المشكلات الوجودية في الكنيسة التاريخية – الجديدة

المشكلات الوجودية في الكنيسة التاريخية – الجديدة

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس

في مقابلة مع مجلة “Sobornost”

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

صاحب السيادة، يواجه العالم اليوم تحدّي العولمة الظاهر. كيف ترى أن على الكنيسة الأرثوذكسية أن تتجاوب مع هذه النزعات؟ هل العولمة مناسبة لبشارة الكنيسة أم هي تهديدٌ لها؟

إن مجمل بنية الكنيسة الأرثوذكسية، بطريركيات وكنائس مستقلّة وأسقفيات ورعايا وأديار، توحّد البشر فيما تحفظ تمايزهم. لطالما واجهت الكنيسة التحديات وسوف تواجه دائماً. “تستجيب” الكنيسة لهذا التحدي بالتعبير عن الحقيقة المعلَنة واختبارها، بالكلام عن الحرية والمحبة والسلام، بالصلاة من أجل أن تعمّ هذه الأمور في المجتمع وفي الانهماك برعاية أبنائها. إذاً، هي تتفاعل مع هذه التحديات لا بطريقة مصحوبة بالتشنّج بل بطريقة رعائية، محاوِلَة أن تساعد أعضاءها ليختبروا الحقيقة عملياً. في الأساس، أؤمن بأنّ علينا أن نكفّ عن رؤية أعداءٍ حولنا. الكنيسة كجسد المسيح لا تخشى شيئاً. بالمقابل، علينا أن نتطلع إلى الناس ذوي النظرة المجزّأة لحقيقة الله والعالم.

سؤال يشغل عدداً من الكنائس الأرثوذكسية المحلية هو العلاقة بين الكنيسة والدولة. من جهة، نرى جهوداً وحماساً عند كثير من الرؤساء الأرثوذكسيين الذين يحاولون بأي ثمن أن يحفظوا الرباطات الدستورية بين الدولة والكنيسة، ولكن من جهة أخرى تُطرَح معضلة حول ما إذا كان من مصلحة الكنيسة الأرثوذكسية نفسها أن تكون في هذه العلاقة الدستورية مع الدولة التي في نظامها القانوني ترفض الأسس الرئيسية للأخلاق المسيحية (كما نرى مثلاً في تشريع الإجهاض، الموت الرحيم، زواج المثليين….). كيف تعلّقون على هذه النظرات المتضاربة؟

أولاً، عليّ أن أشدد أنه كما نشير اليوم إلى العلاقة بين الكنيسة والدولة، كذلك في الماضي كان هناك جدل حول العلاقة بين الكهنوت والمُلْكية، ما يعني الفرق بين الإدارة الكنسية والسياسية. الكلمات هنا أرثوذكسية. في كل حالة من الحالات، العلاقات بين الكنيسة والدولة تقوم على الذاكرة التاريخية والتقليد الثقافي لكل شعب. هذا يعني أنه قد يختلف التقليد السائد في هذا الموضوع بين دولة وأخرى. مع هذا، القاعدة هي أنّه ينبغي على كل كنيسة محلية أن تعلّم كل الحقيقة المعلنة وتعبّر عنها، وتعيش كما عاشت الكنائس الرسولية، أي كما هو موصوف في أعمال الرسل ورسائلهم. لقد كان في هذه الكنائس رسل، أنبياء، شهداء، أي أعضاء أحسّوا في أعماقهم بعطية الروح القدس وكانت لهم خبرات في التألّه. من الضروري ألاّ تدخل الإدارة السياسية على حياة الكنيسة الداخلية ولا أن تنظّمها بقوانينها. بالإجمال علينا أن نكون حذرين حتى لا تتسرّب روح الدهرية إلى اللاهوت والعمل الرعائي وإدارة الكنيسة. من جهة أخرى، لا يمكن لأي دولة أن تكون مسيحية بالكامل، لأنها سوف تُرغَم على تمرير قوانين معادية للمسيحية، لكن أقل ما في الأمر هو أن تحترم الكنيسة ولا تتدخل في شؤونها الداخلية.

عند الكلام عن مواضيع أخلاقيات علم الحياة، الموقف الاعتيادي للمؤسسات الدنيوية هو أن هذه قضايا علمية “محايدة” أخلاقياً، وبالتالي، ما من مكان للدين أو للأخلاق فيها. كيف ينبغي أن يكون رد الكنيسة الأرثوذكسية وكيف تكون قادرة على التأثير في هذه القضايا؟

أخلاقيات علم الحياة هي بالواقع ردة فعل العلم على التطبيقات السلبية الممكنة للهندسة الوراثية وعلم الحياة الجزئي (molecular biology). فالهندسة الوراثية وعلم الحياة الجزئي تقدما إلى اكتشافات قد تمارس نوعاً من الإمبريالية على الجنس البشري، ما يُعرَف بالإمبريالية الوراثية. فمن جهة تدمّر الإنسان ومن جهة أخرى تخلق تلوثاً وراثياً في المناخ. لهذا السبب، حاول عدد من العلماء أن يضعوا بعض الحدود لهذه الكارثة المحتملة، وهكذا نشأت أخلاقيات علم الحياة التي تربط الهندسة الوراثية بالإنسانيات.

بعض علماء أخلاقيات علم الحياة يدّعون أن المسائل المطروحة علمية وعلى الأديان أن تبقى بعيدة عنها. مع هذا، الحقيقة أن علماء الوراثة وأخلاق الحياة واللاهوتيين يعالجون الإنسان، وعليه، هدفهم واحد والإنسان هو كلّ مشكّل من نفس وجسد. إذا حصرنا انتباهنا بالجسد فقط، فمن الممكن أن نرى الإنسان وكأنّه آلة حيّة ونترك مشاكله الوجودية بدون حلّ. معروف أن في الماضي، حين كان الطب ميكانيكياً إلى درجة كبيرة، تطوّر التحليل النفسي ليوازن الأمور. لهذا السبب، رسالة الكنائس الأرثوذكسية بعد مؤتمر القسطنطينية في أيلول 2000، برعاية البطريركية المسكونية، أشارت إلى أنه ينبغي معالجة مشاكل أخلاقيات علم الحياة من خلال لاهوت الحياة (biotheology) أيضاً. ولهذا السبب، في السنوات الأخيرة، اهتمّ الكثيرون من الإكليروس والمجامع المحلية بالمسائل اللاهوتية التي تدور حول بداية الحياة البيولوجية، إطالتها ونهايتها، كما بتلك المتعلّقة بحماية البيئة.

بالطبع، لا يتعارض اللاهوت الأرثوذكسي مع العلم، طالما يبقى الأخير ضمن حدوده. إن علم أخلاقيات الحياة هو مَن يضع حدود العلم، واللاهوت الأرثوذكسي يعالج رعاية الإنسان ويقود من حيث ينتهي العلم إلى التألّه.

إن مسألة اشتراك الكنيسة الأرثوذكسية في ما يُعرف “بالحوار المسكوني”مع الطوائف غير الأرثوذكسية، تثير قلقاً عظيماً وخلافات ضمن الجماعة الكنسية. فهناك الافتتان المغالي بالحماس الذي يبيّض، نوعاً ما، الحدود التي تفصل الكنيسة عن العالم، وهناك أيضاً الصدمة المتكررة الناتجة عن حركات يُشتَبَه بأنها تساوم، ولو قليلاً، على هوية الكنيسة الأرثوذكسية الواحدة المقدسة، وقد أدّت هذه الصدمة في بعض الأحيان إلى انقسام. ما هو السلوك المناسب في التعاطي مع هذا الأمر؟ أتعتبرون أن هذا “الحوار المسكوني” مفيد بشكل أو بآخر للكنيسة؟

إن الميلين المذكورين منتشران في أيامنا. في بعض الأحيان هناك تفاؤل مفرِط يؤدّي إلى الدهرية والتبسيطية العقائدية، فيما في أحيان أخرى هناك ردة فعل تؤدي إلى الأصولية والتعصب. النقطة ليست الحوار بحدّ ذاته. الرسل والآباء انشغلوا بالحوار. المشكلة هي في حوار يرفض كون اللاهوت إعلاناً للحق، وكون الكنيسة جسد المسيح الوحيد، وكون الرعاية عمل الكنيسة الذي يوصل إلى التألّه. تكمن مشكلة ما يُعرَف بالمسكونية في هذه النقاط. الكنيسة الأرثوذكسية مسكونية (Ecumenical)، أي أنها جامعة مستقيمة الرأي، لأنّها تمتلك ملء اللاهوت وملء الحياة، لكنها لا تستطيع أن تكون من أتباع المسكونية (ecumenistic)، أي أن تعيش في التبسيطية العقائدية والضلال الإكليسيولوجي.

النقطة الجوهرية هي أنه في هكذا حوار بين الكنيسة الأرثوذكسية والطوائف الأخرى، يجب تحديد أساس أكليسيولوجي ويجب أن يكون المشاركون أشخاصاً من الذين يختبرون حقيقة الكنيسة، ومن أصحاب الفكر الآبائي الذين يدرسون العقائد بطريقة داخلية وليس خارجياً أو على أساس أنها مجرّد مفاهيم. هذا يعني أنهم يرون كيفية إجابة العقيدة على تساؤلات الإنسان الوجودية، أي بتعبير آخر، يرون كيفية إجابة العقيدة على السؤال حول ما هي الحياة، ما هو الإنسان، وكيف يتّحد مع الله. لهذا السبب، نحن نشير في القداس الإلهي إلى الاتحاد في الإيمان وشركة الروح القدس وليس إلى “وحدة الكنائس” أو اتحاد الشركات والمؤسسات، حتى “المسيحية” منها، ولا إلى أعمال العلاقات العامة.

يذكر الشيخ المبارك باييسيوس الأثوسي مراراً أن الانتشار السريع للأمراض العقلية هو الأكثر خطورة بين المشاكل التي تعاني منها الإنسانية المعاصرة. أمِنَ الصحيح التفكير بأن لهذه الاعتلالات النفسية خلفية روحية، وبالتالي، العلاج النفسي الصحيح الوحيد لهذه الاعتلالات هو ما تقدمه الكنيسة الأرثوذكسية؟

الأمراض العقلية والروحية، وحتى أمراض الجسد، ترتبط بمشاكل الإنسان الوجودية، أي بُعده عن الله ودخول الموت إلى وجودنا. الخطيئة هي مرض روحي. موت الجسد، الذي نرثه من أهلنا ويكمن في خلايانا مع مورثات العمر، هو نتيجة لبعد الإنسان عن الله. تحفظ الكنيسة الأرثوذكسية هذه الطريقة العلاجية، أي التقليد الهدوئي، الذي نسمّيه الطب النفسي الأرثوذكسي. بحسب القديس غريغوريوس بالاماس، الكنيسة هي جسد المسيح وشركة التألّه. عبارة “شركة التألّه” تظهِر الطريقة التي بها يختبر الإنسان التألّهَ في حياته بالنعمة.

للأمراض العقلية مضاعفات على الجسد، كما أن أمراض الجسد تؤثّر على النفس. أبعد من هذا، لا يوجد أي مرض عصبي (neurological) مرده الإرهاق الجسدي، هناك تأثيرات شيطانية، أو في بعض الأحيان يسمح الله بمرض من أجل المنفعة الروحية للإنسان. لهذا السبب، في بعض الحالات، تساعد أمراض الجسد حياة الإنسان الروحية أكثر مما تساعدها الصحّة. أنا أؤمن أنه ينبغي على الآباء الروحيين الذين يعملون على علاج الإنسان أن يفرّقوا بين الأمراض الجسدية، الروحية،النفسانية، والشيطانية. التفريق هو هدف اللاهوت الأرثوذكسي. يكون اللاهوتي أرثوذكسياً إذا كان قادراً على التمييز بين المخلوق وغير المخلوق، بين الشيطاني والإلهي، بين النفساني والروحي، بين الجسدي والروحي.

بما أنكم أشرتم إلى الأب باييسيوس، عندي ملاحظة هي أنه كان في حالات الأمراض المختلفة يحيل المرضى إلى آباء روحيين في بعض الأحيان، وإلى أطباء في أحيان أخرى أو إلى قديسين. غالباً ما كان يقول: “هذا الولد بحاجة إلى قديس”، ويرسله إلى القديس نكتاريوس، القديس جراسيموس وغيرهما… بينما في أوقات أخرى كان يحيله إلى أطباء كان يعرفهم.

تواجه الكنيسة في البلاد التي كانت شيوعية في أوروبا الشرقية، مشكلة رئيسية وهي بالطبع ما يُعرَف بالمسيحيين الإسميين. أعني، قسم كبير من أهالي هذه البلدان سبق وأعلنوا أنهم أرثوذكسيين، وبالرغم من هذا، فهم لا يعترفون بالإيمان الأرثوذكسي، بالمقابل هم إما لاأدريون أو ملحدون، وبالتالي، لا يشتركون في صلوات الكنيسة وحياتها الليتورجية، وكل ما يرونه في الأرثوذكسية هم مجرد فولكلور وعلامة إثنية. ما الموقف الواجب اتخاذه نحو هؤلا الناس، خاصةً إذا أُخذ بالاعتبار أنّهم غالباً ما يتوقون إلى التأثير على الكنيسة والسيطرة عليها؟ أخيراً، بأي طريقة ينبغي أن تقارب الكنيسة هؤلاء الإسميين لكي تضمهم إلى حضنها؟

“المسيحيون الإسميون” أو “الإكليروس الإسميون” هم مشكلة أساسية عند الكنيسة، لأنهم يسببون الانشقاقات بأهوائهم المختلفة. إنهم يعتبرون الكنيسة مؤسسة اجتماعية، منظمة اجتماعية، ديانة، أو حتى في أفضل الأحوال مؤسسة دينية أو وطنية. لقد صار واضحاً، كما ذكرت سابقاً، أن الكنيسة هي “جسد المسيح وشركة تألّه”، بحسب تعليم القديس غريغوريوس بالاماس. إنها جسد المسيح، لأن رأسها المسيح يقيم صلة مُحكَمة بأعضائها من خلال الأسرار والعقائد. إنها أيضاً شركة تألّه، لأن أعضاءها يشتركون، بدرجات مختلفة، في التطهر والاستنارة والتألّه.

أعضاء الكنيسة أولئك الذين لا يعيشون بحسب وجهة النظر هذه، يقادون تدريجياً إلى اللاأدرية والإلحاد ويصيرون دهريين، أعضاء مرضى في الكنيسة، بغض النظر عمّا إذا ادّعوا الانتماء إلى الكنيسة أو لا. علينا أن ندرك أن الكنيسة هي مستشفى روحي وليست حقل تنافس تسوده الأهواء. القديسون هم الأطباء، والمسيح هو الطبيب بامتياز، والرعاة العاملون باسم المسيح ضمن بنية نظام القديسين يقومون بوظيفة علاجية. ينبغي أن يكون كل المسيحيين على درب الشفاء.

في هذه البيئة، لا يمكن للكنيسة أن تتحوّل إلى الفولكلورية أو الوطنية. يحدد القديس بولس مهمّة المسيحيين بوضوح فيكتب: “هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ” (2كورنثوس 5:10). في النهاية، في أي حال، الكنيسة تعالج المسيحيين بعملها الرعائي، بغض النظر عن عمرهم الروحي. المطلوب هو أن يعرف الكهنة طريقة العلاج.

علاوة على هذا، إذ نتذكر أن الإنجيل يبدأ برسالة التوبة، يمكن أن نتساءل عمّا إذا كانت التوبة خبرة شخصية فقط أم أن هناك شيء مثل التوبة الجماعية حيث قد يجري تحوّل لشعوب بكاملها؟ أمِن الممكن إيجاد أمثلة عن هذا في تاريخ الكنيسة؟

التوبة هي الشرط اللازم لاختبار إنجيل الملكوت. بدأ المسيح تعليمه بالتوبة، لأنه يتابع الحوار الذي انقطع في الملكوت مع الإنسان. هناك، آدم بخطيئته قطع حواره مع الله والآن المسيح بالتوبة يبدأ الحوار بهدف إعادة توطيد علاقة الإنسان مع الله. في اليونانية، كلمة توبة (مطانية) تعني تغيير النوس. بحسب التعليم الأرثوذكسي، النوس هو عين النفس ولا يحدَّد بالعقل. يختلف النوس عن العقل. بالخطيئة يظلِم نوس الإنسان، وبالتوبة تبدأ استنارته. لهذا السبب، يشدد تعليم الكنيسة الأرثوذكسية الهدوئي على أن معالم الطريق إلى الله هي هذه الكلمات الثلاثة: التطهّر، الاستنارة والتألّه. يتنقّى القلب من الأهواء بالتطهّر، يستنير النوس ويبدأ بالصلاة بلا انقطاع بالاستنارة، وبالتألّه يعاين الإنسان مجد الله.

إذاً بالمبدأ، التوبة هي خبرة شخصية. لكنها أيضاً خبرة جماعية، إذ عندما تفقد كنائس محلية بأكملها الحقَّ ورسالتها الرعائية عليها أن تتوب. لهذا السبب نحكي عن خطايا لاهوتية وكنائسية. هكذا ينبغي أن نفسّر رسائل الله إلى ملائكة الكنيسة، كما ترِد في الفصول الأولى من رؤيا يوحنا. ولهذا السبب نهتمّ كثيراً بالهرطقة والانشقاق إذ من خلال الهرطقة ننقطع عن الحق المعلَن بالمسيح وبالانشقاق نقطّع أوصال كنيسة المسيح، بما لذلك من عواقب وخيمة على حياتنا، إذ كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم، ولا حتى شهادة الدم تقدر أن تخلّص مَن يغتصب كنيسة المسيح. لهذا، التوبة الجماعية هي العودة إلى حقيقة الكنيسة العقائدية وإعادة تكاملنا في وحدة الكنائس المحلية.

نريد الآن أن نعالج موضوعاً حساساً هو العلاقة بين الخبرة الرهبانية وجامعية الكنيسة. بتعبير آخر، نحن نشهد حالات حيث، في بعض الحلقات (خاصةً في بلادنا)، ترِد آراء تؤكّد علوِيّة “النسك” و”صلاة القلب والعقل” حتى فيما يتعلّق بالترتيب القانوني للكنيسة وليتورجيتها الواحدة؛ ويصل الأمر لغاية استعمال هذه الادّعاءات غالباً كتبرير للانسحاب من الكنيسة والإصرار على الانشقاق. باختصار، نريد أن نسمع موقفكم في ما يتعلّق بهذه الظاهرة، خاصةً ما إذا كان هناك أي معنى للنسك ولصلاة القلب والعقل خارج الوحدة الليتورجية والقانونية لكامل الكنيسة الأرثوذكسية.

منذ أيام القديس إيريناوس، علّمنا آباء الكنيسة أن الكنيسة مرتبطة بشدّة بالأرثوذكسية والقداس الإلهي. الكنيسة هي “جسد المسيح وشركة تألّه”، الأرثوذكسية هي التعليم الصحيح وحياة الكنيسة، والقداس الإلهي هو ممارسة الكنيسة. الثلاثة مرتبطون ببعضهم الآخر، ولا يوجد بينهم واحد أرفع أو أدنى من الآخرَين. كنيسة من دون الأرثوذكسية والقداس الإلهي هي مكان اجتماع. الأرثوذكسية من دون الكنيسة والقداس الإلهي هي مدرسة هرطوقية، والقداس الإلهي من دون الأرثوذكسية والكنيسة هو مجرّد اجتماع ديني.

علينا أن ننظر إلى العلاقة بين النسك، صلاة القلب النوسية والقداس الإلهي ضمن هذا الإطار. القداس الإلهي هو مركز حياة الكنيسة، لأن بالقداس الإلهي نتناول جسد المسيح ودمه، لكن القداس الإلهي يفترض مسبَقاُ النسك وصلاة القلب النوسية. كلا النسك وصلاة القلب النوسية يشيران إلى القداس الإلهي. لا يُقام القداس الإلهي من دون شروط مسبقة ولا هي صلاة القلب النوسية مفصولة عن القداس. كلا الوضعان المتطرفان المستقلان يثير مشاكل كنائسية. إن الذي يعيش نسكياً ويمتلك صلاة القلب النوسية من دون القداس الإلهي يكون متأثّراً بظروف غير شرعية وآثمة. إن الذي يعيش القداس الإلهي من دون إستيفاء شروط النسك يكون سالكاً بطريقة آلية في حياته في الكنيسة.

إلى هذا، لا يمكن للمواهب الروحية أن تبطِل ترتيب الكنيسة القانوني، الذي وضعه الروح القدس، لأن الروح القدس “يشكّل كامل قانون الكنيسة” من خلال المجامع المحلية والمسكونية. في الوقت عينه، لا ينبغي بنا أن نستخفّ بالمواهب الروحية بإسم الترتيب القانوني. بالإجمال، مطلوب انتباه كبير في ما يتعلّق بالتحركات المستقلّة وحالات المغالاة في التشديد على بعض الأوجه الخاصة في حياة الكنيسة.

خلال العقود الأخيرة، وقعت المجتمعات، التي اعتبرت نفسها في الماضي مسيحية، ضحية تدفّق شيَع الأديان الزائفة (المتمثلة في عدد من أنظمة اليوغا والتأمّل، هستيريا الأجسام الغريبة، الوثنية الجديدة…)، وكلها تحت مظلّة ما يُعرَف بتيار العصر الجديد (New Age). ماذا ترون سبب شعبية هذه التيارات وكيف ينبغي أن تتصرّف الكنيسة الأرثوذكسية بوجود “روحانية” العصر الجديد المذكورة آنفاً؟

سبب انتشار بدع الأديان الزائفة المختلفة وما يُعرَف بالشيع الدينية أو الوثنية الجديدة، والتي يسقط عدد كبير من أعضاء الكنيسة ضحايا لها، هو أن كثير من الناس ابتعدوا عن تقليد كنيستنا النسكي. كما هو معروف، التقليد النسكيالهدوئي في الكنيسة، الذي يشكّل روح النبوّة والرسولية والشهادة في الكنيسة قديماً، هو المعيار الذي به يمكن تمييز ما إذا كانت بعض الأعمال تأتي من الله أو من الشيطان. يعلّم القديس غريغوريوس النيصّي أن البدع تزدهر عندما يغيب الأنبياء. والأمر هو على هذا المنوال لأن الأنبياء والرسل يعرفون كيف يميزون الكذب من الحق.

إلى هذا، في أيامنا، لا يرتاح الناس، وخاصةً الشباب منهم، بالطرق التقليدية، أو في حياة أخلاقية ظاهرياً. بالمقابل هم يبحثون عن أجوبة لأسئلة وجودية، ويتطلّعون إلى السلام الداخلي والحرية الكيانية. لهذا، ما هو ضروري أكثر من أي شيء آخر في أيامنا هو التقليد الهدوئي، الذي يشكّل أساس الإنجيل، إطار القداس الإلهي، وجوهر الخطاب الرسولي والآبائي. هذه الروح موجودة بوفرة في الفيلوكاليا وأقوال الآباء. عندما تُقرأ هذه النصوص ضمن البنية القانونية للكنيسة الأرثوذكسية، تساعدنا على تجنّب المظاهر الخادعة وكل ما هو مرتبط بها.

تقول الإحصائيات أن في بعض دول الاتحاد الأوروبي تنتهي أكثر الزيجات بالطلاق. أتظنون أنّه إلى جانب المشاكل الاجتماعية تكمن أيضاً أسباب روحية للانحلال العائلي الذي يثير الرعب في المجتمعات الحديثة، وبالتالي، ما هي المواقف والسبل المحددة التي ينبغي على الجماعة الأرثوذكسية أن تتخذها لكي تقاوم هذه النزعة؟

أسباب الطلاق هي الأهواء المختلفة التي تنمو في الإنسان، كمثل محبة الذات ومحبة اللذة والأنانية. عندما يقرأ الإنسان خدمة سر الزواج بتأنٍ، يجد أن حياة الرجل والمرأة المشتركة، التي ينبغي أن تكون في المسيح، تُعاش ضمن إطار محدد. عندما ينتهك أحد ما هذا الإطار، يختبر أولاً ما يُعرَف بالطلاق العاطفي ومن ثم ينتهي بالطلاق الكامل. الطريقة التي نرمز بها إلى رقصة إشعياء في الإكليل ذات دلالة: الكاهن يقود العروسين، حاملاً الإنجيل ومرتلاً “أيها الشهداء القديسون الذين جاهدتم حسناً وتكللتم”. هذا يعني أن خطوات العروسين الجديدين سوف تشبه الشهادة ولهذا ينبغي أن يكون الكاهن دوماً أمامهما ليقودهما على أساس الإنجيل. هذا يعني أن هناك نسك ضمن الزواج، إنه نسك الكنيسة. عندما لا يُحتَرَم هذا، يصبح الزواج دهرياً.

على الجماعات الأرثوذكسية أن تساعد الناس منذ نشأتهم على أن يتعلّموا بوضوح مغزى وجود الإنسان، وهدف الزواج ونتيجته. فهدف الزواج ليس مجرد المساكنة الاجتماعية بل اختبار الملكوت على الأرض وهو طريق إلى الملكوت.

نصل الآن إلى الرهبنة الأرثوذكسية، ما الذي تعتبرونه دورها الأول في الظروف الحاضرة مقارنةً بالماضي؟ أتقولون أن كل عصر يطرح تحديات مختلفة على الجماعة الرهبانية، وإذا كان الأمر كذلك، ما هي مهمتها الخاصة في زماننا هذا؟

في الكنيسة الأرثوذكسية، الرهبنة الأصيلة هي تلك التي تعيش التقليد الهدوئي الذي ذكرناه سابقاً بالكامل، وينبغي أن يكون الرهبان، بحسب قول قديم، “يحيون بحسب الإنجيل”. ما يثير الاهتمام هو أن التوحّد تطور كردّة فعل على “الروح” الدهرية، إذ بعد أن توقف اضطهاد الكنيسة في القرن الرابع تسرّبت “الروح” الدهرية إلى الكنيسة. لهذا السبب، الرهبنة الأرثوذكسية، على عكس الرهبنة الغربية، هي اختبار حياة النبوة والرسولية والشهادة، بخلاف الغرب حيث الرهبان لا يخلِّصون الكنيسة بل هم يخلُصون ببقائهم ضمن الكنيسة.

بالتالي، تعمل الأديرة، وعليها أن تعمل، كمدارس طبية في الكنيسة. يتعلّم الأطباء في المدارس الطبية ماهيّة المرض الجسدي، ماهيّة الكائن الحي السليم، وكيف يُشفى المريض. على المنوال نفسه، يتعلّم الرهبان في هذه المدارس الروحية طريقة العلاج الروحي للإنسان. إذا فقدت الرهبنة هذا الهدف تصير دهرية وتسبب خيبة كبرى للمسيحيين. إذ في هذه الحالات، تصير الرهبنة منظمة دهرية، مكاناً يُعنى بكل الأهواء والعدوانية والتعصّب.

في الختام، يا صاحب السيادة، ما هي رسالتك ونصيحتك إلى الأرثوذكسيين في بلادنا في لحظات هذه المحنة القائمة؟

أرى أن ما قلتُه إلى الآن رداً على أسئلتكم يمكن اعتباره جواباً لهذا السؤال الأخير. بشكل عام، في الوقت الحاضر هناك حاجة كبيرة للوحدة في حياة الكنيسة، حتى تتوحّد المواهب الروحية مع البنية القانونية للكنيسة، الحياة النسكية مع القداس الإلهي، شفاء الإنسان مع تعليم الكنيسة العقائدي.

في ما يتعلّق ببلادكم بشكل خاص، أرى أنه يجب إيجاد الطريقة المناسبة لإحراز الوحدة القانونية مع الكنائس الأرثوذكسية الأخرى يتقدمّها البطريرك المسكوني. لا يبارك الله الانقسامات والشقاقات، ولا يمكن أن تنمو أي حياة روحية أرثوذكسية صحيحة ضمن هذه الانشقاقات. وفوق كل شيء، علينا أن ندرك أن وجود الكنيسة الأرثوذكسية يتخطّى الأمم والبلدان، ولهذا السبب لا يمكن اعتبار الكنائس وطنية أو معاقل للوطنية. يأمر القديس الرسول بولس بوضوح: “فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ” (فيليبي 20:3). مركز انتباهنا، رؤيتنا، أملنا، ورجاؤنا هو دولة السماوات، حيث يرتع القديسون الآن، متحدين مع المسيح. عندما نفكّر بهذه الطريقة، ينطبق قول آخر للرسول القديس بولس: “إِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ. 2اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى الأَرْضِ” (كولوسي 1:3-2)، ومن ثمّ تنحلّ كل المشاكل الشخصية والاجتماعية.

Leave a comment