عالمَ المحبة

عالمَ المحبة

“المحبة لا تسقط أبداً”(1كور8:13)

ماريَّـــــا قبارة

سمعتُ من البعض يقولون: “إنّ التسامحَ ضعفٌ, أو من يسامح ويغفر يكون جبانًا، فهو لا يستطيع أن يواجه الواقع، أمّا الأسهل له أن يقابلَ الشرَّ بالشرّ, أو أن يستخدم قاعدة العين بالعين والسن بالسن”

أمّا الإنسان المؤمن المسيحي النبيل هو الذي يتمهل ويتحكم بعواطفه وأهوائه ويصفح عند الإساءة مبتسماً ومواجهاً واقعه برحابة صدر، وهذه الابتسامة ليست إلاّ المظهر والدليل الذي يعطينا درجة حرارة الغضب في الكيان والأعماق، بينما تعبّر العيون المحمّرة عن الغضب والنقمة, تهزنا هذه الابتسامة وتسمو بصاحبها لأنّها الزهرة التي تتفتح فوق الأشواك، ويعطّر طيبها أجواء الإساءة والغضب والفساد. إنّ زهرة الغفران والتسامح تسمو دومًا فوق أشواك الغضب ورغبة الانتقام. فعندما يسامح أحدنا صديقًا على زلة أو إساءة فإن ما يدفعه إلى ذلك محبته العاتية لهذا الصديق ورغبته العميقة في تناسي الإساءة والحفاظ على الأخوّة والصداقة بكثير من الحميمية. يقول الكتاب المقدس: “قبل كلّ شيء لتكن محبتكم بعضكم لبعضٍ شديدة لان المحبة تستر كثرةً من الخطايا” (1بط8:4)

إنَّ محبة الله للإنسان قد خصّت محبة الإنسان لله بمزايا تجعله سعيداً في هذه الحياة. والمحبة من ثمار الروح, ونتاج عمل الله في حياة كلّ مؤمن, وخلاصة هذه الفضيلة سكنى المسيح في قلب المؤمن. فلا يتحقق بهاء الوجود وجماله ومعناه إلاّ بالمحبة

والمحبة عاطفة تتجه نحو الآخر، حبّ الآخر المنزه عن الغرض، الحبّ المنزه عن الغرض لا يعني أنّ الآخر لا يملك صفات أنت تحبّها؛ بل ولا تدري أحياناً لماذا تحبّ؟؟. والمحبّة تجربة ذاتية، لحظة معيشية، لا تستطيع أن تتوقع ما تكون ما هي عليه غداً. والمحبة قد تزول، لكنّها تستمر بالمسيح، قد تضعف ولكنّها تقوى بالمسامحة والصفح

المحبة متعة المسيحية الحقيقية. والمحبة المطلقة حين تصل أن تفضّل الآخر على ذاتك، أي أن يصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتك. وكما أنّ المحبة صادقة واضحة بالضرورة، كذلك الكره صادق بالضرورة، وكما أنّ المحبّة لحظة لا نتوقع مدى استمرارها للآخر كذلك الكره. لكنّ الفرق أنّ المحبة تمنحك الفرح، أمّا الكره فيمنحك التعاسة، ولهذا لا أحد في العالم باجمعه يسعى للتخلص من الحبّ والمحبة، لكن يسعى للتخلص من الكره وسيئاته

ولا يصحّ أن ندّعي محبة الآخرين، وبنفس الوقت ننظر إليهم نظرة استعلاء وازدراء، أو ألاّ تكون عندنا روح المسامحة الحقيقية. والمحبة العملية تعني التضحية في سبيل الآخرين ونكران الذات. وإلاّ أصبحت كلمة جوفاء لا معنى لها. فأين دموعنا في عرش النعمة عند سقطات إخوتنا؟ وأين الابتهاج الذي يملأ القلب لنجاحهم؟. قال يسوع: “تحبُّ الربّ إلهك من كلّ قلبك، ومن كلّ نفسك، ومن كلّ فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها. تحبُّ قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلّق الناموس كلّه والأنبياء” (متى37:22-40)

مات المسيح مدفوعاً بمحبته ولم يحبّ فقط الذين يحبونه, بل أحبّ حتى أعداءه ومات عنهم, لذلك فهو يطلب منا أن نحبّ أعداءنا “أحبّوا أعداءكم”. إنّ محبة العدو تختلف عن محبة القريب. فهي ليست ناتجة من القلب فقط بل من الإرادة أيضاً, إنهّا انتصار على مشاعر العداء الطبيعي فينا, إنها إرادة الخير لمن لا يحبوننا وخدمة أولئك الذين يسيئون إلينا ويضايقوننا “إذا أحببتم الذين يحبونكم فأيّ فضل لكم?”

لا تنجم عن المحبة أية متاعب، بل يعيش الإنسان في ظلها بسلام وسعادة. وفضيلة المحبة سبب خلاصنا، فأيُّ عذر لنا أمام الديان العادل باحتقارنا لها، وأيّ حجة تكون لنا بتعرينا من ثوبها. فهي أساس ناموس الله وأصل كلّ نعمة، هي سبب الغبطة الأبدية، وبها يتم اتحاد الإنسان مع الله “لاخوف في المحبة بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج لأن الخوف عذاب واما من خاف فلم يتكَّمل في المحبَّة” (1يو 18:4). المحبة عالم خالٍ من الخوف، فأين أنتَ أيها العالم الجميل لنستدفئ بحرارته؟ فيارب، يارب ازرعه في قلوبنا أجمعين. آمين

Leave a comment