الخصومات

الخصومات

الخورية سميرة عوض ملكي


إن الخصومة هي جدال علني، في أوسع إطار وأبعد مدى. وهي تفترض قيام نزاع وخصام بين الأفراد، إلا أنّها تفترض أيضاً حداً أدنى من التفاهم حول بعض المبادئ الأساسية. فما دامت الخصومة قائمة، لم يُفصَل فيها بعد، يبقى الأمل في الصلح.

أكثر ما يؤلِم هو أن ظاهرة الخصومة هذه باتت تتفشّى حتى بين جماعة المؤمنين. لو أمكن لأحد منّا أن يجري إحصاءً في رعايانا، لوجد أن كثيرين من المتهافتين على الكنيسة، وللأسف، هم في خصومة ما مع بعض الآخرين. وقد يكون هذا الآخر أخاً أو أمّاً أو قريباً.

إن الخصومة بين المؤمنين هي أذى متعدد الوجوه. الوجه الأول هو أنها عثرة كبيرة للأخ الأصغر، إذ كيف يمكن لهذا الأخ أن لا يعثر وهو يرى المتخاصم يسرع نحو الحمل الذبيح الذي افتدى القطيع وافتتح بدمه العهد الجديد وأتمّ المصالحة بين الله والناس. وهذه الذبيحة التي هي بجوهرها الروحاني، فعل محبة لامتناهٍ، وبها يحصل المؤمنون لا على طهارة الجسد فقط إنّما على طهارة الضمائر أيضاً. فأين طهارة الضمير في الخصومة؟ هل يفكّر هذا المخاصم بقول الرب: “إِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ” (متى 23:5-24)؟

الوجه الثاني هو أنّ الخصومة تتعارض مع سر التدبير الإلهي لأن الله دعا الإنسان، منذ الأزمنة الأولى، إلى أن يعيش في جماعة ولأن يتكاثر. وقد أراد أن يجعل آدم رئيساً لشعب متآلف يعيش مع الله، وأن يصبح أباً للبشرية جمعاء، إلا أن البغض فرّق فيما بينها فتشتت من الكبرياء. فكان لا بدّ من آدم جديد يؤسّس خليقة جديدة تُستعاد فيها حياة الصداقة مع الله وجمع البشرية ثانية في الوحدة، وتتمّ المصالحة بين أعضائها. أوَ تأتي أنت أيها المخاصم لتفسد مخطط الله؟

الوجه الثالث: “الله محبة”. وهذا الإله المحبّ يدعونا لأن نحب بعضنا بعضاً. بل أكثر من ذلك، هو يدعونا لأن تمتدّ محبتنا نحو الأعداء، “سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. 44وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ” (متى 43:5-44). وأهم ما يميّز المحبة هو الصفح بدون حدود، “حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ:«يَارَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ»” (متى 21:18-22)، وبالمبادرة الطيبة نحو الخصم، وبمقابلة الشر بالخير: “بَارِكُوا الَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُمْ. بَارِكُوا وَلاَ تَلْعَنُوا… لاَ تُجَازُوا أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ… لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ… لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ” (رومية 14:12-21).

من أول صفحات العهد الجديد إلى آخرها، تظهر محبة القريب غير قابلة للانفصال عن الحب الإلهي، “لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟” (1يوحنا 20:4). لا يوجد تعبير أكثر وضوحاً من هذا، ليؤكّد أنّ ليس في جوهر الأمر إلاّ محبة واحدة. “إِذَا عَسِرَ عَلَيْكَ أَمْرٌ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ أُمُورِ الْخُصُومَاتِ… اذْهَبْ إِلَى الْكَهَنَةِ وَإِلَى الْقَاضِي الَّذِي يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ، وَاسْأَلْ فَيُخْبِرُوكَ بِأَمْرِ الْقَضَاءِ. فَتَعْمَلُ حَسَبَ الأَمْرِ الَّذِي يُخْبِرُونَكَ بِهِ وَتَحْرِصُ أَنْ تَعْمَلَ حَسَبَ كُلِّ مَا يُعَلِّمُونَكَ” (تثنية 8:17-10). فهل يقوم الكهنة اليوم بهذا الدور فيبادرون إلى العمل على فضّ النزاعات بين الإخوة؟ لم يعد الشعب يذكر من وظائف الكاهن إلا الطقوسية منها، أليس ضرورياً أن يستعيد الرعاة دورهم في المصالحة؟

وأخيراً، يؤكّد الرسول بولس، في نشيده للمحبة أنّ لا قيمة لأي شيء من دون محبة الغير. وهذه المحبة يجب أن تكون مضحِيّة وواقعيّة وخاضعة لقانون إنكار الذات والموت. وبواسطة هذه المحبة، يبقى المؤمن في شركة دائمة مع الله.

Leave a comment