التهيئة للرعاية في القرن الحادي والعشرين

التهيئة للرعاية في القرن الحادي والعشرين

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس

تعريب الأب أنطوان ملكي

… إن هذا الموضوع المطلوب مني الكلام عنه معاصر لنا ومهم فعلاً، كما أن له أوجه كثيرة ومن الممكن التركيز من خلاله على نقاط عديدة. قد يكون ممكناً معالجته من منظار علم المستقبل الذي يدرس ويحاول أن يخمّن، على أساس معلومات علمية، الظروف التي يسوف تسيطر بعد سنوات من الآن في العالم أو في بلد ما. هناك الكثير من التحليلات التي تقول بأن الظروف والعلاقات الاجتماعية سوف تتشوّش وسوف تزداد عزلة الناس، وتتضخم المشاكل البيئيئة، وتهيمن الجبرية[1] والعبادة الشيطانية. بالإجمال، سوف تتكاثر الأزمات وبخاصة تلك المرتبطة بالفراغ والقلق الوجوديين، “العائلة النووية”، “الطلاق العاطفي بين الأزواج”، “الضمور البيئي”، وغيرها. بالطبع، السؤال هو: ما هو موقف الكنيسة من كل هذا؟ سوف أترك جانباً معالجة هذا الأمر من خلال المنظار المذكور سابقاً لأركّز على عوامل أخرى هي بنظري، بحسب خبرتي الرعائية، أكثر أهمية.

1. التحضير للقرن المقبل

بالطبع، على الكنيسة أن تستعد لمواجهة الألفية الآتية والقرن الحادي والعشرين. يجب ألاّ نغفل عن حقيقة أن دورها الأساسي هو تحضير الإنسان، ليس فقط لقرن آتٍ، الحادي والعشرين أو غيره، بل أيضاً للزمن المقبل أو الجيل الآتي. القرون تحدد الحياةَ بالجسد، بينما الزمن المقبل فيحدد ما هو مرتبط ببعد آخر. إذا لم تكن الكنيسة مهتمة بمشاركة الإنسان في الحياة الآتية، أي في ملكوت الله، بل إذا كانت تتركه يتبع أحداثاً آنية ومحلية، فعندها تكون كنيسة دهرية عاجزة عن إشباع جوعه وعطشه الوجوديين العميقين.

في الكتاب المقدس، وخاصةً في العهد الجديد، يسيطر انتظار قوي ليوم الرب العظيم اللامع. سوف أذكر فقط بعض المقاطع المناسبة: “متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد” (كولوسي 4:3). “الرب قريب. لا تهتموا بشيء” (فيليبي 5:4-6). “في اليوم الذي فيه يدين اللهُ سرائر الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح” (روما 16:2). “إنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم. فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنّا” (روما 12:13). “الذي سيثبتكم أيضاً إلى النهاية بلا لوم في يوم ربنا يسوع المسيح” (1كورنثوس 8:1). “أننا فخركم كما أنكم أيضاً فخرنا في يوم الرب يسوع” (2كورنثوس 14:1). “… لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع” (1كورنثوس 5:5). “حتى تميزوا الأمور المتخالفة لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح” (فيليبي 10:1). “لأنكم أنتم تعلمون بالتحقيق أن يوم الرب كلصّ في الليل هكذا يجيء” (1تسالونيكي 2:5). “تعالَ أيها الرب يسوع” (رؤيا 20:22). كل نص رؤيا يوحنا مُشبَع بهذا الحنين القوي. السماء الجديدة والأرض الجديدة، مدينة الله، تمجيد الكنيسة الظافرة في السماوات، مجد حمل الرؤيا الذي يغلب الوحش، وغيرها الكثير من الأمثلة تثبت هذا التوقع المترجّي وصول ملكوت الله. بهذا المنظار أرشد الرسل الإلهيون المسيحيين الأوائل: “أيها الأولاد إنها الساعة الأخيرة” (1يوحنا 18:2). “والعالم يمضي وشهوته وأمّا الذي يصنع مشيئة الرب فيثبت إلى الأبد” (1يوحنا 17:2). في هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى مقاطع كثيرة مشابهة في الإنجيل. بأي حال، الاستعداد للزمن الآتي ومجيء يوم الرب المجيد واللامع مرتبط بعدد من الحقائق التي أود أن أذكّر بها فيما يلي.

أولاً، الاستعداد للزمن الآتي مرتبط بوجود الإنسان الأساسي، أي كيف خُلق ولماذا، وكيف يحيا في زمن ما بعد سقوطه. بتحديد أكثر: خُلق الإنسان على صورة الله ومثاله. الصورة هي حقيقة مرتبطة بمَلَكات النوس وحرية الإرادة، بينما المثال هو قوة. فبحسب تعليم القديس باسيليوس الكبير، “الصورة هي المثال بالإمكانية والمثال هو قانون الصورة”[2]. بالطبع، مع السقوط، خسر الإنسان المثال ولكن ليس الصورة. لهذا، بما أن الصورة هي المثال بالإمكانية، ففي داخل الإنسان حافز إلى لقاء الله والدخول في شركة معه. هذا يظهر حتى في هذه الحياة بعد السقوط، وليس فقط في ديانة العهد القديم، وأيضاً في الديانات الأخرى. الإنسان مدعو إلى أن يكون إلهاً وهذه هي الوجودية الأكثر عمقاً. وبتعبير معاصر، عليه أن يحقق معايير عالية.

يرد في عظات القديس غريغوريوس اللاهوتي مقطع مدهش في تصوير هذه الحقيقة. ففي تحديده الإنسان يقول أنه “خليقة حية، تقيم هنا ومن ثم تنتقل إلى مكان آخر، ولإتمام السر، يتأله بميله إلى الله”[3]. يعيش الإنسان ويسكن هنا بين الأشياء المادية والتربية ولكن هدفه وبغيته هي الانتقال إلى مكان آخر. بالطبع، عبارة “مكان آخر” لا تعني الانتقال من القرن العشرين إلى الحادي والعشرين، إنما الانتقال من هذه الحياة الحاضرة بالجسد إلى الأخرى المرتبطة بسر وحدة الإنسان مع الله حيث يصبح الإنسان متألهاً.

إذاً، في أعماق وجود الإنسان إمكانية عظيمة وميل أعطاه إياه الله يوم خلقه، وقدرة إلهية لا يشبعها كل ما هو محض بشري ومادي. إنه يشخص إلى ما هو عالٍ وأبدي وإلهي. إن جوعه وعطشه روحيان. إذا صحّت العبارة، هناك وحش مختبئ في أعماق وجود الإنسان وهو يطلب إشباعاً وجودياً. هذا هو حقيقته الداخلية، مثل حبة الجوز التي تحمل في داخلها إمكانية أن تصبح شجرة جوز، وكمثل الجنين الذي عنده كل الإمكانية والقدرة لأن يصبح إنساناً كاملاً، وكمثل الحمض النووي DNA، المادة الجينية الكاملة التي تحدد تطور جهاز الإنسان الجسدي. بطريقة مشابهة، في أعماق وجود الإنسان هناك حمض نووي روحي يجهد إلى توجيه الإنسان إلى تألهه، لحمله إلى نقطة كونه إلهاً بالنعمة.

وفي الوقت نفسه، إلى جانب هذا التوق الإلهي الكبير، هناك ميل عظيم في داخل الإنسان وهو حالته الساقطة. يرى الإنسان سلطة الموت في داخله كقوة تقوده أكثر إلى ما هو هنا، ما هو مكاني، ولا تسمح له بإشباع جوعه وعطشه الداخليين. في فصل آخر، سوف نعالج قوة الموت هذه التي في داخل كياننا. ما أريد أن أشير إليه هنا هو أن الإنسان بعد السقوط عنده قدرتان قويتان في داخل كيانه، قدرة أن يكون إلهاً بالنعمة أي أن يتألّه، والقدرة على بتر هذه المسيرة وحصر نفسه فقط في ما هو هنا في هذا العالم.

ثانياً، الاستعداد للقرن الآتي مرتبط أيضاً بوصول هذا الزمن القادم، أي الزمن الآتي ملكوت الله، حتى هنا في هذا القرن أو الزمن الحاضر. بالنسبة لنا نحن المسيحيين، ملكوت الله ليس فقط توقعاً أخروياً أي حدثاً نختبره في الزمن الآتي، بل هو حقيقة حاضرة نختبرها كالخطوبة منتظرين إتمامها في ذلك الزمن.

يعلن الإنجيل أن ملكوت الله آتٍ: “توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات” (متى 2:3). أو أنه أتى: “ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك لأن ها ملكوت الله داخلكم” (لوقا 21:17)، أو أنه سوف يأتي: “ومتى جاء ابن الإنسان في مجده…” (متى 31:25). المشاركة في ملكوت الله هي رؤية نور الله غير المخلوق، أي التأله. إذاً، هكذا يختبر الإنسان المتأله بركات الزمن الآتي في هذه الحياة كما في الخطوبة. عند هذه النقطة نستذكر القديس سمعان اللاهوتي الحديث الذي يصف بشكل رائع هذه الخبرة كما يعيشها القديسون المتألهون.

نحن نستنتج بأن البشر حتّى لو عاشوا في قرن محدد أو زمن أو فترة، قد يعيشون في فترة أخرى، أي في قرون أو أزمنة أخرى. هذا يعني أنه، مع أننا نستعد للقرن الحادي والعشرين بعد المسيح، فقد يحيا البعض هنا وكأن المسيح لم يتجسّد بعد، أي في زمن ما قبل المسيح، زمن الوثنية وزمن العهد القديم. أمّا آخرون، في الوقت نفسه، خاصةً أولئك الذين يختبرون التأله، قد تخطوا الحياة بالجسد، وتخطوا الألفية الثالثة لأنهم يرون نور المسيح غير المخلوق وبالتالي يختبرون روحياً زمناً لا حركة للوقت فيه. واضح إذاً، أن الكنيسة تحضّر الإنسان، من خلال مجمل الحياة الأسرارية ومتطلبات المشاركة فيها، لدخول الزمن الذي ليس فيه وقت مع أنه ما يزال يحيا بالجسد حيث يقيس الأحداث بالوقت المتموضع.***

ثالثاً، ما سبق يبرهن أن الكنيسة لا تقف في القرن الحاضر، لكنها تتطلّع إلى الزمن الآتي، طبعاً بدون أن تهمل الزمن والعالم الحاضرين. واضح أن هناك علاقة وارتباط بين الحاضر والمستقبل، لكن بركات المستقبل هي بالتأكيد مفضّلة، بينما الحياة الحاضرة هي، ببساطة، تحضير واختبار للأمور الآتية. وهكذا، فإن طريقة عيش الناس تظهر مدى إشباعهم لتوقعاتهم الوجودية العميقة.

يرد هذا القول المميز عند الرسول بولس: “لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة” (عبرانيين 14:13). يعيش المسيحيون هنا فيما المواطنية السماوية والمدينة السماوية نصب أعينهم. إنهم لا يحصرون وجودهم بالمدينة الحاضرة بل بالأحرى يمدّونه إلى الآتية: “فإن سيرتنا نحن في السماوات التي منها أيضاً ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح” (فيليبي 20:3).

كل الذين بلغوا التأله وعاشوا ملكوت الله أو اختبروه، تحركوا ضمن هذا المنظار، فيما هم لا يزالون في هذه الحياة. يمكن أن نلتفت إلى بعض كتاباتهم لنتأكد من طريقة تفكيرهم وكيف كانوا ليواجهوا الألفية الثالثة والقرن الحادي والعشرين لو أنهم عاشوا إلى اليوم.

يكتب القديس باسيليوس: “هذا (الزمن الحاضر) هو زمن التوبة، وذاك (الزمن الآتي) سوف يكون زمن المكافأة. هذا هو زمن الصبر وذاك سوف يكون زمن الراحة”[4]. لا يرى المسيحي أن هذا الزمن الحاضر كامل، فهو لا يعتبر المتع التي يقدمها انتماؤه هنا مكافأة لأنه لا يتوقع مكافأة ولا راحة. زمن الفساد والموت هذا يتطلب صبراً وتوبة، فيما الزمن الآتي يجلب راحة دائمة وسعادة.

يندرج تحرّك القديس غريغوريوس اللاهوتي وتعبيره ضمن هذه النظرة نفسها ومن خلال الإطار نفسه، لأن حياته مشابهة لحياة القديس باسيليوس وغيره من القديسين: “الحاضر هو للعمل، المستقبل هو للمكافأة”. هذا العمل مرتبط بمحاولتنا لأن نكون متوجّهين في حياتنا نحو الزمن الآتي ولتخطي ملذات الزمن الحاضر، لتوجيه كينونتنا نحو تركيبتنا الحقيقية الوجودية والتي بحسب الصورة. فهو يوصي: “لنبتعد عن الملذات الأرضية، لنهرب من العالم المضلّل وحاكمه، لنجعل انتماءنا للخالق فقط، ممجدين صورته، موقرين الدعوة وساعين إلى الحياة”[5]. العالم وحاكمه الشيطان يشيران إلى هذا الزمن، سواء أكان القرن الرابع أو الحادي والعشرين، فهما يوصَفان كمثيرَين للتجربة لأنهما يقودان الإنسان نحو الضياع ويحدّانه بالأمور المدركة فقط بالحواس والشهوات العالمية. على المسيحي أن يوقر الصورة التي أخذها من الله، ويحترم الدعوة التي مُنحت له ويصبح إلهاً بالنعمة وينقل حياته بالجسد إلى الحياة الأخرى التي خُلق لها.

في مكان آخر يشهد القديس نفسه: “قريباً سوف يمضي هذا العالم ويتلف المعبد. نحن نمضي وقتنا هنا مع الأمور التي لا تدوم، ولكن حري بنا أن نشتري ما يبقى”[6]. يعيش القديسون هنا في حالة مستمرة من التشرد، من الحلّ من الأمور الحاضرة واقتناء الأمور الآتية التي تدوم. إنهم يتفلسفون بحكمة، من داخل حالة الفساد والفناء، حول العالم ووجودهم بالجسد. الزمن الحاضر صالح فقط لاقتناء المستقبل والأمور الثابتة. أمور الحاضر ليس لها ثبات ولا ديمومة.

يعتبر القديس يوحنا الذهبي الفم أمور الحاضر أحلاماً: “إذ إن الأمور الحاضرة ليست أفضل من الأحلام، سواء أكانت نافعة أو مسببة للحزن”[7]. ليس فقط الأمور الحزينة، بل الأمور النافعة والممتعة منها كلها تمضي. كل الحياة على المستويين البشري والكوني قصيرة جداً.

ليس القديس سمعان اللاهوتي الحديث مختلفاً في توقعه للأمور المستقبلة والقيمة الحقيقية لأمور هذه الحياة. إنه يشدد أولاً على أن الزمن الحاضر هو زمان العمل بينما الآتي هو زمن التتويج وأن المسيح السيد يمنح في هذا الزمن الخطوبة وختم الحياة الأبدية. ثم يتابع مع هذا الطلب: “أشعِل هنا شمعةَ نفسِك، قبل أن يحلّ الظلام وتُغلق أبواب العمل”[8]. هذه الشمعة هي وصول نعمة الله إلى النوس المتأله حيث يصبح هذا النوس شفانياً[9]. هذا الوصول هو خبرة مرتبطة بالصلاة القلبية أو النوسية وتشترط التذكر غير المنقطع لله. صلاة النوس هي أساس الحياة الروحية، لأنها تقتضي ضمناً تطهير القلب من الأهواء ودخوله في معاينة الله في مجده. هذه المعاينة هي الاختبار الحي للزمان الآتي.

مثل كل القديسين، القديس سمعان لا يتحدث عاطفياً ولا فكرياً، كما أنه لا يقدّم هذه الأمور مستعملاً مفاهيم رمزية، لكنه بالأحرى يتحدث من فيض خبرته الشخصية. في إحدى عظاته، يشرح كيف يجب على المسيحي أن يشترك في الأسرار الطاهرة ويتناول منها. من ثم يقول أنه عندما تمارَس هذه الأمور بشكل صحيح تكون حياة الإنسان بأكملها “كمثل عيد، وليس فقط مجرد عيد، ولكن سبباً للتعييد وفصحاً”. نحن نفصل أعياد الرب ونوزعها على أيام مختلفة من السنة حتى نستطيع أن نختبرها بشكل أفضل، وهذا بسبب فسادنا. في حالة الثيوريا، أي معاينة الله في مجده والمشاركة في نعمته، يتوحد كل شيء. فيختبر الإنسان في يوم عيد ميلاد الرب بركة القيامة أيضاً. إلى هذا، في كل مرة يُقام القداس الإلهي، يختبر الإنسان أحداث التجسد الإلهي بطريقة موحّدة. بالواقع، سوف نحتفل بمحطة الألفي عام لميلاد المسيح، لكن هذا الأمر نسبي جداً، لأن هذا التاريخ قد مرّ (بسبب خطأ في حساب سنة الميلاد)، ولأننا في الأمور الروحية نحسب الأشياء بشكل مختلف. نحن نقول هذا لأن عيد الميلاد والفصح وحتى الحياة الأبدية كلها، يختبرها المتألهون بطريقة موحدة في القداس الإلهي. في نقطة مهمة، وأيضاً بحسب القديس سمعان اللاهوتي الحديث، الفصح هو “التحوّل والعبور من المرئي إلى العقلي”. يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث بوضوح أنه “بالمقارنة مع الفصح الأبدي، كل الأعياد، حتى تلك الأرضية منها، هي ظلال ورموز منقاة بالضحية الأكثر صفاءً، في الله الآب الواحد مع الروح بالجوهر، في نظرنا المسيح إلى الأبد وكوننا منظورين منه، من كوننا في المسيح، حاكمين معه، وهو ما ليس أعظم منه في ملكوت السماوات”[10].

يدعو القديس يوحنا السينائي الرهبان بشدة إلى النضال للدخول إلى خدر العريس. طبعاً هنا، كلمة “خدر العريس” تعني حالة المشاركة في النور غير المخلوق، أي الاختبار الحي للمسيح: “فلنسعَ إذاً يا إخوتي ولنجرِ مسرعين لكي نحظى بالدخول إلى الخدر الملوكي.” فمَن لم يدخل هذا الخدر قبل مماته  “سوف يقيم في وحشة القفر حيث الشياطين والأهواء”[11].

يتحدث القديس ثالاسيوس عن تعلق الإنسان بالبركات المتوقعة، إذ عندها فقط يستطيع أن ينسى البركات الحاضرة. “توقع البركات المخبأة يربط النوس بما يتوقعه”. وإذا تعوّد النوس عليها “ينسى هذا العالم”[12].

يرفض الشخص الذي تذوق البركات الأبدية كل الأمور الحاضرة و”كل توقه سوف يكون لما يرجوه”[13]. بالواقع، عندما ينسى الإنسان كل الأمور الحاضرة ويوسّع معرفته بالأمور الآتية، هذا يكون علامة “بأن نوسه يسلك بين الخيرات التي يرجوها”[14]. هذه نقطة مهمة بحسب القديس اسحق السرياني الذي يقول بأن “الرجل الذي يعتبر الحياة الحاضرة مشتهاة يُظهِر بأنه يحيا حياة غير نقية”[15].

يقدّم القديس غريغوريوس بالاماس بعض الملاحظات والتعليقات الملهمة من الله في تعليقه على المقطع التالي من رسالة القديس بولس الأولى إلى كورنثوس (29:7-31): “فأقول هذا أيها الإخوة الوقت منذ الآن مقصّر لكي يكون الذين لهم نساء كأن ليس لهم. والذين يبكون كأنهم لا يبكون والذين يفرحون كأنهم لا يفرحون والذين يشترون كأنهم لا يملكون. والذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه لأن هيئة هذا العالم تزول”. يجب أن نتفحص هذا الكلام بدقة.

يقول القديس غريغوريوس في شرحه عبارة “الوقت قصير” بأن “الحياة قصيرة والموت قريب وأن هذا العالم فاسد وبأن طول الأناة الأبدية هي كل شيء”. زمن فاسد والآخر بلا فساد، زمن قصير والآخر أبدي. إذاً، ازدراء العالم الحاضر والاستعداد للعالم الآتي، والعيش بقدر الإمكان بحسب الانتماء للحياة الآتية، والابتعاد عن الأمور المؤذية في هذه الحياة الحاضرة، كل هذا “يقودنا إلى الأمان”. بالواقع، يستعمل القديس كمثال هجمات العدو المتكررة على المدن في أيامه. في تلك الظروف، يتلافى سكان المدن مغادرتها لا بل يلازمونها للعيش بأمان وكأن لا حقول لهم. بينما عندما ينسحب العدو لفترة فهم يخرجون لنزهة قصيرة ولكن يبقون متنبهين. هذا هو بالضبط ما على المسيحي فعله مع خيرات الحياة الحاضرة.

وفي شرحه لعبارة الرسول بولس ” لأن هيئة هذا العالم تزول”، يقول القديس غريغوريوس بالاماس أن أمور هذه الحياة ليست موجودة بالجوهر بل هي مجرد شكل. كل أمور الحاضر هي مثل ظلال لغيمة فارغة تمر سريعاً مع الريح. إذا اشتهى امرؤ ما أمور الحاضر وأراد امتلاكها، فسوف يكتشف “بأنها لا تستحق”. بكلام آخر، هو لا يستطيع امتلاكها لسببين: لأن هذا العالم ماضٍ ولأن كل واحد من الذين يستعملون هذا العالم سوف يمضي قبل أن تمضي الأشياء الموضوعة في خدمته أيضاً. هناك، بعبارات أخرى، نهاية لهذا العالم الموجود وأيضاً نهاية لكل واحد منا نحن الذين قد نأتي قبل نهاية العالم. هنا يستعمل القديس غريغوريوس مثالاً لتصوير هذه النقطة. وكأن رجلاً يعبر في شارع فيما يتحرك الشارع أيضاً ويعبر عنه. إذاً شيئان ممكن أن يحدثا: إما أن يلحقه الشارع وبالتالي لن يعود مالكاً لما كان يملكه سابقاً، وإما أن يركض أسرع من الشارع وبالتالي لن يكون قادراً على امتلاك أي شيء. هذا يحدث لأن الإنسان في كونه فانياً فهو مربوط بالأمور المتغيرة في الحياة الحاضرة وغير قادر على التمتع بها. بالواقع، هذا يحدث لأن الإنسان مربوط بأمور الحياة الحاضرة المتغيرة كمثل لمعان الثروة والفرح وغيرها، أو لأن هذه الأمور تغيره فيخسرها. أيضاً هذا يحدث لأن الإنسان بموته يجلب سقوطه ويمضي من هذا العالم الحاضر عارياً فارغاً من كل الخيرات الأرضية والآمال التي وضعها فيها. لهذا “سوف يكون هناك دائماً زوال لهذا العالم عند اقتراب نهاية الإنسان حيث يخرج تاركاً وراءه كل اهتماماته”[16].

واضح من كل ما ذكرنا في هذا الجزء أن الكنيسة تحضر أعضاءها لاختبار الزمن الآتي أي ملكوت الله كخطوبة في الحياة الحاضرة وزواج في الحياة الآتية. إنها لا تعتبر هذا العالم كاملاً كما أنها لا تسحب الإنسان من وجوده الأرضي. إنها تنظر إلى العالم الحاضر من منظار الجهاد للتمتع بالحياة الآتية. بحسب العبارة المعروفة جداً من الرسالة إلى ديوغنيتوس، المسيحيون “مع كونهم سكان بلادهم، فإن طرق حياتهم هي مثل أناس عابرين. إنهم يشاركون بشكل كامل كمواطنين، لكنهم يخضعون أيضاً لكل شيء وأي شيء كما لو أنهم غرباء. إنهم يقضون ايامهم على الأرض لكن انتماءهم هو للسماوات”[17]. إنهم يعيشون على الأرض وليس في عالم خيالي، لكن في الحقيقة هم يتصرفون بحسب الحياة في انتمائهم السماوي. إنهم لا يعالجون مرورهم في الأرض بطريقة مختلفة وحسب، بل في حياتهم هذه، يوجّهون أنفسهم نحو اشتهاء ملكوت السماوات.

2. مشكلات العالم الحاضر: الخديعة

لا ينبغي بنا أن نستنتج مما سبق أن المسيحي يحيا هذه الحياة “بطريقة ذات طبيعة واحدة” وبازدراء لها. ما يحدث هو أنه لا يعتبرها كاملة ولا مستقلة. إنه يحب هذا العالم الذي هو خليقة الله ويحب كل الجنس البشري. القديسون هم بشكل خاص حساسون فعلاً نحو كل الخليقة: الحيوانات، الطيور، الحقول الخضراء… لكنهم ينظرون إليها من منظار آخر. فهم يدركون من خلال كل الخليقة أسباب وجود الكائنات الموجودة، أعني قوى الله غير المخلوقة التي تعطي الجوهر والحياة والحكمة. كما أنه لا ينبغي بنا أن نستنتج أنه ليس على المسيحي ن يواجه المشاكل في حياته، إنما يتخطاها كلها من خلال ترقب الأبدية. يكتب الرسول بولس: “مكتئبين في كل شيء لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين. مضطَهَدين لكن غير متروكين. مطروحين لكن غير هالكين” (2كورنثوس 8:4-9). نحن نرى هذا في حياة كل المتقدسين من أنبياء ورسل وشهداء ومعترفين وآباء وقديسين ونساك. كما نرى هذا في تاريخ الكنيسة، أي بالرغم من أنها جسد المسيح فقد واجهت مشاكل كثيرة واحتملت تجارب مختلفة، أحياناً من الفلسفة واللاأدرية، وأحياناً أخرى من الاضطهاد أو الهرطقة أو الدهرية أو غيرها.

ونحن سوف نواجه مشاكل كثيرة عند دخولنا الألفية الجديدة والقرن الحادي والعشرين. بالطبع، نحن لسنا أنبياء لنخبر مسبقاً بما سوف يجري، ولكن في مراقبتنا للظروف الحالية، نستطيع أن نتصوّر بعض المشكلات التي سوف تنشأ. أشير في ما يلي، بشكل مختصر، إلى أربع مجموعات من المشكلات التي سوف تنمو في الألفية الجديدة.

أولاً، سوف يكون هنلك ازدياد في مشاكل الإنسان الوجودية. فيما يزداد التعلق بالزمن الحالي، أي فيما يتزايد تأليه العلم والفن والمعرفة الأرضية على حساب حاجات الإنسان الروحية الداخلية، سوف يزداد فراغ الإنسان الوجودي كما سوف ينمو كربه الداخلي الوجودي. أرى أن هذه المشكلة سوف تظهر بشكل خاص في العلاقة بين اللذة والألم. اختبار اللذة، سواء منها حسية أو نفسية أو فكرية أو خيالية، سوف يزيد من الألم. بعدها، لن يكون الإنسان قادراً على مواجهة الألم بشكل فعال، كما هو مذكور في التقليد الأرثوذكسي، بل سوف يتحوّل إلى ملذات حسية جديدة بدورها سوف تؤدي إلى ألم أكبر. وهكذا تكون النتيجة تَكَوّنُ حلقة مفرغة.

ثانياً، سوف يكون هناك مجموعة من المشاكل المتعلقة بالعائلة والأمور الاجتماعية. هذا ما ينبغي توقعه لأن أكبر مشاكل العائلة والمجتمع سوف تكون مرتبطة بأشخاص لديهم مشاكل وجودية داخلية غير محلولة. والواقع، إن رجلاً مريضاً ينشر المرض في كل المجتمع. كيف يمكن لإنسان غير مكتفٍ أن يتواجد مع الآخرين؟ كيف له أن يحب؟ فهو يسعى إلى إشباع فراغه الداخلي في محبته للآخرين. وهذا لن يشبعه لأن الشبع يأتي من بعد آخر. لهذا يعيش في القلق وعدم الاكتفاء فتُسحَق محبته وتتحوّل إلى لذة حسية أو إلى حقد. إن وجود شخص آخر يسبب الرعب والخوف والهستيريا لغير المكتفي، لأنه يرى في وجود الآخر تهديداً لوجوده هو.

ثالثاً، سوف يكون هناك مشاكل متعلقة بالكنيسة ومرتبطة باستقلال العلم والفن والتكنولوجيا المتزايد. معروف أن هذه الأمور مرتبطة بما يسمى “الأقمصة الجلدية” التي هي من جهة نتيجة سقوط آدم وحواء، ومن جهة أخرى هي بركة الله حتى يستطيع البشر أن يحيوا زمن فسادهم وحياتهم الفانية بطريقة محمولة. يستعمل القديسون العلمَ والفنَ دون أن يصلوا إلى نقطة اعتبارهما كاملين. إن رجاءهم المطلق وتوقعهم هو ملكوت الله. إذا افتقد الإنسان لهذا التوجه يقع في القنوط ويشغل نفسه بالعلم والفن بدون حدود. كنتيجة لهذا الواقع، يصبح استقلال العلم المتزايد تجربة للإنسان مشابهة لتجربة آدم وحواء.

نجد في تعليم آباء الكنيسة القديسين أنه من غير الممكن للعلم واللاهوت أن يتضاربا بسبب اختلافهما في الدور والهدف. يهتم العلم بهذا العالم بينما يهتم اللاهوت بالله. يدرس العلم الحقيقة المخلوقة ويساعد الناس على تحسين شروط حياتهم في الجسد، بنما اللاهوت يهيئهم لخبرة الله الحي. العلم يشفي الجسد الفاني بينما اللاهوت يشفي مرض النفس، وهكذا يقود الإنسان عبر التطهر واستنارة النوس والتأله، ليس فقط إلى حالة ما قبل السقوط، إنما يعطيه أيضاً فيضاً من الحياة موحداً إياه مع الله في شخص يسوع المسيح. بالطبع، سوف تواجه الكنيسة مشاكل مختلفة بسبب تطور التكنولوجيا، وسوف تتعاطى معها بالجدية والمسؤولية من ضمن موقف تقليدها وإمكانيته.

رابعاً، سوف يكون هناك مجموعة من المشكلات المتعلقة بالأمور الإكليسيولوجية. نحن أصلاً عندنا هذه الأمور اليوم ولكنها سوف تصبح أعظم. من الممكن رؤية الفخاخ الإكليسيولوجية من خلال الأمور الأربعة التالية:

الأمر الأول هو قوننة الحياة الروحية، أي تحويلها إلى مجموعة من القوانين. الناموس أُعطي لشفاء الإنسان وقيادته إلى حياة لا حاجة فيها للناموس بل فقط للتخاطب مع الله. عندما يصبح الناموس مطلقاً تصبح الحياة الروحية حرفية.

الأمر الثاني هو علمانية الحياة الكنسية أو دهرنتها، أي عندما تشابه الكنيسة نفسها بالظروف العالمية أو ترهق نفسها بالحاضر وتفقد توجهها، كما ذكرنا سابقاً. فبدل أن تكون مكاناً للشفاء تصبح نوعاً من محكمة أو مؤسسة دنيوية، وبدل أن تكون مكاناً عائلياً تصبح مؤسسة دينية بلا وجه. إن تحول الكنيسة إلى دين يشكل دهرنتها.

الأمر التالي المثير للمشاكل هو التوفيقية syncretism. هذه تكون عندما يفقد أعضاء الكنيسة وعيهم الذاتي ويؤمنون بأن أعضاء كل الأديان والعقائد يعبدون الإله ذاته، وعندهم الإيمان نفسه، وينتهون إلى النتيجة نفسها. كما أن هذا يكون عندما تفقَد القدرة على التمييز بين الحقيقة والبهتان وبين الصحة والمرض. يصل الإنسان إلى هذه النقطة عندما يفقد سبل التعرف إلى الله خالطاً الطريقة الأرثوذكسية بغيرها، أي عندما يستبدل التطهر والاستنارة والتمجيد بالنزعات العاطفية والأفكار العقلية.

خامساً وأخيراً، سوف يكون هناك مجموعة من المشاكل المتعلقة بالوطنيات في داخل جسم الكنيسة. تفقد الكنيسة دورها عندما تماهي نفسها مع الانتماء الوطني وتفقد دورها الذي يتخطى الوطنيات. لقد أعلن مجمع البطريركية المسكونية في العام 1872 أن العرقية (phyletism) هي هرطقة إكليسيولوجية. هنا نحن بحاجة لأن نشير إلى أن اتحاد الهلينية بالأرثوذكسية لا يمكن اعتباره تمييزاً عرقياً لأن كلا الهلينية والأرثوذكسية، كمفهومين وممارستين، عالميان. الإمبراطورية البيزنطية الرومانية كانت دولة متعددة الإثنيات بإيمان واحد وتقليد حضاري واحد. هذا مستمر اليوم مع خليفة بيزنطية، أي البطريركية المسكونية، التي تعبّر عن هذه الروح الكنسية الأرثوذكسية العالمية (universal).

إذاً، كل هذه المشاكل الوجودية، العائلية – الاجتماعية، العلمية – التكنولوجية والإكليسيولوجية تصبح أكبر عند مسيحيي القرن الحادي والعشرين. إن السبيل لتخطيها، على أي حال، موجود في حياة الكنيسة الأصيلة ومرتبط بها. لكل قرن مشاكله، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، الثامن، الرابع عشر، وغيرها. الآباء القديسون الذين عاشوا في هذه القرون يستطيعون مساعدتنا لإيجاد الطريقة التي ينبغي بنا استعمالها اليوم لتخطي كل هذه الصعوبات. هذا يعني عيش طريقة الشفاء الأرثوذكسية، أي التطهر والاستنارة والتمجيد، وهي الطريقة الأصيلة لعيش معرفة الله. عندما يميز الإنسان بين نوسه وعقله ينتفي الخلط بين المخلوق وغير المخلوق، وبين الله والعالم، عندها سوف يواجه كل المشاكل التي تنشأ بسهولة. بالتالي، إن تحضيرنا للقرن الحادي والعشرين لا يمكن أن يكون معزولاً عن الحياة النسكية والأسرارية، وعن الجهاد لتخطي الموت الذي هو في كياننا، وعن عيش إعادة ولادة كياننا بالنعمة.

3. الأزمة الأنثروبولوجية الكبرى وكيفية مواجهتها

من المفترض أنه قد أصبح واضحاً أن مشاكل البشرية الأساسية ليست مجرد اجتماعية مؤقتة، لكنها أولاً وقبل كل شيء أنثروبولوجية. الأزمة الكبرى هي الإنسان نفسه. عند الحديث عن الأزمة الأنثروبولوجية نعني أنها بالأغلب أزمة لاهوتية، أي أن فقدان العلاقة الحقيقية العميقة بين الإنسان والله خلقت ألماً لا يوصف، وهو يتضخم بوجود الموت. لا ينبغي النظر إلى سقوط الإنسان على أسس قانونية، إنما كفقدان علاقة. وهكذا، قيامة الإنسان ينبغي ارتباطها بإعادة هذه العلاقة بين الإنسان والله، ومع الإنسان الآخر ومع كل الخليقة. في ما يلي نعالج باقتضاب أزمة الموت الأنثروبولوجية الكبرى وتخطيها كما يصفها الرسول بولس.

في الإصحاحات 5 إلى 8 من رسالة روما، يناقش الرسول بولس العلاقة بين الناموس والموت كثيراً، كما العلاقة بين الناموس ونعمة الله. إنه يظهر بشكل حي حالة الإنسان بدون نعمة الله في سجن الموت الأسود، ولكنه يظهر أيضاً قيامة الإنسان بيسوع المسيح. ليس سهلاً علينا تفحّص كل الأمور التي يضعها الرسول في هذه الرسالة المهمة بشكل كامل، لكننا سوف نقدم بعض الملاحظات الأساسية هنا كي نظهر أن الموت ليس الحدث الأخير في حياتنا الأرضية ولا هو مجرد لحظة انفصال النفس عن الجسد، إنما هو حالة شديدة الارتباط بالفساد والفناء المكتَسَين منذ الولادة. إلى هذا، سوف نحاول أن نظهر أن إعادة الولادة هي بالواقع تخطي الموت الظاهر أصلاً في هذه الحياة بالجسد.

في تحليله اللاهوتي الرائع لهذا الموضوع، يصف الرسول بولس الحالة البائسة التي كان يعيشها قبل ظهور المسيح له، كما يصف تحررَه من حالة الموت الذي تمّ في إعادة ولادته أو تجدده في يسوع المسيح. هذا يظهر في أنه في وصفه لحالة الموت والخضوع له يستعمل صيغة الماضي، بينما في وصفه لإعادة ولادته فيستعمل صيغة الحاضر. فهو يقول: “لم أعرف الخطيئة إلا بالناموس” (روما 7:7)، “فوجدت الوصية للحياة هي نفسها لي للموت” (10:7). ويتحدث أيضاً في صيغة الماضي عن تحرره في المسيح، مع أنه يشير إلى أنه ما يزال يختبر حالة ما: “لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطيئة والموت” (2:8). لكن لننظر بتأنٍ أكثر إلى كيف يصف الرسول هذه الحالات في هذه الرسالة البالغة الأهمية. وأشدد مجدداً على أن هدفنا ليس القيام بتحليل شامل وكامل للموقف اللاهوتي الذي يقدمه الرسول بولس، بل تقديم مبادئه الأساسية في إطار تعاليم آباء الكنيسة.

أول موقف أساسي للرسول بولس هو أن الإنسان بفقدانه النعمة يصبح لحمياً ويسمّى كذلك (14:7). هذا ما أحسّه الرسول نفسه قبل أن يظهر المسيح له. لقد أحسّ أن الخطيئة كانت تسكن فيه (14:7-24). لقد سمّى الخطيئة الساكنة فيه ناموساً، وبالواقع هي الناموس الآخر الذي يحارب ناموس الروح (23:7). فالناموس الأخير هو ناموس النوس أي صورة النوس واستنارته، بينما الأول هو ناموس الموت (22:7-24). نحن نرث فناء ناموس الموت وفساده منذ مولدنا. هذا هو بالضبط ما ورثناه عن آدم الأول: الفساد والفناء وليس الذنب، كما يعتقد البعض مخطئين. بينما بالمسيح تخطينا سلطان الموت (12:5-14). خطيئة آدم صارت سبب دخول الإنسان إلى الموت وبالتالي وجود الموت. وبوجه خاص، وجود موت الجسد صار سبباً لخطايا كثيرة. وهكذا، فالموت عند الإنسان الساقط هو نتيجة الخطيئة وسببها في آن معاً.

إن الفساد والفناء اللذان ورثناهما يتحققان منذ لحظة تكوننا الأول وخاصةً منذ ولادتنا. إن الأمر مرتبط بشدة بالتغيّر الجسدي، المرض، الألم، نمو الأطراف وقوة الجسد، وأيضاً بالإحساس بالموت. نحن نرى الموت عبر العالم الطبيعي. نراه في أحبائنا الذين يرحلون عن هذه الحياة ويجعلوننا نواجه ألم الفراق. نحن نراه أيضاً في حدود وجودنا بواسطة الذاكرة، وأحياناً بالاختبار المباشر لمجيئه المصلَت فوق رؤوسنا أيضاً.

إن حقيقة الموت وقوة الشعور به تظهران، كما أشرنا، في الألم والمرض وغيرها. إنها تسبب قلقاً وشكّاً عظيمين. يصبح الإنسان أنانياً في هذه الحالة. أمّا الأهواء الأخرى، كمثل محبة اللذة الحسية والطمع والجشع وغيرها، فتولد وتنمو من محبة الذات التي هي أساس كل خطيئة. وإذ يرى الإنسان اقتراب الموت الذي يختبره أيضاً في حضور المرض، يكدّس الإنسان الكثير من الخيرات الأرضية بهدف الاحتياط لهذه اللحظات غير المألوفة في حياته. الجشع أيضاً هو نتيجة الخوف من الموت الموجود فينا. والشيء نفسه يصح عن الشهوانية والطمع اللذين بهما يحاول الإنسان أن يتخطى الأزمة التي يواجهها، أي الموت. من هنا، هذا الناموس الآخر، جسد الموت، ناموس الموت، يصبح مصدراً لاضطراب داخلي واجتماعي عظيمين. في الواقع، ليست الخطيئة مجرد حدث فردي، بل هي حدث اجتماعي لأن لها نتائج اجتماعية مروعة. لهذا السبب، يكرر الإنسان، بمعاني مختلفة، قول الرسول بولس: “إني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل” (19:7). وهو يصرخ: “ويحي أنا الإنسان الشقي. مَن ينقذني من جسد هذا الموت” (24:7).

الموقف اللاهوتي الثاني للرسول بولس هو أن ناموس العهد القديم كان عاجزاً عن تحرير الإنسان من ناموس الخطيئة، وذاك بالتحديد لأن الخطيئة ليس لها معنى أخلاقي، إنما هي مترافقة مع الفنائية والفساد الذي يخلق أوضاعاً رهيبة، على أساس أنه يصبح سبباً للخطيئة. وليس فقط أن الناموس عاجز عن تحرير الإنسان من الخطيئة والموت إنما هو يجعله أكثر فعالية. ويعالج الرسول بولس هذا الموقف بإسهاب.

يصف الرسول هذه المأساة بالتحديد، حيث أن الإنسان مجبَر على فعل ما لا يحب ولا يريد (19:7-24). وحدهم الأبرار، أنبياء العهد القديم، كانوا قادرين على التحرر من الخطيئة، لكنهم حققوا ذلك من خلال القداسة وقوة سر الصليب. بالرغم من تألههم، على أي حال، لم يتحرروا من الموت. الفنائية والفساد بقيا في داخلهم، لكن حالة القداسة التي اختبروها لم تسمح لهذه الفنائية لأن تصبح سبباً للخطيئة، ولم تسمح للناموس الآخر أي محبة الذات والطمع واللذة والجشع لأن يعمل.

مع أن الناموس عرض ما هو ضد الطبيعة وما هو بحسبها، لم يستطع أن يحرر الإنسان من الفنائية والفساد ولا من الموت نفسه، وهذه كلها قد تجذّرت في جسد الإنسان وصارت سبباً لأهواء كثيرة في النفس والجسد. لقد بَتَر الناموس بعض الأعمال الخارجية، أي أنه عمل بطريقة أخلاقية، لكنه لم يقدر أن يساعد الإنسان وجودياً، أي في أزمة وجوده الرئيسية. وهكذا، عاش الإنسان في الحالة المأساوية التي يصفها الرسول بولس ببلاغة. لتحرير الإنسان من حكم الموت، كان لا بد من شيء آخر. هذا تم في شخص المسيح. كلمة الله اتخذ جسداً فانياً وسريع التأثر، وغلب الخطيئة والموت بجسده، وهكذا أعطى الإنسان إمكانية قهر الناموس الآخر، جسد الموت، بقدرته هو، أي المسيح.

وهكذا نأتي إلى الموقف اللاهوتي الثالث للرسول بولس وهو المختص باستعادة الإنسان وإعادة ولادته التي تتم في يسوع المسيح. خبرة حياة المسيح تعطينا ناموساً آخراً، ناموس الروح، الذي يحررنا من ناموس الخطيئة والموت. لقد أنجز ناموس الروح ما عجز عن إنجازه ناموس العهد القديم (2:8). إذاً، مَن ينضم إلى المسيح، يعيش بالروح وليس بالجسد (9:8). وعليه، يعيش الإنسان إعادة ولادته في يسوع المسيح، ويرتفع فقط إلى درجة أعلى من حالة البشرية قبل سقوط آدم لأنه يُتحد نفسه بالمسيح ويحيا حالة التأله السعيدة والمباركة.

أول اختبار لإعادة الولادة هو في سر المعمودية الذي من خلاله ندخل إلى حياة المسيح وصليبه وقيامته. من خلال المعمودية في الجرن، أي الاشتراك في صليب المسيح وقيامته، يكون “إنساننا العتيق قد صُلب معه {المسيح} ليبطل جسد الخطيئة كي لا نعود نُستعبَد أيضاً للخطية” (6:6). إذاً، بقوة النعمة الإلهية وتكافلنا (synergy) أي من خلال المعمودية والاتحاد بالمسيح، ممكن لنا الآن ألاّ نترك الخطيئة تحكم جسدنا الفاني.

وكما وصف حالة البشرية في العهد القديم تحت ناموس الموت والخطيئة بشكل رائع جداً ودقيق، فهو يصف أيضاً حالة قيامة الإنسان وإعادة ولادته في يسوع المسيح، بوضوح فكر وأسلوب روحيين إلهيين. هنا سوف نورد نصاً هو بمثابة مفتاح ومن ثم نحاول تقديم تحليل مقتضب: “لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله. إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا ابا الآب. الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً ورثة الله ووارثون مع المسيح. إن كنا نتألم معه لكي نتمجد معه أيضاً” (14:8-17).

بشكل مغاير لروح العبودية، يأخذ المسيحيون روح التبني ويصبحون أبناءً لله بمعموديتهم وحياتهم المسيحية بشكل عام. وهكذا فإن ناموس الموت والخطيئة يُقهَر وتحكم حياة الله فيهم. التبني هو وجه مميِّز لأبناء الله المتجددين. هذا التبني لا تثبته شهادات بشرية أو تأكيدات مكتوبة خارجية، إنما هو بشهادة من روحنا أي ناموس نوسنا الموجود في أعماق كياننا. ناموس النوس، أي النوس نفسه، يتحرر من ناموس الموت والخطيئة، وفي كونه في حالة من الاستنارة، يصلّي بلا انقطاع إلى الله الآب، وأيضاً إلى المسيح الذي يعتبره أباً بسبب إعادة الولادة: “إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا ابا الآب” (15:8). وهذه الصرخة الداخلية تحمل شهادة التبني (16:8) ومن بعدها بالتأكيد يصبح الإنسان وارثاً لله ومشاركاً للمسيح في الميراث.

إن صلاة القلب الداخلية هي إشارة واضحة للتبني بالمسيح. لهذا السبب، واضحة هي عبارة الرسول بولس: “وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كان روح الله ساكناً فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له” (9:8). مَن ليس روح المسيح في داخله ولا يصلّي بلا انقطاع إلى الله، ليس ابناً له. إنه لا ينتمي إلى المسيح وذاك بالضبط لأنه إن لم يعش الحياة في المسيح، لا يكون قد تحرر من ناموس الموت وبالتالي هو يعيش في زمن العهد القديم. أن لا يكون روح الله في داخله هو حقيقة تؤدي إلى أن يحكم فيه ناموس الموت والخطيئة مع كل النتائج التي رأيناها سابقاً.

يشير موقف الرسول بولس اللاهوتي الرابع إلى نتائج إعادة ولادة الإنسان وتحرره من الناموس الآخر أي ناموس الموت، من خلال العيش بحسب ناموس الروح. كما ذكرنا سابقاً، لم تعد الخطيئة تحكم في جسد الإنسان الفاني (12:6). يتم تخطي الموت في داخل حياتنا الشخصية. رباط الإنسان بالمسيح قوي لدرجة أن شيئاً لا يستطيع أن يفصلهما، لا شدة ولا ضيق ولا اضطهاد ولا جوع ولا عري ولا خطر ولا سيف (أنظر 35:8). في هذا الإطار، ليس فقط أن الموت لا يحكم في كيان الإنسان، بل أيضاً ليس هناك خوف من الموت أيضاً. بعد ذلك، تبعاً لنموذج المسيح، يريد الإنسان أن يتألم من أجل الآخرين أيضاً. فهو يفقد الخوف من الموت، ليس فقط في تفاصيل حياته بل أيضاً في فحوى عيشه مع الآخرين حيث يقدم نفسه ضحية من أجلهم لأن الموت لم يعد يحكم فيه.

إن لِمأساة الإنسان نتائج على كل الخليقة لأن من خلاله انتشر ناموس الموت فيها كلها. لهذا السبب، فالخليقة “تئن وتتمخض معاً إلى الآن” (22:8). تنتظر الخليقة تحررها من حالتها المتحسرة. هذا التحرر سوف يأتي بظهور أبناء الله (19:8). لهذا السبب يؤكد الرسول: “أن الخليقة نفسها ستعتَق من عبودية الفساد إلى حرية أولاد الله” (21:8). مع هذا، وبالرغم من تخطي الموت بالحياة الأسرارية وإعلان الله، ما يزال الموت موجوداً. أي أن الفنائية تبقى إلى موت الخطيئة وتجلّي كل قوى النفس. ما تم في المسيح ومُنح لنا في سر المعمودية يجب أن يكتمل بجهادنا الشخصي.

آخر نقطة في قهر الموت هي الرجاء بقيامة الأجساد أيضاً (11:8). في المجيء الثاني، روح الله التي تسكن في جسدنا هي مَن سوف يفعم بالحياة أجسادنا التي ماتت بسبب الخطيئة في الحياة الحاضرة والموت. لم يستطع ناموس موسى أن يحرر الإنسان من ناموس الخطيئة، لكنه هيأه لمجيء المسيح، ولهذا يُدعى “مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان” (غلاطية 24:3). وحده  تجسد المسيح والمشاركة في بركات التجسد حررا الإنسان من الموت وقاداه إلى حرية أبناء الله.

خاتمة

لقد قاربنا موضوعنا، خدمة الإنسان الرعائية في القرن الحادي والعشرين، عن طريق شرح أن هذه الخدمة ليست مستقلة عن تحرر الإنسان من الموت، ولا هي مختلفة عن الخدمة التي كانت تُمارَس في القرون السابقة. بالطبع هناك بعض الاختلافات في طريقة التعبير عن الموت في كل فترة، لكن حقيقة وجوده هي حدث كياني لا يمكن تلافيه. لقد عالج الفلاسفة هذا السر منذ القديم واهتم الناس من جيل إلى جيل بهذه المسألة.

يعبر الإنسان بسلسلة من الأزمات المميتة من يوم مولده. فهو يختبر الموت عندما يكون مريضاً وعندما يشيخ. الوليد الذي يبكي عند انفصاله عن الرحم، الطفل الذي يحس بالألم في جسده النامي، الولد الذي يُصدَم عندما يكتشف أن الموت حدث غير عَكوس، المراهقون بأسئلتهم الوجودية حول الموت ومعنى الحياة، متوسطو العمر الذين يحسون بأن الحياة تمر بسرعة، المسنون الذين يحسون أنهم في غرفة انتظار الموت: كل هذه حالات تظهر أزمة البشرية العظيمة، على المستويين الشخصي والاجتماعي. إلى هذا، فالشعور بالوحدة، الجري وراء الملذات كمحاولةٍ لمد الوجود بأسباب الحياة، السعي إلى المخدرات لتلافي اليتم الوجودي الداخلي، وغيرها الكثير من الأمور، هي نتائج لوجود الموت في داخلنا. يُضاف إلى هذا، عدم التوازن والهزات في داخل العائلات، كلها شؤون مرتبطة أيضاً بمسألة الموت غير المحلولة.

إذاً، كنيسة المسيح في تهيئها لمواجهة المشاكل التي سوف تنشأ في القرن الحادي والعشرين، لا تستطيع أن تغض النظر عن هذه الحقيقة. الموت وحش جائع في داخل كيان الإنسان. لا يهم لكَم من الوقت يبحث الإنسان عن لحظات خارجية سعيدة ليخفف ألمه، إن لم يمت هذا الوحش، سوف يبقى دائماً بائساً. قد يسافر ويتمتع ويطور العلم ويكسب أصدقاء، لكن هذا الوحش سوف يحتاج لغذاء وسوف يعوي في داخله. إذا حاول الإنسان أن يروّضه بأعمال بشرية، فسوف يبقى هذا الموت في أحشائه، ومن ثم سوف تنشأ المشاكل العصبية والنفسية التي هي بجوهرها وجودية.

قد تتوجه الكنيسة إلى مشاكل الإنسان الاجتماعية والاقتصادية التي هي عمل كل جيل، لكنها لا تستطيع أن تنسى الأزمة الأعمق أي الموت. لهذا ينبغي بالعمل الرعائي أن يكون في هذا الاتجاه ويعمل ضمن الإطار الذي قدّمه الرسول بولس، وغيره من الرسل والآباء القديسين، الذين أراحوا الإنسان فعلاً لأنهم تعاطوا مع مشكلته الحقيقية أي الموت. إن مشكلة الإنسان الأعمق هي أنثروبولوجية ولاهوتية. كل عمل رعائي آخر هو دهري وقد يخلق أوهاماً للخلاص، لكن في النهاية سوف يترك الإنسان في الوحدة واليأس.

إن عبثية الحياة الحاضرة وتخطي الموت فيها والرجاء في تحرير هذه الخليقة من الفساد والتهيئة للحياة الأبدية، هي ما يمكن أن يساعدنا للوصول ليس فقط إلى القرن الحادي والعشرين بل ايضاً إلى كل القرون التي سوف تتبعه. سواء بدأ هذا القرن أو انتهى بسبب مجيء يوم الرب العظيم، فالشخص الذي يعيش قيامته بالمسيح يسوع يتخطى الموت وبالتالي ليس لديه شيء للخوف لأنه منذ الآن مواطن في ملكوت الله.

[1] الإيمان بالقضاء والقدر

[2] Olympia Papdopoulou-Tsanana, The Anthropology of Basil the Great (Antrpologia tou Megalou Basileoiou), Patriarchal Foundation for Ptristic Studies, Thessaloniki, 1970, pp. 40.

[3] St. Gregory the Theologian, Second Homily on Pascha, pG 36.234, 632

[4] St. Basil the Great, Works, Prologue to the Great Ascetic Rule, PG 31.892

[5] St. Gregory the Theologian, Ad Julianum Tributorum Exquaetorum, PG 35.1049

[6] ibid., Homily 17, To the Citizens of Nazianzus, PG 35.977

[7] St. John Chrysostom, 10th Homily on the Gospel pf Matthew, PG 57.190

[8] St. Symeon the New theologian. Sources Chretiennes 174, p. 68.

[9]  الشفاني translucent أو نصف شفاف، وتشير هنا إلى صفة الذهن النقي الذي يؤهل صاحبه للتمييز (المترجم).

[10] ibid., 129, p. 422.

[11] يوحنا السلمي. السلم إلى الله. طبعة ثانية. سلسلة آباء الكنيسة. منشورات النور. بيروت. 1985. ص. 270.

[12] The Philokalia: The Complete Text, Trans. Palmer, Sherrard, Ware, 1984. vo. II, p. 329(66)

[13] ibid., p. 67.

[14] Ibid., p. 69.

[15] اسحق السرياني. نسكيات. منشورات النور. بيروت. 1982. ص. 7-10.

[16] St. Gregory Palamas, Works, Asketika, Rigopoulos Publications, pp. 7-9.

[17] Found in Early Christian Writings, trans. M. Staniforth, edit. Andrew Louth, Penguin publications 1987, pp. 144-5.

Leave a comment