الخوريّة، واقع ولاهوت

الخوريّة، واقع ولاهوت

ماريّا قبارة

 

كلّ فتاة محبّة للرّب أرادت أن تكرّس نفسها له، راودها حلمٌ أن تكون راهبة. وكل فتاة مارست النشاط في الكنيسة في إطار مدارس الأحد الأرثوذكسيّة كأولويّة في حياتها احتارت في أن تكون خورية. وبخطوة جريئة أريد أن أطرح مفهوم “الخوريّة” من وجهتي نظر أراهما، واقعيّة ولاهوتيّة. أول وجهة نظر تتناول ما تراه الفتاة في الواقع، فهذه الفتاة التي ترتاد الكنيسة أقلّه في الآحاد والأعياد لتصلّي ملتزمة مع أبٍ روحي وتعترف بشكل منتظم، تمارس خدمتها الكنسيّة على صعيد التعليم الديني ترى في الخورية استمرارًا لما تعهدته في حياتها وتذوقت فيه المحبة والفرح والخدمة. ولأنّها ترى أن الشريك الأمين هو ذاك الذي يخاف اللّه- “فهي سمعت المثل الشعبي القائل: “الذي يخاف اللّه لا تَخَفْ منه”، هو ذاك الذي يشاطرها الهمّ الكنسي فيفهم وجعها ولا يحدّ أبدًا من خدمتها واندفاعها، بل قد يتوسّع ميدانها أكثر من خلال الدور القيادي والخاص بها، وهو ذاك الذي يمكنها أن تحيا وإيّاه حياة روحيّة مثاليّة في صلاة مشتركة ومطالعة كتاب معًا، إضافة إلى التردد على بعض الأديار لخلوات روحيّة وسهرانيات، هو ذاك الرجل الهادئ المُحب الذي له اسم في المجتمع، وعلى الأغلب هو رجلٌ مريح لن يخونها ولن ينظر إلى سواها-كما ذكر لي أحدهم ذات مرة- فمثل هذه الميزات لا يمكن أن تتوفّر حتى عند شاب مسيحي ملتزم في الكنيسة بسبب ظروف الحياة الضاغطة. وهكذا وبسبب من حميّة روحيّة وعدم وعي لهذا الأمر ترى هذه الفتاة نفسها منساقة إلى الفكرة ذاتها، بغض النظر عن الشريك الذي من دونه لا تحقق هذه الحياة. وأخال أن هذا الأمر ينطبق على الشاب، فكل طالب لاهوت أو ساعٍ إلى سرّ الكهنوت يُطرح أمامه موضوع الخورية يبدأ باحثًا عنها فهي التي ستحمل لقب زوجها وتشاركه به إنطلاقًا من وحدة الهدف والغاية ووحدة الأساس والمنطلق، وستساعده في أن يتبلور دوره ويتألّق في الكنيسة والرعاية، فحياته لاتشبه حياة الآخرين. فتراه مثلاً لا يفكر كثيراً في كيفية بناء العش الزوجي معها، وما هي ألوان شخصيتها التي تُغني هذا الزواج وتحقق فيه وجودها وفرحها. وكأنّه سيكفيها أو يجب أن يكفيها أن تكون بقربه وتسانده، وأيّ مجدٍ أعظم من هذا! وإلّم تكن مكتفية، معناها، أنه اختلط عليه الأمر وأخطأ الاختيار، وليست هي بالخورية المناسبة. ومن يدري، قد يفشل أو يقصّر كما كلّ إنسان في منحى ما في عمله. وسيرى أن أحد أسباب هذا التقصير الرئيس اختياره غير الموفّق. طبعًا هذا واقع مبرّر جدًا، بسبب الظروف الكيفيّة التي تتم فيها السلوكيات الكنسيّة عامةً. ورغم أن هذا الواقع ليس تمامًا على مستوى الدعوة، ومن خلاله لنا أن نقرأ أسبابًا كثيرة من المعوقات الظاهرة في حياة الكنيسة. ولكن بالصبر المزهر من جذور الإيمان والمَسقي من حياة الصلاة يُنشئ إلهُنا الطويل الأناة والجزيل الرحمة خدمةً مرضيّة لديه ، ويعبق في الكنيسة بخور مسرة الآب، “فقوتُه تكمّل كلّ ضعفٍ”.

أمّا من وجهة ثانية ألا وهي لاهوت الخورية، فأبدأ بالقول، “إنّ الزواج رحمُ الدعوة الكهنوتية”، فأن أكون خورية هو أولاً وقبل كل شيء أن أكون زوجة، فالزواج دعوة. في عيشه انجيليًا تتبلور المحبة وتثمر. في الزواج يبدأ إخلاء المشيئة على المستوى العملاني. وهكذا أيضًا بدأ تدبير مشروع اللّه الخلاصي عندما أخلى ذاته آخذاً صورة عبدٍ. في الزواج تتجلى التطويبات كشرطٍ أساسٍ لنجاح حياة الشركة التي أسسها الرّب نفسه في الفردوس بالجبلة الأولى، وإلاّ ينهار البيت “ويكون سقوطه عظيمًا”. في الزواج نتعلّم أهمية التواضع والوداعة ونتمثل بالمسيح معلمِنا الوحيد “تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب”(مت29:11). في زواج كهذا يتعهدُ الرجلُ امرأتَه كما لو كانت جسَده، فينمّيه ويغذّيه ويبذل نفسه من أجل خلاصها، “إن اجتمع اثنان فأنا أكون بينهم” كما يقول السيد له المجد (مت20:18. إلّم يكن الرجل هكذا فهو لا يصلح أن يكون كاهنًا على الإطلاق، وإن كان يتطلّع إلى هذه الخدمة المباركة والشريفة فعليه أن يدرك أن زوجته هي باكورة رعيته، إذ هي مقياس لنجاح كهنوته أو فشله إن جاز التعبير. والكاهن هو خادم فلا يحقّ أن يكون له فكره الخاص، بل يتعهد فقط فكرَ سيده، وفكر سيده في الكتاب المقدس كما قال السيد نفسه: “جئت لأخدِم ولا لأُخدم”، في طول أناته على الخطأة، في مدّ يده إلى بطرس وهو يغرق، في الحبّ حتى الموت كما أوصى المعلم والسيد له المجد. شرط القداسة الحبّ، والزواج سرّ مقدس لأنّه سرّ الحبّ، والحبّ لا يشترط الكمال، لكنّه يشترط المثابرة والخطى الحثيثة نحو الخلاص والأبدية. فحاجة الإنسان للحبّ هو كعشق النسور للجبال الشاهقة، وحده الحبّ هو الذي يجعله يحسُّ بكيانه وجوهره ووجوده. إذ ذاك يدرك أنَّ وجوده يكون بالآخر ومصيره بالانفتاح على الآخر. والله هو مؤسس الأسرة وهو الذي وضع ناموس الزواج في الطبيعة الإنسانيّة بقوله “اثمروا واملأوا الأرض” (تك27:1، 28). إذاً على الرجل، كرأس للمرأة وللبيت أن يقود زوجته إلى تبنّي هذه الدعوة ويتعهدها متكلاً على الرّب في تحقيق هدفه. لا أن يبحث عن سيدة جاهزة كما لو كانت الخورية وظيفة شاغرة تحتاج إلى مؤهلات. فرجلٌ مثل هذا لن يكون راعيًا على الإطلاق بل موظفًا، ولن يكون خادمًا بل رجلاً مهمًا لأنه يعمل في الحقل العام، وسيلف البرد والصقيع قلب زوجته لأنّه سيتمحور حول نفسه وحول عمله، وستبرد المحبة في قلبها، ويجف الولاء، وتتعملق الكبرياء، وستضيّع الرعيةُ أباها وراعيها، وسيُحبط هو ويصرخ دائماً: “لماذا؟” “لأنّ الحبّ يفترض أن أنقص أنا كي يزيد هو”، لا أن أهتم بالأنا بحجة الاهتمام به هو. فكثرة الإنشغال لا تعني بالضرورة الجديّة. والحبّ حتى الموت قد يحمل في طياته حبّ الذات بالأكثر، وقد يكون القلق مؤشر خطر عن الإيمان الضائع الذي يبحث عنه السيد على الأرض. “ومتى جاء ابن الإنسان هل يجد إيمانًا على الأرض؟” (لو8:18). إذاً كيف نميّز؟ هناك طروحات كثيرة ولكنّي أكتفي بهذا القدر، أمّا أنتم فليكن لكم فكر المسيح (فيليبي5:2)، وبالصلاة تنالون ما تريدون. فالسيّد نفسه تجسّد “لما حان ملء الزمان” (غلا4:4). نحتاج إلى صبرٍ وطول أناةٍ لنقتني أنفسنا، وإذا احترنا، فالجواب دائماً عند الروح القدس.

Leave a comment