كيف ندرس كلمات الآباء وننقلها

كيف ندرس كلمات الآباء وننقلها

الأرشمندريت باسيليوس

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

ملكوت الله ليس تلموداً، ولا هو مجموعة من الاقتباسات الكتابية أو الآبائية التي تأتي من خارج حياتنا وكياننا. إن ملكوت الله هو في داخلنا كمثل خميرة تغيّر، بشكل جذري، كل حياة الإنسان نفساً وجسداً. إن المطلوب في دراسة الآباء، لكي نبقى أمناء لروح الحرية عندهم ومستحقين لنبلهم الروحي وعذوبتهم، هو أن نقارب نصوصهم المقدسة بالخوف الذي به نقارب ونكرّم أيقوناتهم وبقاياهم المقدسة. وبما إن الجو الآبائي مختلف كلياً، فإن هذا الإكرام  الليتورجي سوف يُظهر لنا بسرعة نعمة أخرى تفوق الوصف. هناك بعض المقاطع الأساسية في النصوص الآبائية التي نحسّ أنها تتطلّب منّا تغيراً غير مألوف وهي تقوم بصنعه في داخلنا. هذه يجب أن نجعلها جزءً من كياننا وحياتنا، كحقائق ورؤى لتخمير كل شيء. وفي الوقت نفسه، يجب أن ننكبّ بكليتنا على دراسة الآباء، مفتدين الوقت ومستفيدين منه. هذا الزواج، هذه المعمودية في الدراسة الآبائية تجلب لنا ما نحتاجه، ما ليس حِملاً إضافياً من المراجع الآبائية وحفظاً لآراء الآخرين، إنما اكتساب حسّ أكثر جدّةً، حسّ واضح الرؤية يؤهّل الإنسان لأن يرى الأشياء بشكل مختلف وأكثر صحة. إذا حصرنا أنفسنا في حفظ المقاطع عن ظهر قلب وتصنيفها ميكانيكياً وتعليم الناس على هذا المنوال، يكون خطؤنا جسيماً ويجعلنا، بكل بساطة، نفشل في تعليم طريقة الحياة والفلسفة الآبائيتين كما في جعلهما معروفتين. لأن ما هو مميِّز كلياً في النتاج الآبائي هو أنه يُفهَم ويُمتَلَك في آن واحد، يتكوّن وينمو، وذاك نتيجة للنعمة وقوة حرية الروح.

ما يطلبه الآباء ويقدّمونه هو التغيير الذي يأتي من الروح. إذا أردنا أن نقاربهم خارج هذه الحقيقة، سوف لن نفهمهم ككتّاب وسوف نزدريهم كأشخاص.

إن نقل الكلمة الآبائية، كلمة الآباء القديسين، ليس مسألة تطبيق أقوالهم على هذا أو ذاك من المواضيع عن طريق المؤالفة. إنه العملية التي بها تأخذ الأعضاء الحية الغذاء فتستوعبه وتحوّله إلى دم وحياة وقوة. وبالتالي، هذا يعني نقل الفرح إلى الحياة وإعلان هذه الأعجوبة فيها، بفعل جلبها إليها. إنها خبرة نفهمها بطريقة تغلب الشك والمناقشة. إذاً، عيش الكلمة الآبائية لا يُنقَل ميكانيكياً، ولا يحفَظ كالآثار، ولا يُقارَب بالتنـزه في التاريخ. إنه يُنقَل كاملاً ومليئاً بالحياة. هكذا يمر من جيل إلى جيل: من خلال الأعضاء الأحياء، مغيّراً إياهم، خالقاً “آباءً” يجعلون هذه الكلمة خاصتهم، ملكية جديدة، أعجوبة، ثروة تزداد كلما أعطيناها. هذا هو التغيُّر غير المتغيِّر المصنوع بالقوة التي تحوّل الفساد إلى عدم الفساد. إنها الحركة الدائمة الثابتة لكلمة الله وثباتها الأبدي. كل يوم تبدو هذه الكلمة مختلفة وجديدة، وهي نفسها. هذا هو سر الحياة الذي دخل إلى عمق طبيعتنا الميتة وأقامها من الداخل محطِّماً قيود الجحيم.

تقديم كلمات الآباء للآخرين يعني أنني أحيا بها وقد تغيّرت بها. وهكذا لهذه الكلمات القوة على التغيير، حتى يأكلها ويشربها مَن أعطيه إياها. إن تحوّل الكلمة في داخل الإنسان وما ينتج عنه من تغير شخصي يحفظ بغير تغيير سر الحياة الشخصية غير المتكررة التي نتعلمها ونعطيها آبائياً. إنها مثل الغذاء الذي تأكله الأم: يغذيها ويبقيها حية، وفي الوقت نفسه يصبح في حليبها الشراب لمعدة طفلها.

كم هو جميل أن يصبح الإنسان لاهوتاً. عندها مهما فعل، وخاصةً ما يفعله عفوياً (إذ أن ما هو عفوي فقط حقيقي)، يشهد لتجسد ابن الله وكلمته ويحكي عن هذه الحقيقة، وعن أنه صار إنساناً بالروح القدس ومريم الدائمة البتولية. إنه يتحدث بصمت عن الأسرار التي لا تُدرَك والتي أُظهِرَت في الأزمنة الأخيرة.

هذه الحياة اللاهوتية والشهادة التي هي بركة تحلّي حياة الإنسان. إنها الغذاء الذي يُقتطَع ويُعطى للآخرين؛ الشراب الذي يُغدَق بوفرة للإنسان حتى يستهلكه ويطفئ عطشه. في هذه الحالة لا يتكلم المرء عن الحياة بل يعطيها: يطعم الجائع ويعطي الشراب للعطشان. على العكس، اللاهوت السكولاستيكي والتركيبات الفكرية لا تشابه جسد السيد، أي الغذاء الحقيقي، ولا دمه، أي الشراب الحقيقي؛ بالأحرى إنها مثل حجر يجده المرء في طعامه. هكذا، تبدو السكولاستيكية في فم مَن اعتاد ليتورجيا الكنيسة وتذوّق طعمها كمثل كتلة غير قابلة للهضم وغير إنسانية، مرفوضة كونها غريبة وغير مقبولة.

إن كلماتنا هي غالباً مترهلة وضعيفة. لكي تنتقل الكلمة وتعطي الحياة، يجب أن تصبح جسداً. عندها، مع كلمتك، تعطي جسدك ودمك للآخرين، فقط عندها تعني كلماتك شيئاً. الكلمات التي من دون جسد، والتي لا تنبع من الحياة ولا تشارك جسدنا المهزوم ودمنا المهدور، لا تعني شيئاً. لهذا السبب، في العشاء الأخير، لخّص السيد سر تعليمه بقوله: “خذوا كلوا جسدي”، “اشربوا دمي”.

محظوظ هو الرجل المقطّع إلى أجزاء والمُوزَّع على الآخرين، المسفوح والمعطى للآخرين ليشربوه. عندما يأتي زمن حسابه لن يخاف.

From Hymn of Entry, by Archimandrite Vasileios (Crestwood, NY: St. Vladimir’s Seminary Press, 1984), pp. 34-36.

Leave a comment