذكسية، وبخسارة المتطلبات الأساسية للاهوت الأرثوذكسي. من الثابت أن الدهرية مرتبطة بتحول الانسان نحو البعد الأفقي من الحياة وإهماله البعد العامودي نحو الله، إضافة إلى السكولاستيكية(Note) والأخلاقية اللتين نمتا في الغرب. الحقيقة هي أن الكنيسة في الألف الثاني حددت، بشكا أكثر دقة ومنهجية، العقيدة الأرثوذكسية والحياة الروحية الصحيحة التي هي الهدوئية بكل ما تعني هذه الكلمة أرثوذكسياً. وقد فعلت الكنيسة هذا من خلال آبائها العظماء. فالصحيح هو اننا إن لم نعطِ الهدوئية الأرثوذكسية حقها من الأهمية، مشكوك في أننا نستطيع فهم تعليم الآباء عن المسيح (الخريستولوجيا) واللاهوت والتدبير الإلهي والخلاص.

في الألف الأول كان الدور المهم للآباء الرسوليين وبعدَهم الكبادوكيين ثم القديس مكسيموس المعترف فالقديس يوحنا الدمشقي والقديس فوتيوس الكبير. في الألف الثاني كان الدور المهم للقديس سمعان اللاهوتي الحديث فالقديس غريغوريوس بالاماس وكل الهدوئيين إلى نيقوديموس الآثوسي وغيره من الآباء النساك اللاحقين.

قد نحدد في الألف الثاني بعض المحطات الهدوئية التي كان لها دور في تحديد مناخ الكنيسة الأرثوذكسية وإثبات اختلافها عن التقليد الغربي. أحد هذه المحطات هي القديس سمعان اللاهوتي الحديث الذي عاش في أوائل الألف الثاني. محطة أخرى هي التيار الهدوئي الذي ظهر حوالي منتصف الألف الثاني وعبّر عنه القديس غريغوريوس بالاماس وضمّ آباء هدوئيين سابقين مثل غريغوريوس السينائي إضافة إلى غيرهم من اللاحقين. المحطة الثالثة هي تيار آباء الفيلوكاليا المسمين كوليفاد، أولهم القديس نيقوديموس الآثوسي. هذا التيار يمتد إلى أيامنا. فإذا لاحظنا أن الألف الثاني بدأ بحضور القديس سمعان اللاهوتي الحديث وينتهي بالبحث عن الحياة بحسب الفيلوكاليا، وهي مناسِبة جداً لعالمنا اليوم، نستنتج أن الهدوئية، أو ما يسمى بالحياة النسكية، هي ما يشكل السمة المميزة للألف الثاني عند اقترابه من نهايته.

في مواجهة الألف الثالث، نلفت النظر إلى أن السائد هو نزعتان. الأولى هي قوة السلطة المستندة إلى الجزء العقلاني من النفس الذي هو سريع التأثر. تتميز هذه النـزعة بالحياة الدهرية والاهتمام بالأمور العالمية والانصراف عن الأشياء الأخروية والإثارة باللذة والألم الحسيين. النـزعة الثانية هي نزعة الشهيد-الهدوئي الموجودة في الذين إما لديهم عطش كبير إلى الله أو هم خائبون من حياة سهلة ويبحثون عن شيء داخلي وجودي وكياني.

حتى ولو لاحظنا هذا البحث في أيامنا عن الهدوئية والفيلوكاليا، ينبغي التشديد على أن جو هذا الزمن يشير في جهة مختلفة. في نطاق الكنيسة، النـزعة المسيطرة هي إجمالاً تلك التي رسمها استفانوس النيقوميدي الذي اختلف مع القديس سمعان اللاهوتي الحديث. حتى في اللاهوت نلاحظ تحولاً جذرياً، فالجو المسيطر هو الذي رسمه برلعام السكولاستيكي الذي قاوم هدوئية القديس غريغوريوس بالاماس. في الرهبنة، النـزعة المسيطرة شكّلها أعداء الكوليفاد الذين قاوموا روح فيلوكاليا القديس نيقوديموس الآثوسي وغيره من أصحاب الفكر نفسه. إن روح جورج ياميستوس بليثون وبيساريون النيقاوي تطغى على روح القديس مرقس الأفسسي وجناديوس ساكولاريوس في العلاقات الاجتماعية والكنسية.

السعي وراء اللذة والمتعة يسيطر على زماننا في كل مستويات الحياة ولهذا هناك ألم عميق وأسى. ما نراه اليوم هو حكم اللذة الحسية والألم. إذاً المساهمة الرئيسية للكنيسة تكمن في مساعدة الناس على تخطي سلسلة ازدواجية اللذة الحسية والألم داخل حدود حياتهم الشخصية. ما يُسمّى بالمشاكل الاجتماعية سوف يُحل من خلال شفاء هذه المشكلة الأنثروبولوجية الأساسية.

التحليل التالي هو محاولة لدراسة مذهب المتعة المعاصر من خلال مقاربة التقليد الأرثوذكسي لازدواجية اللذة والألم.

أنا أؤمن أن لهذا الأمر نتائج مهمة على الحياة العصرية، إنه بالحقيقة أمر وجودي له أصداء جدية على المستويين الاجتماعي والفردي. إنه ما يحدد كل طريقة الإنسان المعاصر في الحياة.

مذهب المتعة (Hedonism)

إذا قمنا بامتحان دقيق للمجتمعات المعاصرة نرى أنه يخيم عليها مذهب منحرف يدعو إلى المتعة. الإنسان العصري يشجع هذا التيار بقوة ويختبره في حياته الشخصية، وبالطبع كل وسائل الإعلام الحديثة متورطة في خدمته وإطرائه: محطات التلفزيون، المجلات، الكتب، محطات الراديو، السينما، المسرح، الأغاني، الأدب، إلخ… كل الوسائل السمعية-البصرية تغذي نهم الإنسان وتعطشه إلى التمتع باللذة الحسية.

مذهب المتعة موجود منذ القديم وفلسفته معروفة جيداً. بحسب هذه المدرسة من التفكير، اللذة حسنة أما الحزن والألم فلا. مؤسس هذه المدرسة كان أريستيبس القوريني(435-355 ق.م.) . بسبب أصله سميت هذه المدرسة بالقورينية (Cyrenaic). بحسب أريستيبس، الماضي والحاضر ليسا في قبضة الإنسان وبالتالي الشيء الوحيد الذي تحت سيطرته هو اللذة الحاضرة. في الواقع هذا تجريبية غنوصية لأنه يعلّم أن فكر الإنسان لا يستطيع التوصل إلى اختبار القيم الروحية وهكذا هذه القيم لا تستطيع تنظيم الحياة البشرية. يقول أريستيبس أن اللذة بحد ذاتها مُفضلة وجيدة بغض النظر عن الأدوات والمصادر التي ولدتها. في كل الأحوال، على الإنسان أن يتمتع باللذة من دون أن تحكمه. أيضاً يقول: “أنا أملك، أنا لست مملوكاً”. اللذة تتقدم على القوانين الأخلاقية وعلى الأخيرة أن تتنحى إذا اعترضت الأولى.

تطور مذهب اللذة إلى نظام مع الأبيقورية التي اختبرته. أخلاقيات أبيقوروس تبدأ باللذة التي هي “بداية ونهاية العيش بسعادة… هي الخير الأول والطبيعي… لأن كل لذة هي حسنة… كما أن كل ألم مرذول”. طبعاً لم يعطِ أبيقوروس التقدمية للذات المادية والحسية لأنه وضع اللذة الروحية أولاً. مع أن اللذات الحسية تعطي المتعة إلى إنها مرتبطة بالألم. القيمة الكبرى هي للذات النفس. وفوق كل هذا فنظرية أبيقوروس حول المعرفة تجريبية ومادية.

بالتأكيد لقد وضع الإثنان، أريستيبس وأبيقوروس، مذهب المتعة داخل نظامهما الغنوصي المادي. فنظريتهما فلسفية مرتكزة إلى مبادئ غنوصية. هذا يُلاحظ لدى الفلاسفة اللاحقين الذين شكّل مذهب المتعة جزءً من نظامهم الفلسفي.

الاختلاف مع الحقيقة الراهنة لخبرة مذهب اللذة هو أولاً أن اللذة مفصولة عن الروحيات وهي فقط في مجال الحواس الجسدية. ثانياً ليس هذا المذهب اليوم نتيجة لأي نظرية غنوصية أو نظام فلسفي بل على العكس إنه ثمرة انغماس ذاتي بدون تفكير أو رؤى. إنه حالة ثانوية. فيما مذهب المتعة قضية وجودية، يعتبر الانسان العصري اللذة مجرد تدليل ذاتي وليست جزءً من المشاكل الوجودية. ولكن بالتأكيد، على مستوى أعمق، حتى التمتع المعاصر باللذة يشكّل بحثاً وجودياً، لكن الإنسان لا يحسّ به بهذا الشكل ولا يختبر اللذة على هذا الأساس.

يسيطر على المجتمعات المعاصرة مذهب المتعة والجري وراء اللذة بشكل متطرف وغير فلسفي. هنا نستعمل عبارة “مذهب المتعة” ليس بمعناها الفلسفي الأصيل إنما بمعناها المعاصر الشائع. يوجد اليوم مطاردة للمسرات. لهذا، في المجتمعات المعاصرة، يتلافى الناس الألم والنسك والتجرد بينما يطاردون الملذات بأي ثمن. أيضاً في هذه المجتمعات، تسيطر الحقوق الفردية. أؤمن أن الفرق بين الحياة الأرثوذكسية ونقيضها يكمن في هذه النقطة. الكنيسة الأرثوذكسية تتكلم دائماً عن الصليب والصلب وهذا شيء غير ممكن فهمه للعقلية البشرية.

في ما يلي سوف نقدم تعليم القديس مكسيموس المعترف عن اللذة والألم. سوف يظهر أن الآباء، في كل عملهم اللاهوتي، يتابعون تفكير الفلاسفة القدماء، كما يفعل القديس مكسيموس المعترف، مجيبيبن على أسئلة الفلاسفة على ضوء الوحي الإلهي ومن خلال اختباره.

اللذة والألم بحسب القديس مكسيموس المعترف

في مئوياته في اللاهوت، يشير القديس مكسيموس المعترف إلى رابطة ثنائية بين اللذة والألم، وهي موضوع مهم بحسب كل المعايير. هذا يعني أننا لا نستطيع مناقشة اللاهوت الأرثوذكسي إن فشلنا في مواجهة هذه النقطة الحاسمة. لأن السمو على اللذة والألم هو متطلب أساسي للاهوت الأرثوذكسي الصحيح. كما يقول القديس مكسيموس المعترف: “الارتفاع فوق اللذة والألم يثبت أن قلب الإنسان قد تنقى من الأهواء”.

كما أشرنا سابقاً، كل الحياة العصرية يحكمها اللذة والألم إذ يسيطر في عصرنا التمتع والابتهاج، بينما في الوقت نفسه يسود الأسى العميق والألم الداخلي. في الحقيقة، يحاول الإنسان المعاصر أن يهرب من الألم عن طريق إشباع اللذة الحسية. كل المشاكل المعاصرة، كالإيدز والمخدرات، على ارتباط هذا الأمر. لهذا أرى من الضرورة القصوى أن نرى هذا الرابط بين اللذة والألم كما فصّله القديس مكسيموس المعترف.

أ. أصل اللذة والألم

الله بالثالوث خلق العالم. أكثر المخلوقات كمالاً هو الإنسان لأنه قمة الخليقة. إنه العالم الصغير (microcosm) في العالم الكبير (macrocosm). في تحليله لموضوع خلق الإنسان وعلاقة هذا الخلق بولادة وأصل اللذة والألم، يقول القديس مكسيموس أن الله الكلمة الذي خلق طبيعة الإنسان، خلقه بدون لذة وألم. “لم يصنع الحواس عرضةً للذة والألم”. يشدد على هذه النقطة بقوله “اللذة والألم لم يُخلقا بنفس الوقت مع الجسد”.

في حين لم يكن في الإنسان لذة وألم قبل السقوط، فقد كان لديه في النوس مَلَكة ميل طبيعي نحو اللذة، ومن خلال هذا الاستعداد يستطيع التمتع بالله بشكل يفوق الوصف. لكن الإنسان أساء استعمال هذه الملكة الطبيعية ووجّه “التوق الطبيعي للنوس نحو الله” إلى الأشياء المحسوسة وبالتالي “بالحركة الأولى نحو الأشياء المحسوسة، حوّل الإنسان الأول هذا الشوق إلى حواسه، ومن خلالها راح يختبر هذه اللذة بعكس الطبيعة”. عبارات “بحسب الطبيعة” و”بعكس الطبيعة” تظهر بشكل كامل التغيّر الوجودي (ontological) الذي حدث في الإنسان، وتصوّر بوضوح حالته الساقطة.

هذا الأسلوب لعمل مَلَكات النفس لم يخترعه الإنسان من عنده إنما بتوجيه من الشيطان الذي كان مُحركاً بالحسد من الإنسان الذي أظهر الله نحوه اهتماماً وعطفاً خاصين. من المثير أن الشيطان لم يحسد الإنسان فقط بل الله أيضاً: “لأن الشيطان يحسدنا كما يحسد الله، أقنع الإنسان بالنفاق بأن الله يحسده (أي الإنسان) وهكذا جعله يخالف الوصية”.

بعد التحرك غير الطبيعي لقدرة النفس النوسية نحو الأشياء المحسوسة وولادة اللذة، الله “زرع الألم كنوع من القوة المؤدبة للنفس” وذلك حرصاً منه على خلاص الإنسان. هذا الألم هو كل عقدة الجسد المائت والسريع التأثر وقد ربطه الله، في محبته للإنسان، باللذة الحسية. إنه قانون الموت المرتبط بالطبيعة البشرية منذ وُجد. بهذه الطريقة كُبح “شوق النوس الجنوني” الذي يحرّض الميل غير الطبيعي للنفس نحو الأشياء المحسوسة.

هناك تعليم أفلاطوني يتكلّم عن حركة النفس الخالدة في عالم الأفكار الذي لم يُولد بعد، وعن ولادتها في جسد مائت هو بمثابة سجن لها. لا يوجد أي علاقة بين تحليل القديس مكسيموس المعترف بأكمله وهذا التعليم. هذا ببساطة لأن القديس مكسيموس المعترف، كونه عضواً كاملاً في التعليم الأرثوذكسي، لا يفرّق بين نفس خالدة بطبيعتها وجسد مائت بطبيعته، ولا يؤمن بعالم الأفكار الخالد الذي لم يُولَد بعد، وبشكل طبيعي لا يتبنّى النظرة الإثنينية إلى الإنسان التي بحسبها يكون الخلاص بتحرير الإنسان من سجن الروح الذي هو الجسد. في تعليم القديس مكسيموس إشارة واضحة إلى الحركة غير الطبيعية لمَلَكات النفس وإلى “شوق النوس المهووس” الذي يقود إلى حالات وأعمال ضد الطبيعة.

واضح إذاً أن الخطيئة الجديّة تتكوّن من “حركة النفس الأولى” نحو الأشياء المحسوسة وفي قانون الموت الذي وضعته محبة الله. إذاً اللذة والألم يكوّنان ما يسمّى بالخطيئة الأصلية. اللذة هي حركة النفس الأولية نحو الأشياء المحسوسة، بينما الألم هو كامل ناموس الموت المتجذّر في كيان الإنسان والذي يشكّل ناموس الجسد المائت.

يقدّم القديس مكسيموس المعترف بعض الملاحظات الرائعة. إنه يقول أن انتهاك الوصايا ابتكر اللذة لتعطيل الإرادة أي حرية الإنسان، وفرض الألم لتسبيب انحلال طبيعته. هذا يعني أن اللذة تسبب الخطيئة التي هي موت طوعي للنفس، بينما الألم عن طريق فصل الجسد عن النفس يسبب انحلال الجسد. بالواقع هذا كان عمل وهدف الشيطان، لكن الله سمح بالارتباط بين اللذة والألم، أي انه سمح للموت بالدخول إلى وجود الإنسان، من باب المحبة والإحسان، إذ أن الألم هو ضحد اللذة.إذاً “الله تدبيرياً أعطى الإنسان الألم الذي لم يختره مع الموت الناتج عنه، لكي يؤدبه على اللذة التي اختارها”.

في مواقع عديدة يشير القديس مكسيموس المعترف إلى “اللذة الطوعية” و”اللذة غير الواعية”، كما يشير إلى الألم “غير الطوعي” و”الإحساسي”. الألم يوازي نتائج اللذة، أي ينقص الألم، لكنه لا يبطله.

إذاً اللذة تسبق الألم، لأن كل ألم سببه اللذة ولهذا يسمّى ألماَ طبيعياً. بالنسبة لآدم وحواء، اللذة كانت بلا سبب أي لم يسبقها ألم، في حين أن الألم وهو نتيجة طبيعية للذة هو واجب ودين يدفعه كل البشر الذين لهم الطبيعة البشرية نفسها. هذا ما جرى لآدم وحواء. أما للمتحدرين منهما فالأمر يختلف قليلاً، خبرة الألم تقودهم إلى التمتع باللذة. بعد السقوط ودخول ناموس الخطيئة والموت إلى طبيعة الإنسان، صار هذا الأخير في حالة مأساوية. فبالرغم من أن الألم يبطل اللذة ويلغي حركتها الفاعلة، لا يستطيع الإنسان أن يبطل أو يبعد ناموس الموت الموجود في داخل كيانه، وهذا الناموس يجلب خبرة جديدة للذة. “الفلسفة من أجل الفضيلة” أي كل جهاد الإنسان النسكي يجلب الهدوء في إرادته وليس في طبيعته، لأن النسك لا يستطيع غلبة الموت الموجود كقانون قوي في كيان الإنسان. هنا تكمن مأساة الإنسان الذي قد يشفي اللذة ويكتسب انزاناً داخلياً عن طريق اللم الطوعي -أي النسك- وأحداث غير طوعية –حزن خارجي، موت…) لكنه غير قادر على تحرير نفسه من الألم الذي يحتمه ناموس الموت.

ب. هدف تجسد المسيح

حتى الآن، وضعنا كيف نشأ الارتباط بين اللذة والألم بعد السقوط. اللذة كانت نتيجة للحركة غير الواعية لمَلَكة النفس، ونتيجتها الطبيعية كانت مجيء الألم مع كل ناموس الموت. تركيبة اللذة والألم هذه أصبحت ناموساً للطبيعة البشرية. واضح أن الإنسان لا يستطيع التحرر من هذه الحالة التي أصبحت طبيعية في وقت يسلك حياة معاكسة للطبيعة. تجسد المسيح ساهم في تحرير الإنسان من هذا الارتباط بين اللذة والألم. يضع القديس مكسيموس المعترف بعض الملاحظات الرائعة على هذه النقطة أيضاً.

لقد كان مستحيلاً بالمطلق للطبيعة البشرية التي سقطت في اللذة الطوعية والألم غير الطوعي أن تعود إلى الحالة السابقة “لو لم يصبح الخالق إنساناً”. سر التجسد يكمن في حقيقة أن المسيح وُلد بشرياً، لكن بداية وسبب ولادته لم اللذة الحسية لأنه وُلد من الروح القدس ومن مريم العذراء، خارجاً عن طريقة البشر بالتوليد، وقبل طوعاً الألم والموت باختياره الحر. بالنسبة للإنسان، الألم أتى كنتيجة للخطيئة، لم يكن إرادياً. أما بالنسبة للمسيح فقد وُلد من غير لذة حسية وتقبّل الألم باختياره.

كل البشر المولودين بعد الخطيئة مولودون باللذة الحسية التي تسبق مولدهم، لأن الإنسان هو نتاج لذة أهله وبالطبع ليس من أحد حر بالطبيعة من الولادة المشبوبة التي تسببها اللذة. وهكذا أصل ولادة الإنسان “في الفساد المتأتي من اللذة” وسوف ينهي حياته “في الفساد الذي يأتي من الموت”. عليه إنه كان مستعبداً بشكل كلي للذة والألم “ولم يستطع أن يجد الطريق إلى الحرية”. “البشر معذبون باللذة غير العادلة والألم العادل، وبالطبع بنتيجتهما التي هي الموت”.

ولكي يعود الإنسان إلى حالته السابقة ويتأله، يجب اختراع ألم غير عادل وموت من دون سبب. يجب أن يكون الموت بلا سبب أي غير مسبب من اللذة، وغير عادل أي لا يأتي بعد حياة شهوانية. بهذه الطريقة يشفي الموت غير العادل اللذة غير العادلة التي سببت الموت العادل والألم العادل. بهذه الطريقة يتمتع الجنس البشري بالحرية مجدداً متحرراً من اللذة والألم. المسيح أصبح إنساناً كاملاً ذا نفس نوسية وجسد مائت، مثل جسدنا، ولكن بدون خطيئة. وُلد كإنسان من حبل بلا دنس وهكذا لم يكن لديه أي لذة حسية في كل الأحوال ولكنه طوعياً ارتضى الألم والموت وتألم بطريقة غير عادلة لمحبته للإنسان من أجل أن يبطل المبدأ الذي يسيطر على الطبيعة البشرية، مبدأ الولادة البشرية من لذة غير عادلة، ومن أجل إلغاء الموت كنهاية عادلة للطبيعة. وهكذا ولادة المسيح من حبل بلا دنس كإنسان وأخذه الطوعي لمواتية الطبيعة البشرية كما موته غير العادل، حررت الجنس البشري من اللذة الحسية والألم والموت.

ولادة المسيح كإنسان تمت بطريقة مغايرة لولادة البشر. بعد السقوط، صار مبدأ الولادة في الطبيعة البشرية في “تحرك اللذة بالبذرة من الوالد”. النتيجة المباشرة لهذه الولادة الحسية هي النهاية، أي ما يسمى “الموت المؤلم من خلال الفساد”. لكن المسيح لم يكن ممكناً أن يتسلط عليه الموت، لأنه لم يُولد بهذه الطريقة القائمة على الإثارة المتأتية من اللذة. بتجسده، منح المسيح للإنسان مبدأ مختلفاً للولادة، لذة الحياة الآتية عن طريق الألم. آدم بمخالفته أدخل طريقة مختلفة للولادة، أي ولادة أصلها من اللذة الحسية ونهايتها في الألم والحزن والموت. إذاً كل مَن يتحدر من آدم بحسب الجسد سيخضع لنهاية الموت العادل ولكن بألم. المسيح أعطى طريقة أخرى للولادة لأنه من خلال ولادته بدون زرع وموته الطوعي غير العادل، ألغى مبدأ الولادة بحسب آدم (اللذة الحسية) والنهاية التي أتى إليها آدم (الألم – الموت). بهذه الطريقة “حرر من هذه كل المولودين جديداً بالروح فيه”.

إن الطريقة التي بها أصبح المسيح متجسداً وشفى الطبيعة البشرية تظهر بشكل لا يقبل الجدل انه حكيم وعادل وقدير. إنه حكيم لأنه أصبح إنساناً حقيقياً بالطبيعة من دون أن يخضع لأي تغير. إنه عادل لأنه طوعياً اتخذ الجسد البشري المائت لمحبته للبشر وتعطفه عليهم. لهذا أيضاً لم يجعل خلاص الإنسان ملتوياً. إنه قدير لأنه خلق الحياة الأبدية والهدوء الثابت في الطبيعة عن طريق العذاب والموت وبهذا لم يظهر نفسه غير قادر على تحقيق شفاء الطبيعة البشرية.

ج. التبني الشخصي للخلاص

يجب على الإنسان أن يختبر شخصياً عمل المسيح وهدف تجسده. انتصار المسيح على الموت والألم يجب أن يصبحا العلاج الشخصي لكل كائن بشري. هذا يعني أن كل إنسان مرتبط بالمسيح يجب أن يتحرر من الرباط المأساوي بين اللذة والألم، وخاصةً أن يتخلص من ناموس الموت المتجذر في الطبيعة البشرية. يجب أن نرى بتفصيل أكثر كيف يحلل القديس مكسيموس المعترف عمل اللذة والألم في الإنسان بعد السقوط، وكيف يحفظ حريته وشفاءه. إنها نقطة مهمة لأنها تظهر حالة البشرية الحاضرة كما تظهر أيضاً سبل تحريرها من تسلط الموت.

يحلل القديس مكسيموس المعترف أن هيمنة اللذة والألم لم تكمن في قابلية الطبيعة للموت. فبما إن ولادتنا تتم بطريقة ساقطة فإن اللذة الحسية والألم متجذران في كياننا. قوة الخطيئة تكمن في قابلية الطبيعة للموت من خلال اللذة وتسلط الموت والألم. هذا لنقول أن الخطيئة سببها اللذة الحسية ونتاجها الألم والموت طبعاً. لكن خبرة الألم تحوّل الإنسان نحو الانغماس الشهواني كدواء مريح وهكذا يزيد التمتع الجديد في اللذة والألم.

جدير بنا أن نورد نص القديس مكسيموس المعترف كاملاً لأنه مقطع رائع:

“إذ أن سلطان اللذة والألم ينطبق بوضوح على ما هو قابل للموت في الطبيعة البشرية. نحن نبحث عن كيفية تخفيف عقوبة الألم من خلال اللذة، وهكذا في طبيعة الأشياء زيادةً للعقوبة. إذ في رغبتنا بالهرب من الألم ننشد ملاذاً في اللذة، وهكذا نحاول جلب الغوث لطبيعتنا المضغوطة كما هي في العذاب. ولكن من خلال محاولتنا بهذه الطريقة لثلم الألم باللذة، نضاعف مجموع ديوننا، لأننا لا نستطيع التمتع باللذة التي لا تقود إلى الألم والعذاب”.

في هذا المقطع للقديس مكسيموس المعترف، تظهر مأساة الطبيعة البشرية كاملة كما هي مختبرة في الأزمنة الحاضرة. ونستطيع التركيز على ثلاث مميزات.

أولاً: اللذة الحسية دائماً تجلب ألماً متطابقاً. ما جرى لآدم حيث جلبت اللذة الأولى الألم وخبرة الموت، يجري لكل خطيئة على المستوى الشخصي. في ارتكابه للخطيئة، يحس الإنسان باللذة وبعدها يختبر ألماً فظيعاً ليس بسبب الندامة فقط إنما أيضاً بسبب شبح الموت وظلام الجحيم. الكثير من مزامير داود يحلل هذه الحالة بالتفصيل: “فقد امتلأت من الشرور نفسي وحياتي من الجحيم دنت” (مز3:87).

ثانياً: خبرة الألم والموت تدفع الإنسان للسعي إلى الراحة والعزاء. وفي جهله كيفية استئصال اللذة التي هي المرض المسبِب للألم، ينتهي مجدداً في اللذة الحسية، منغمساً ليواسي طبيعته المتمرمرة. هكذا تقوده خبرة الألم إلى لذات مختلفة في الحياة، من الإشباع الجنسي إلى المخدرات، لأنه يعتقد مخطئاً أنه بهذا يتخلص من شبح الموت.

ثالثاً: الخبرة الجديدة للذة تجلب بالتأكيد ألماً جديداً، لأن الألم هو دائماً نتاج اللذة. هكذا تظهر حلقة مفرغة، فلا يقدر الإنسان أن يتحرر من تركيبة اللذة والألم الفظيعة.

التحرر من هذه المأساة يكمن في يسوع المسيح. كما قلنا سابقاً، المسيح عن طريق ولادته وموته منح الإنسان صيغة جديدة للولادة الروحية. بتجسده أعطى الإنسان نعمة فائقة الطبيعة، أعني التأله (Theosis)، وفي آلامه أعطى الهدوء وفي عذاباته أعطى الراحة وبموته وهب الحياة الأبدية للطبيعة البشرية.

هذا يظهر في القديسين. كل مَن يتحد مع المسيح ويولد روحياً يتحرر من اللذة الحسية التي أصلها في ناموس الخطيئة. في كل الأحوال، يسمح المسيح أن يقبل القديسون الموت، ليس لأن الموت هو نتاج خطيئتهم إنما ليدين الخطيئة. ليس لدى القديسين المتحدين بالمسيح لذة النسل الحسية المتحدرة من آدم، لكن عندهم الألم المتحدر من آدم. إن عندهم هذا الألم كطريقة لدحض الخطيئة. بما أن والدة موت القديس ليست الخطيئة الحسية، يصبح هذا الموت والد الحياة الأبدية. كما صارت حياة آدم المتلذذة أمّاً للموت والفساد، يصير موت المسيح لآدم أباً الحياة الأبدية لأنه متحرر من لذة آدم.

القديسون الذين وصلوا إلى التحرر من عذاب سلسلة اللذة-الألم، حققوا هذا لأنهم اتحدوا بالمسيح. الإتحاد بالمسيح يتحقق من خلال تركيبة من الحياة الأسرارية والنسكية. يشدد القديس مكسيموس المعترف على عيش الحياة النسكية لأن المناولة والاشتراك في النعمة الإلهية من خلال الأسرار ليسا بلا متطلبات. سوف نرى الآن القديس مكسيموس يتحدث عن هذه الطريق الخاصة التي بها اختبر القديسون الطريقة النسكية والحياة وكيف تخطوا اللذة والألم باتحادهم بالمسيح.

أولاً، إنه يشدد على أن تحمل العذاب الطوعي واحتمال الألم غير الطوعي ينـزع اللذة الحسية ويقطع زخمها. الآلام الطوعية هي التمارين الروحية كالصوم، السهرانيات، الحرمان، المجهود النسكي عامةً، حمل صليب طوعياً والجهاد لتحويل الأهواء. الآلام غير الطوعية هي كل الأحداث التي تجري من دون إرادة أو توقع كالمرض، الموت، الإغراءات والصعوبات. يأخذ الإنسان التجارب الطوعية بإرادته، ويحتمل غير الطوعية بالإيمان والرجاء بالله.

بالطبع، كما أشرنا سابقاً، يعلّم القديس مكسيموس أن اللذة الحسية والألم لا يبطلان كلياً بمجهود الإنسان النسكي. فأبرار العهد القديم أيضاً قاموا بهذا المجهود ومع ذلك لم يتمكنوا من تحرير أنفسهم من قيد اللذة والألم، وفوق كل شيء لم يتمكنوا من تحرير ذواتهم كيانياً من تسلط الموت. هذا التحرير للطبيعة البشرية تحقق بيسوع المسيح ويتم اختباره في المشاركة بالنعمة الإلهية في أسرار الكنيسة. ومع ذلك ينبغي على كل شخص أن يجاهد بيسوع المسيح ليتخطى اللذة والألم.

يقدم القديس مكسيموس المعترف معالجة مفصلة لهذه الأمور ويظهر كيفية تحقيق إبطال اللذة والألم في الحياة الشخصية.

أولاً، يقسم اللذة والألم إلى فئتين، لذة النفس ولذة الجسد، وأيضاً ألم النفس وألم الجسد. لذة الحواس تخلق ألماً في النفس وألم النفس يخلق ألماً في الحواس. اختبار الفضيلة يجلب اللذة والألم. أي أن الفضيلة يرافقها ألم الجسد لأن من خلال العيش بحسب الله يفقد الإنسان الحس الناعم المُرضي. أيضاً يرافقها ألم النفس لأنه يتمتع بالمفاهيم النقية متحرراً من كل الأمور الحسية. لهذا السبب، كل مَن يرغب بحياة المسيح التي في النعيم والتي سوف تُعطى كميراث من خلال قيامة الأموات، يشعر بالفرح والراحة في نفسه في حين يشعر بالألم في جسده، أعني يحس بالألم والحزن اللذين تسببهما التجربة.

فمع أنه يشعر بالألم في الجسد بسبب التجارب الطوعية والكرهية، الشخص الذي يحيا بالمسيح هو دائم الفرح بدون انقطاع، لأنه يعرف أنه بهذا يتحرر من ناموس الخطيئة والموت. الانعتاق من الألم ضروري لشفاء الإنسان، ولكن مع هذا، فالألم يجب أن يكون صحياً وليس غير عاقل.

لقد سبق وشددنا في هذا العرض على أن حياة الإنسان المعاصرة محكومة باللذة الحسية والألم، لأن هناك حلقة أثيمة مغروسة في الطبيعة البشرية بسبب سقطة آدم، ولكنها أيضاً انتقلت إلى كل إنسان. وحده المسيح كونه إلهاً تاماً وإنساناً تاماً، تخطى اللذة بمولده من غير زرع من الروح القدس والعذراء مريم، وفي الوقت نفسه غلب الموت والألم بقبوله الصليب المؤلم. لهذا السبب بالضبط المسيح هو الإنسان الكامل والمثال لكل المؤمنين. المسيح هو النموذج لخليقتنا والشافي في الوقت نفسه، لأنه هو مَن يحررنا من مأساة اللذة الحسية والألم. بهذا المنظار يُنظر إلى النسك بحسب المسيح على أنه متميز بوضوح عن أي نسك آخر من النموذج الشرقي، لأنه غير محكوم بالمجهود البشري إنما بقوة الله وتعاون الإنسان.

مساهمة النسك الأرثوذكسي العظيمة وقيمتها

أثبتنا في التحليل السابق أن اللذة الحسية تسبب مشاكل مروعة في كيان الإنسان، إذ أن كل بذور الألم والموت المأساوية مخبأة في حالة اللذة. عندما يحمل شخص ما صليب النسك في يسوع المسيح، يتحرر من تسلط اللذة الحسية. إذاً، وجود الألم في حياتنا مفيد عندما نضعه في مواجهة مع الإيمان والصبر بالله. هذا يعني أنه مطلوب جهد مكثف وجهاد مستمر ضد طبيعتنا البشرية الساقطة. نحن نحمل بذور المأساة في وجودنا. مشكلة الإنسان الرئيسية ليست الشر الاجتماعي إنما فساد الطبيعة البشرية. إذاً نحن نجاهد باستمرار لتحويل الطبيعة المائتة إلى إنسان بحسب المسيح.

هذا التحول يتحقق من خلال النسك الأرثوذكسي الذي يصبو إلى تخطي اللذة والألم. هذا النسك ليس طريقة مهجورة وبغير أساس، إنما هو العمل الأكثر عصرية وقابلية للتطبيق. النسك الأرثوذكسي وشفاء الإنسان مرتبطان بشدة. اليوم يسعى الناس إلى العلاج لأن مأساة اللذة الحسية والألم تتملكهم. في هذه النقطة أرى القيمة الأعظم للروحانية الأرثوذكسية التي تختلف بوضوح عن أي روحانية أخرى سواء من النموذج الغربي أو الشرقي.

إن العالم المعاصر مميز باختبار المأساة المرتبطة باللذة الحسية وتجربة الألم، وأن إنسان اليوم ينشد الانعتاق والشفاء ويجدها في الهدوئية الأرثوذكسية. هذه حقيقة يثبتها بوضوح عدد الناس المتحولين إلى اللاهوت الأرثوذكسي وصياغته الجديدة صادقين، في الشرق كما في الغرب. أكثر من ظاهرة تشهد على البحث الذي يقوم به إنسان اليوم من خلال تعليم الكنيسة النسكي الهدوئي: الاهتمام بأعمال آباء الكنيسة الهدوئيين، قراءة الفيلوكاليا التي أتمها بشكلها الأخير القديس نيقوديموس الآثوسي مع القديس مكاريوس نوتاراس أسقف كورينثوس، انتشار أعمال القديس سمعان اللاهوتي الحديث والقديس غريغوريوس بالاماس وقديسين كثيرين غيرهم، دراسة أعمال آباء القرن الرابع. إذاً يجب أن لا ننظر فقط إلى الشروط السلبية، كمأساة اللذة الحسية والألم، إنما أيضاً إلى البحث عن الشفاء وما يقدمه اللاهوت الأرثوذكسي.

لم يزل هناك أثر تقليدي هائل للحياة الأرثوذكسية في شعبنا. للأسف مع ذلك هذا يُستغل أحياناً من أشخاص غير مسؤولين وأنانيين. عند مراقبة الحياة الكنسية المعاصرة يشعر المرء بأن هناك مسيحيين كثيرين يتفاعلون ضد السكولاستيكية التي دخلت إلى مجال الأرثوذكس، بالرغم من عدم امتلاكهم لأي حجة لاهوتية مقنعة. وبالطريقة نفسها يتفاعلون ضد الفتكنة الظاهرة في الإدارة الكنسية، وضد الأخلاقية التي تم عرضها في مجال الحياة الروحية وضد النظرة المسكونية للأمور المتعلقة بحياة الكنيسة. هم لا يستطيعون دمج هذه الأمور مع الحياة الأرثوذكسية الحقيقية كما عاشها أسلافهم وقرأوا عنها في أعمال آباء الكنيسة. أغلب هؤلاء الناس منتمون إلى جماعة التقويم القديم. أن نقدم الحياة الأرثوذكسية بشكلها الأصيل هو أمر جوهري حتى ننسب أنتولوجيا صحيحة لردة فعل هؤلاء ونجنبهم الخروج عن الخط إلى التفاصيل الصغيرة. وهذا ضروري للحركة العظيمة التي نلاحظها في الغرب نحو اللاهوت الأرثوذكسي والحياة الكنسية الأرثوذكسية.

أعتقد أن هذا هو عمل آباء الكنيسة العظماء عبر العصور لأن لديهم تفسير لاهوتي لكل الأحداث الكنسية. لو لم يكن هناك القديس سمعان اللاهوتي الحديث في القرن الحادي عشر لربما كانت سيطرت آراء استفانوس أسقف نيقوميدية، التي كانت فكرية محضة، وأجرؤ على القول أنها كانت سكولاستيكية. لكن القديس سمعان اللاهوتي الحديث أظهر في أعماله أن أساس وهدف الحياة الأرثوذكسية هو تأله الإنسان الذي يتحقق بقوة الروح القدس ورؤية النور غير المخلوق.

لولا وجود القديس غريغوريوس بالاماس في القرن الرابع عشر لاعتُبرت الهدوئية انحرافاً هرطوقياً عن حياة الكنيسة الأصيلة بحسب الإنجيل. لكن القديس غريغوريوس بالاماس أظهر بكل مصداقية ووضوح كل لاهوت الهدوئية، ما هو الإنسان وكيف يتحقق اتحاده بالله، ما هو التأله والعلاقة بين الصلاة القلبية وكيان الإنسان وخلاصه.

وأيضاً لو لم تكن صورة القديس نيقوديموس الآثوسي مهيمنة على القرن الثامن عشر لاعتُبرت حركة رهبان أثوس هرطقة، فهم قاوموا التغييرات ودهرنة الحياة الأرثوذكسية وعبّروا عن ردة فعلهم برفضهم إقامة الذكرانيات يوم الأحد. في كل الأحوال أظهر القديس نيقوديموس بوضوح في كل كتاباته أن تحرك المدعويين كوليفاذيين (Kolyvades) كان الروحية الأصيلة للفيلوكاليا. هذه الروحية التي تشكل جوهر حياة الكنيسة الأرثوذكسية.

أعتقد أنه لو كان هناك أب عظيم في كنيستنا، مثل سمعان اللاهوتي الحديث أو غريغوريوس بالاماس ونيقوديموس الآثوسي، في مطلع هذا القرن عند نشوء قضية التقويم، لكان برهن أن ردة الفعل الشعبية على إدخال التقويم القديم كانت بالحقيقة ردة فعل على إدخال وجهات النظر الغريبة الآتية من الغرب، ردة فعل على دهرنة اللاهوت الأرثوذكسي. للأسف لم يُنظر إلى هذا الأمر من هذا المنظار وأخطأوا في حد اهتمام الناس بموضوع التقويم فقط. الخطأ نفسه كان ممكناً ارتكابه أيام القديس غريغوريوس بالاماس لو حُدد النقاش بطريقة الصلاة وحدها دون اعتبار لاهوتها. وهذا أيضاً ينطبق في عصر القديس نيقوديموس الآثوسي إذ أن الأمر كله حدد بالذكرانيات في الأحد وتم غض النظر عن كل المعنى الذي لمقاومة روح الدهرية في الكنيسة.

كل هذا الكلام قيل على ضوء حقيقة أن أثر الحياة والتصرف الأرثوذكسيين عميق في اليونان اليوم. علينا أن نعطي معنى لاهوتياً وقيمة لهذا الأثر لأن بهذه الطريقة فقط تبقى جذور الحياة الأرثوذكسية في شعبنا. وعلينا أن نفعل الشيء نفسه للمرتدين الكثيرين إلى الأرثوذكسية في الغرب. اليوم الناس في الغرب يحبون الأرثوذكسية وهم متحمسون لها لأنهم يقرأون كتابات الآباء النسكيين وينشدون السلام الداخلي والاتحاد مع الله. إنهم يبحثون عن هذا اللاهوت الذي بمقدوره أن يخبرهم كيفية التخلص من اللذة الحسية والألم.

خاتمة

حالة العالم الحاضرة يعبّر عنها الرسول بولس بقوة وتفصيل في رسالته الثانية إلى تيموثاوس. هناك حالتان واتجاهان من الناس. الذين يحيون خارج الله ينتمون إلى الأولى. يكتب الرسول بولس: “ولكن إعلم هذا أنه في الأيام الأخيرة ستأتي أزمنة صعبة. لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم محبين للمال متعظمين مستكبرين مجدفين غير طائعين لوالديهم غير شاكرين دنسين؛ بلا حنو بلا رضى ثالبين عديمي النـزاهة شرسين غير محبين للصلاح خائنين مقتحمين متصلفين محبين للذات دون محبة لله. لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها. فأعرض عن هؤلاء. فإنه من هؤلاء هم الذين يدخلون البيوت ويسبون نسيّات محملات خطايا منساقات بشهوات مختلفة. يتعلمن في كل حين ولا يستطعن أن يقبلن إلى معرفة الحق أبداً. وكما قاوم ينيس ويمبريس موسى كذلك هؤلاء أيضاً يقاومون الحق. أناس فاسدة أذهانهم ومن جهة الإيمان مرفوضون. لكنهم لا يتقدمون أكثر لأن حمقهم سيكون واضحاً للجميع كما كان حمق ذينك أيضاً” (2تيم1:3-9).

في المجموعة الثانية المتحدون مع المسيح، تلاميذ المسيح الذين يبحثون عن الحقيقة والحياة في المسيح، كما يعبّر الرسول نفسه: “وأما أنت فقد تبعت تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبتي وصبري واضطهاداتي وآلامي مثل ما أصابني في انطاكية وإيقونية ولسترة. أية اضطهادات احتملت ومن الجميع أنقذني الرب. وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون” (2تيم 10:3-12).

أفراد المجموعة الأولى هم “الأشرار المزورين… مُضِلين ومُضَلين”(2تيم 13)، بينما أفراد المجموعة الثانية فهم أولئك الأصحاء الكاملون، وبتعبير الرسول: “لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح” (2تيم 17).

إني أريد أن أؤمن أن تياراً قوياً من الناس الذين يحيون بروح التقليد الكنسي غير الفاسد، موجود اليوم أيضاً كما أن آخرين من الخائبين من مأساة مبدأ اللذة والألم، يبحثون عن طريق خارج هذا الجحيم المأساوي. يجب أن ننظر إلى الوجوه الإيجابية ونطعم اولئك الجائعين والعطشى إلى بر الله عندما تراجعنا حالات سلبية، بدلاً من الوقوف عاطلين وبدل البكاء على مأساة العالم العصري. بهذه الطريقة سوف نساهم في منح الكنيسة الأرثوذكسية حياة جديدة.

Leave a comment