في التكريس

في التكريس

الأم مريم

رئيسة دير القديس يوحنا المعمدان – دوما

إلى الأحبّة الشباب في كنائس الإسكندريّة وأنطاكية وأورشليم وقبرص واليونان وبلاد الغرب الأرثوذكسي.

أكتب إليكم رسالتي الثانية وقد جمعنا الإيمان بالرب الواحد يسوع المسيح له المجد، ونجتمع بالصلاة إليه وروحه القدوس حتّى إننا، وإنّ كنا لم نلتقِ وجهاً لوجه، فإنّ غيرة الكنيسة ومحبّة الروح تجمعاننا في القلب والفكر والذهن والهمّ المشترك والمهابة الواحدة.

يا أحبّة، أكتب لكم اليوم عن التكريس. هذا مبدأ رسالتي وهمّ روحي، وإنّ أرسى بعض دعائم بيته على صخرة المسيح، فإنّ الغالبيّة ما زالت تمجّ لفظ أحرف اسم الله ولا يهاب الكثيرون أن يقولوا: لا ربَّ لنا وليس ربٌّ هو من خلق السماء والأرض وكوّن مدار الشمس والقمر والنجوم. ولا ربّ قام من بعد موته ليقيم آدم الساقط وكلّ ذريته. وبعضٌ يا أحبّتي ممن تسمّوا باسم المسيح ينكرون والدته والدة الإله مريم ولا يعظّمونها أُمّاً للخالق. أمّا القديسون فلا يعتبرونهم ملائكة الله الأرضيين وشعاع مجد ملكه في كونه الذي إنْ رفع هو كفّه زلزل الجبال وأوقع الأنهار في البحار.

وهؤلاء يا أحبّة الذين يقولون كلام التجديف هذا همّ في حيّز من كنائسنا ومن مدننا وقرانا وعائلاتنا وبلادنا.

التكريس، يا أحبّة، هو الموت الطوعيّ ولبس جسد المسيح ليصير جسدنا على شبه جسده في حياته وفي موته وفي قيامته.

كثيرون منّا لبسوا المسيح في طفوليّتهم يوم تعمّدوا وتغطّسوا على اسم الآب والابن والروح القدس. لكن كثيرون رشّوا بالماء فقط أو انسكبت طاسة الماء على شعور رؤوسهم التي تقصّ وتلوّن فينفون المهابة ولا يبالون بالأصل بل تصير هيئاتهم ممسوخة لتضيع النعمة فلا تخترق رأس المعمّد إلى نخاعه وجوفه. كذلك فإنّ بعض معموديّاتنا صارت أشكال معموديّات فلا تقرأ استقسامات طرد الشياطين -وأنتم تعرفون أنّ جيلكم- كما الجيل الأوّل بعد تجسّد المسيح -محكوم بعبادة الشياطين والإنضواء تحت ستار الجديد والمستحدث لكي يُلبسوا أولادنا زيّ الجماجم الأرضيّة وليس الجماجم الجحيميّة فقط.

أمّا في بيوتكم يا أحبّة وفي دياركم فتتراقص أضواء الليل المبهرة عيونكم والموسيقى المخرّبة حسّ آذانكم المرهفة حتّى تصمّ أرواحكم فلا تعودون تلهفون لزقزقة العصافير أو هديل اليمام أو صفير هواء الشتاء في البراري. أما الحضارة فأسكنتكم في علب معلّبةٍ من الباطون الحديديّ وحرمتكم ترطيب هواء الفجر والليل لأبدانكم الغضّة. أحكموا أعراقكم بالمكيّفات فصرتم لا تطيقون حرّ الصيف المخرج الأملاح المضرّة من أبدانكم، وزادوا فأهرقوا غض العمر بالسكر وعربدة حيتان الملاهي الليليّة وحريّة أجساد الرقص الموديّة بكم إلى رقصة موت الروح.

يا أولادي الأحبّاء، اُشفقُ عليكم من سكر الحضارة وتفلّت غوى الشهوة. آباؤكم وأمهاتكم في هذا العصر، ومعظم أمّهات وآباء الحضارة اليوم، يستحون من بتوليتكم في المسيح. لا توافقوهم غيّهم. لا تسلكوا في الدعارة ولا تصغوا لوشوشات نبض دماء أجسادكم، بلّ حوّلوا كلّ عنفٍ وحركةٍ جسديّةٍ وفكريّةٍ وروحيّةٍ إلى صرخة اسم الربّ يسوع. حوّلوا نبض أجسادكم إلى خدمة المعاقين والفقراء والمرضى والمتعبين والمضنوكين من الحرب والاستهلاك، حتّى العلميّ، ومن حضارة الكمبيوتر، يا أولادي، إن صرتم – وأصلّي إن تكونوا لم تصيروا بعد – أولاد الحاسوب العصريّ أي الكمبيوتر الذي صار إنجيل اليوم في المنازل كلّها. أنتم لا تقرأون الإنجيل بل كلمة الكمبيوتر. لا تعرفون الآلام الروحيّة بل المفاسد التي تتخرّج من تفلّت فذلكات العصر الحديث وفكره ومنطقه. عصرنا اليوم هو من صنعة الشياطين وأنتم ما زلتم تجتمعون باسم وتحت شعار وجه الربّ يسوع، فطوباكم.

التكريس هو عنوان حياتكم، أن تقولوا إننا للمسيح في القلب والجسد والفكر والروح والحسّ والكيان. نعم، أنتم تحيون في عصر الشهوة غير المقدّسة ولكن روح الربّ القدّوس هو الحافظ حياتكم فلا تخافوا. تكريسكم هو أن تعلنوا الحرب على كلّ مَن وما يبعدكم عن ربّكم إن كان بالقول أو بالفكر أو بالفعل. لا تهتمّوا بما يقوله أو يفعله كل من حولكم. أنتم نسل الجياد الصاهلة كلمة الإنجيل.

البسوا روح الإنجيل، البسوا اقتدار الإنجيل. فالروح القدس فاعلٌ فيكم، في سرّ القربان المقدَّس وفي سرّ الخدمة، في سرّ ليلكم الهاذّ باسم الرب القدّوس وفي نهاركم المختبئ تحت ستر والدة الإله.

طهّروا أجسادكم وأرواحكم وأفكاركم، وتناولوا الإنجيل جسداً ودماً، واعترفوا بكلّ فكر شرود وعين حسّ أيضاً.

حربكم يا أحبّة ليست حرباً على قوّاتٍ منظورة بل على خفايا القوّات غير المنظورة. أنتم تَنشطون في اشتهاء الحبّ الإلهي والعالم ينشط في شهوة الأجساد والعقول واختراعات العصر المرضيّة.

أنتم تقاتلون لأجل تناول الجسد والدم الإلهيّين المقدسين، وهم يتقاتلون على الأعراف والنظم والقوانين الطائفيّة المرعيّة، أنتم تركضون إلى نبع الحياة، وهم يبعدون عنكم كأس الحنان الإلهي. لا تخافوا كلّ مرّةٍ يقولون لكم فيها لا تتقدّموا إلى الكأس المقدّسة. طأطئوا الرأس وتناولوا بالنعمة جسد الرب ودمه المحيِيَيْن … إلى متى؟ إلى متى يا ربّ تنساني؟!… (مزمور 12) لا يا أحبّتي لا تخافوا، فقط تكرّسوا بالنعمة خدّاماً للمسيح في كنيسته، في الرعايا، في الخدمة، في الدير وفي الهيكل.

رهيبٌ وعظيمٌ هو الموت يا أولادي، فهو في ساعة ما سيأخذ إليه كل هؤلاء الذين يسدّون أبواب الخلاص عن قلوب التائقين إلى نعمة الربّ القدوسة. لا تصرخوا: وماذا منّا نحن اليوم؟!… بصبركم تقتنون نفوسكم (لوقا 19:21) وبلهيب حبّكم للربّ القدّوس وحده.

أنتم عليّقة ملتهبة بالنور الإلهي، فلا يخبت نورها ولا تنطفئ. أنتم إلى وجه الله سائرون. القطارات تمرّ مسرعةً والناس يتهافتون للركوب فيها، هم لا ينتظرون، لا يصبرون، فقط يخافون. يخافون أن تمرّ القطارات ولا يكونون إليها، أمّا أنتم فتعرفون أنّ قطارات هذا العمر السريعة هي قطارات الموت التي لا حياة بعدها ولا قيامة…

إصبروا وافرحوا فأنتم جند ملائكة السماء الأرضيون، تطايروا بالعشق الإلهي، فذبيحة الصليب مرسومةٌ على قلب كلٍّ منكم وعقله وجسده وكيانه. أنتم أمناء وحرّاس مائدة الملك ولخدره الحبيب وأنتم بأمانتكم ستقلبون حزن الأرامل إلى فرح. فكلّ منكم هو روح من روح العريس السماويّ لكلّ من يلتقي من ناس هذه الأرض. “قد اشتريتم بثمنٍ فمجّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله” (1 كو 20:6).

يا أحبّتي صلّوا، صلّوا بلا انقطاع، لكي نصبح كلّنا واحداً في المسيح. لنسر كلّنا على درب الحبّ الإلهي والجهاد لأجل الإنجيل، لننسك إلى ديار الرب. لندخل هيكل قدسه، فنمجّد بالحبّ والعمل واللاّهوت الكياني اسمه القدّوس. تكرّسوا وافرحوا بالربّ اليوم وغداً والى دهر الداهرين آمين ثمّ آمين ثمّ آمين.

* عن Syndesmos News، السنة الثانية، العدد الثاني، ميلاد 1998

Leave a comment