الأرثوذكسية وحروب الحضارات

الأرثوذكسية وحروب الحضارات

الأب جون بريك

تعريب الأب أنطوان ملكي

يقوم في هذه الأيام جدال مقلِق، وفاتن في الوقت نفسه، ينبغي أن نكون على إلمام به. إنهّ يتعلّق برؤيتنا الجوهرية لله والعالم وأنفسنا. وهو قد قسّم الحضارة التي نعيش فيها إلى مسيحية  تقابلها ضد مسيحية، ومسيحية تقابلها دهرية (secular).  وقد عُبّر عن هذا الجدال بتعابير واضحة وصارمة في مجلة “أخلاق علم الحياة المسيحية (Christian Bioethics)” التي يحررها تريسترام أنكلهردت، وهو طبيب أرثوذكسي ومدافع عن أخلاقيات علم الحياة وأستاذ في جامعة رايس في هيوستن، تكساس. في عدد صادر مؤخراً، ارتفعت وتيرة الجدال بشكل ملحوظ. فما هي النقاط الأساسية؟

بعبارات فائقة التبسيط، هي التالية: لقد اعتبر الكتّاب الأرثوذكسيون في عدد من مقالات هذه المجلة أن الأخلاقيين والفلاسفة الكاثوليك قد استسلموا من دون علمهم للعقلية الدهرية، عقلية ما بعد الحداثة، التي يسعون إلى مجابهتها. هذا لأن تركيزهم الأساسي، على خطى البابا يوحنا بولس الثاني، هي تشكيل مقاربة فلسفية – أكثر منها تقليدية أرثوذكسية روحيةعلاجية- لأمور مثل الإجهاض والموت الرحيم والنظام الصحي الذي تغطيه الدولة.

في أعين النقاد الأرثوذكس أن تسمية الكاثوليك لهذه القضايا النبيلة “عدالة إجتماعية” و”أخلاقيات حياة متماسكة” قد تؤدي إلى سياسات مسيئة بالواقع أكثر منها مفيدة. مثال على ذلك هو مأساة الإجهاض. إذا تمّ التوصل إلى النهاية السعيدة للنظام الصحي على حساب سياسة تضعها الدولة بصفتها المموِّل الوحيد، فعندها لا محالة من أن تطلب الدولة، تحت الضغوطات غير الدينية، من الأطباء وغيرهم من العاملين في ميدان الصحة بأن يقبلوا النظرة الأخلاقية للمجتمع غير الديني، أي النظرة “المتحررة من القيود الدينية”. وهكذا، تحت شروط النظام الصحي العالمي الذي تغطيه أموال الضرائب، يصبح مطلوباً من الأطباء إن يوجّهوا المرضى إلى مختصين مستعدين للإجهاض، في حال كانوا هم يرفضون القيام به.

الشيء نفسه يصحّ على الانتحار المدعوم من الطبيب والموت الرحيم والحصول على أعضاء حيوية من الذين لم يموتوا بعد، بمَن فيهم الفقير والمهمّش والمعاق عقلياً والمنسوخ. لن تحدد القيَم والنظرات الدينية التقليدية المعايير الأخلاقية فيما بعد. فهي قد حُددت، وسوف تبقى هكذا، بنظرة “متأصّلة” صرفة، مجردة عن كل النظرات والقيم المتعالية. الخطاب الأخلاقي، على غرار التعليم العام اليوم، سوف تحدده نظرة للواقع متغربّة كلياً عن الإنجيل.

ما الذي يميّز الموقف الأرثوذكسي عن العالم الدهري من حولنا؟ بكلمة، إنّه سعيه النسكي الروحي الليتورجي إلى القداسة. الله قدوس، ما معناه أنه “مفروز”، كما يظهر من طبيعة كينونته الخاصة وصفاته أو فضائله كالبِرّ، العدالة، الصلاح، الجمال والمحبة. بفضل عمل الروح القدس الذي نكتسبه في المعمودية، ومن خلال الحياة الأسرارية في الكنيسة، نكتسب الصفات الإلهية. هذه الصفات هي أشكال للقوة: فهي تشعّ من الله بشكل “قوى إلهية”، ينقلها الروح بهدف قيادة كلٍ منّا على طريق القداسة التي تأتي إلى كمالها في ملكوت الله، بمشاركة حقيقية أبدية في حياة الله الخاصة (التي يسمّيها التقليد المقدّس تألهاً).

لماذا قد نهتمّ بهذه المناقشة؟ لأن القيم الأرثوذكسية والتقليد الأرثوذكسي مهدّدان بشكل عام، وبتشكيك أكثر حدة من أي وقت مضى، على يد عقلية المجتمع المعاصر والحضارة الغربية الدهرية بشكل عام. هذه الضغوطات تنشأ من العقلية التي تعلي قيم الاستهلاك واللذة وإرضاء الذات والاستقلالية، فيما تشوّه القيم المسيحية التقليدية كالتضحية والجهاد النسكي وعبادة الله.

غالباً ما أشار الأب ألكسندر شميمن إلى أن الدهرية (secularism) ليست مسألة عدم إيمان، لأن كثيرين من المسيحيين الممارسين هم في العمق دهريون. الدهرية توصَف بالدرجة الأولى بأنها نبذ للعبادة، رفض للاعتراف بأن الله خلقنا في الدرجة الأولى ليس ككائنات حية بل ككائنات متعبِّدة، كأشخاص هدفهم الأول في الحياة هو عبادة الله: تقديم المديح، التوقير، الشكر والتضرّع إلى الأقانيم الثلاثة في الثالوث القدوس. فقط من خلال العبادة، أي وضع حياتنا والعالم ليتورجياً في يدي الله، يمكننا أن نضع أساساً ثابتاً للعدالة الاجتماعية، والنظام الصحي المناسب، وغيرها من القضايا بما فيها الدفاع الوطني في عصر الإرهاب.

إذا وجّهت الانتباه إلى هذه المناقشة، فلأن كل واحد مدعو إلى العيش في العالم الحقيقي الذي حولنا، بغض النظر عن حجم الضغوطات ومدى تشوّه وجهات النظر. نحن مدعوون إلى الشهادة لحضور الله وغايته في البيت والمكتب والسوق والمستشفى. هناك، في أمور الحياة اليومية الصغيرة وأماكنها غير الجليّة، نعيش دعوتنا الأساسية إلى الصلاة من أجل العالم، وإلى الحياة أو الموت لخلاص العالم.

نحن مدعوون لأن نكون قديسين. هذا لا يعني أن نعزل أنفسنا عن الحضارة المحيطة، جاعلين أنفسنا “مفروزين” بالمعنى المادي أو النفسي. إنه يعني أن نسعى إلى القداسة في وسط عالم غير متقدس، على رجاء أن من خلال أمانتنا لله وشهادتنا لمَن هو وحده قدوس، نلامس حياة الآخرين حولنا ونساعد على استعادة العالم إلى الذي هو خالقه وسيده في آن واحد.

Leave a comment