الشيخ خريستوذولس الكاتوناكي

الشيخ خريستوذولس الكاتوناكي

إعداد راهبات مار يعقوب – ددة

إنه أحد ابرز الوجوه التي لمعت في النسك والجهاد المقدسين. نسك ما يقارب ٦۰ عاما في مناسك كاتوناكي. كان مرتع راحة نفسية وروحية لآباء واخوة كثيرين ومعلماً للفضيلة وخاصةً في ممارسة الصلاة الذهنية.

ولد خريستوذولس عام۱۸٩٤ في منطقة لاميا قرب أثينا وأصبح يتيم الأب وهو في سن العاشرة. انتقل بعد ذلك نهائياً إلى منطقة خالكيذا حيث تعلّم مهنة الإسكافي. غرست أمه في نفسه منذ حداثته بذار التقوى وحقائق أسرار العقيدة المقدسة، ومن ثم منحته بركتها كأم صالحة لاعتناق الحياة النسكية.

قادتها محبتها لله الى محاكة حياة ابنها فحوّلت بيتها إلى دير وأصبحت هي نفسها راهبة متوشحة بالاسكيم الرهباني الكبير تحت اسم مجدليني. وبعد خمسة عشر عاما من الجهاد المستمر بلغت إلى درجة الكمال الرهباني ثم ما لبثت أن غادرت هذا العالم حاملة معها مجد جهادها المقدس.

دخل الشاب خريستو، كما كان يدعى، حلبة الجهاد والصراع الرهباني وهو في سن الثلاثين. كان يتحلّى بالوقار ورجاحة العقل ممتلئا أشواقا وأماني مقدسة، يحفزه حماسه وتقواه لتسديد الضربات المتوالية والقوية إلى مرمى العدو غير المنظور وإلى مرمى نفسه بالذات ليحدّ من تسلط الأهواء.

لقد تلقى الدعوة إلى الحياة الرهبانية من ملكة الجبل نفسها وبطريقة سرية غير معلومة. صحيح أن الوعود الكثيرة والجميلة التي وعدته بها الدائمة البتولية كانت مشجعة، لكن المسؤولية كانت أيضا جسيمة. فالواجبات لا تحصى، وأهمها أنه على كل راهب أن يشق لنفسه سكة سماوية يسير فيها بتؤدة وجهاد نحو العلاء، لينصب لنفسه هناك مظلة مقدسة إلهية. وهذا ليس بالأمر السهل اذ يتطلب جهاد الحياة بأكملها.

ها هو ذا جندي المسيح، لا بل أسير عشق المحبة الالهية، يطفر بين الأديار والمناسك متنقلاً ليختار في نهاية المطاف، وكحمامة محبة للقفر، الانعزال في برية موحشة لا عزاء فيها. إن المكان الذي اختاره يسبّب، لأول وهلة، لدى الزائر العادي كآبة واضطراباً، إذ إن طبيعته لا توحي بوجود أية راحة أو تعزية داخلية. فالصخور غرانيتية سوداء وعرة ومخيفة، والوديان ضيقة تولّد تجهماً وضيقاً للنفس، الأشجار تقريباً غير موجودة فالمنطة صخرية. لكن هذه الطبيعة، مع وجود قلالي النساك المتناثرة والمباركة، تؤلّف بتسبيحاتهم وتأملاتهم، تغريداً صامتاً وسرياً للأبدية. تتقهر وحشة المكان منهزمة بقوة محبة الله العارمة في النفوس ويغدو القفر بهجاً للسكنى وللجهاد الرهباني والفوز على الذات.

إذاً، إلى هنا، إلى هذا المكان دعت نعمة الله عبدها خريستو ليعيش ويجاهد، لا لنفسه فقط، بل ومن أجل الآخرين أيضا. في السنوات الأولى لجهاده، وجد المبتدىء الشاب ضالته المنشودة في شخص الأب كالينيكوس رجل الله واليقظة الروحية الذي سيرشده كربّان ومدبر حكيم الى ميناء الملكوت بكل معرفة ودراية. فأخضع المبتدىء له إرادته وذاته بجملتها طوعاً وبكل صبر وثبات. فكانت طاعته الكاملة وتدربه على ممارسة الصلاة الذهنية، الطريق المثلى لحياة النسك. لم يكن يملك أية تعزية بشرية: فالماء شبه منعدم تقريباً، غذاؤه اليومي بضع قطع من الخبز الجاف، تعب جسدي مفرط واستشهاد يومي غير دموي لقطع الارادة الذاتية، وعزلة المكان ووحشته. كل هذا لم يثنِه عن عزمه في متابعة السير قدماً في الطريق الضيقة. إنه مصمم على الموت من أجل المسيح وحباً به.

إن طاعته الكاملة لرئيسه جعلته يتمتع بين الفينة والاخرى بغبطة وفرح سماويين، وزوّدت عقله بحكمة إلهية أضحت مدعاة لسموه فوق كل أرضي ومادي. وأما ما سمعه من كلمات مباركة وجّهت اليه يوم سيامته والقائلة: إن الحياة الرهبانية هي تعهد يومي لحمل الصليب ومجابهة الموت حثّته ليصير منذ بدء رهبانيته ذا خبرة ودراية روحية. لقد احتمل كل أشجان وضيقات ومصاعب الحياة النسكية من أجل ملكوت السموات وبقي أمينا لوعوده وعهوده حتى آخر حياته فهو القائل “إن كثيرين أرادوا اعتناق هذه الحياة، ولكن للأسف، سرعان ما رجعوا القهقرى الى الوراء إذ أغرقتهم أفكار اليأس وزعزعتهم قساوة حياة الاسقيط وشظفها”.

كان رئيسه قاسياً جداً وبطريقة غير مألوفة كان يدربه على قطع إرادته وخلع الإنسان العتيق من نفسه، ليحيا، وهو على الأرض كما يتدبّر الملائكة في المدينة السماوية. لقد كان يرسله، مثلاً، إلى مدينة كاريس عاصمة الجبل، ولو كان من أجل رسالة واحدة، سيراً على الأقدام في مسافة يستغرق قطعها مدة ۱۰ ساعات، ليعود في اليوم التالي، على قدميه أيضاً، حاملا على ظهره كيساً مملؤاً بالمشتريات يتراوح وزنه بين ٢٥ و۳۰ كيلوغرام. كما لم يكن يسمح له كثيراً بقراءة الكتب حتى ولو كانت روحية مردداً: “ماذا يجديك نفعاً قراءتها دون العمل بها؟”.

بقي مدة سبع سنوات مع معلمه. وفي هذه الفترة تركزت معرفة الأب خريستوذولوس الروحية على قواعد عملية فغدا راهباً مجرباً، مختبراً ذا حنكة في الجهاد والفوز على الشياطين.

لقد استحق بعد موت معلمه أن يحصل على تلاميذ مختارين. ففي عام١٩۳۰ وبعد أشهر قليلة من رقاد رئيسه أرسلت اليه العذراء أول تلميذ دعاه كالينيكوس تيمّناً باسم معلمه ووفاءً له، فأضحى هذا الراهب سند الأب خريستوذولس وتعزيته، فقد خدمه مدّة ٥٢ عاما دون تضجر أو تذمر وبعد شهرين. من مجيء كالينيكوس تبعه والده بالجسد ايوسيف الذي نسك معهما مدّة ٢٢ سنة ثم رقد بالرب عام ١٩٥۳. ثم انضم راهب آخر الى هذه الشركة المقدسة وهو الأخ جراسيموس الذي تميّز بصبر ونكران عجيبين.

كانت الأيام الأخيرة للشيخ مؤلمة ومحزنة جدا. فقد كان يعاني من مرض الاستسقاء ومن التهاب الكبد بالاضافة الى امتلاء الرئتين والأحشاء بالماء والقيح، الأمر الذي أحدث له شقوقاً كبيرة وعميقة في مختلف أنحاء جسده كان يجري منها القيح كما من صنبور ماء، مما يسبب له آلاماً مبرحة وانزعاجاً كبيراً. لقد ذاق وعانى خبرة المرض والألم، فكان يقول: “الأمراض نافعة إذ إنها تطهرنا من الأدران العالقة بنفوسنا”. ثم أضاف: “أرجو أن يأخذني الملاك القديس بسرعة فقد غدوت ثقلاً عليكم بتحملكم لأوجاعي وأوهاني. الويل أنا الانسان الشقي لم أهتم بخلاص نفسي كما ينبغي وها أنا عارٍ من كل فضيلة وشبيه بالبهائم فصلو من أجلي كي أتخلّص من أرواح الهواء الشريرة التي سوف تفتري علي بأكاذيب جمّة. قوي أنت يا رب وقادر أن تخلصني أنا الضعيف غير المستحق لرحمتك الإلهية ولا لهؤلاء الملائكة الأرضيين الذين أرسلتهم لخدمتي”.

لقد خبر هذا الأب نعمة التوبة بقوة وهذا ما كان يظهر من شوقه ورغبته ليقوم باعتراف عام وشامل لحياته عند بدء كل صوم كبير. كان ذكر الموت وخوف الجحيم يلازمانه، وبهما خبر نخس القلب وتوجعه كما عرف موهبة الدموع فكانت مآقيه تذرف الدمع سخياً الليل والنهار. كما تميّز بموهبة التعليم والارشاد الروحي فكان يرشد كل أخ أو زائر بكلماته الحكيمة والأبوية. لقد منحه الله الكثير من النعم والمواهب الالهية وبفضائله هذه أنار نفوسنا وشدد وهنها.

ومن تعاليمه لاخوته الرهبان قوله:” املكوا المحبة في قلوبكم دائماً ومن يسرع بضرب مطانية لأخيه فذاك هو الرابح والمنتصر على الشيطان الذي اعتاد أن يزرع الخلاف بين الاخوة. تجنبوا العثرات ما استطعتم لأنه أمر سيء جداً ومشجوب أن يكون أحدنا سبب عثرة وشك للآخرين الصلاة فضيلة مقدسة وبواسطتها يسكن المسيح في قلبنا دون أن ندرك كيف. لا تضطربوا إذا ما تشتت الذهن أحيانا فأن الله رغم ذلك يسمعها والشيطان يهرب منها بعيدا لا تهملوا قانونكم أبداً فالقانون اليومي حارس أمين للنفس من كل تجربة عارضة أثناء النهار. الصليب الكريم يقيم الموتى ويشفي السقماء فتسلّحوا أنتم إذاً بإشارته قبل بدء كل عمل وأينما حللتم اهتموا أولا بروحياتكم وتقديس نفوسكم والعذراء مريم ستهتم بالزمنيات والماديات. عندما تزاولون عملا ما أثناء اقامة الخدم الالهية فان هذا العمل يكون بمثابة الصلاة ويعتبر تعبكم بدل المطانيات عندما لا تستطيعون اتمامها. غاية الراهب الابتعاد عن العالم والعالميات التي من شأنها أن تشوش ذهنه لأن الراهب انما يعني ذهناً نقياً مشاهدا لله.

وربما تتساءلون كيف نستطيع أن نحقق هذا؟ انما هذا بممارسة البساطة المقرونة بالصلاة هذان السلاحان هما هدية بها تطعنون الشيطان في الصميم. لا تتهاونوا في إتمام وصايا الرب. كلّ ما تسعون لتحقيقه هنا على الأرض إنما هو من أجل الحصول على الحياة الأبدية. يجب على الراهب أن يقرن الحياة العملية بالحياة التأملية فيمد الرجل الواحدة لعمل الطاعة، بينما الأخرى قابعة داخل القلاية تتأمل في الحكم الرهيب الذي للسيد المسيح يوم الدينونة. كلنا نملك الأهواء لأننا أتينا الدير من عالم يسوده الشر. لذا علينا ن ننزع هذه الأهواء من جذورها بحسب تعليم الأب دوروثاوس لأنه بقدر ما يتقدم الانسان في العمر ويشيخ بقدر ما تتجذر السيئات أيضا وتترسخ في النفس ويصعب اقتلاعها انتبهوا لأفكاركم كل فكر تهاون تستجيب له يستحق ضرب خمسين مطانية تكفيراً حققوا الهدف الذي من أجله خرجتم من العالم وجئتم الدير أي خلاص النفس وقداستها. اننا لم نأتي من تلقاء أنفسنا إلى الحياة الرهبانية وبشكل خاص الى الأرثوذكسية. فاحتفظوا إذاَ بالرجاء واليقين الثابتين في الله وثقوا أنه مخما أنجز الانسان وحقق من صغيرات أو كبيرات انما الله هو فاعلها( لأنه بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئا) كما هو مكتوب. المنالة الالهية تهدىء النفس وتنيرها والمضطرب داخلياً يجب أن يمتنع عنها. يجب أن تكون المناولة ببركة الرئيس وبرغبة فائقة وشوق كبير من المتقدم. هنا في الهدوء أي في الحياة الرهبانية أو النسكية يغير الجهاد حياة الانسان رويدا رويدا. ويكتسب الفضائل بنعمته تعالى متحولاً إلى إنسان إلهي. كم من الصالحات والخيرات يعدها الرب لمختاريه الأمناء من الرهبان والراهبات”.

وأما عن السيدة العذراء فكان يقول:” ليكن لكم تقوى ومودة خاصين بالعذراء مريم. إنها تحكم وتحمي هذا الجبل المقدس وسوف تحفظه الى انقضاء الدهر. إن المحال يحشر ذيله في كل مكان في المنازل، في الاديرة، في المناسك… ولكن عندما نتلو “أيتها الفائق قدسها والدة الاله خلصينا”، يفر المثلث اللعنة حالاً. مغبوطون هم الذين يقيمون ويموتون هنا أي في الجبل المقدس لأن سيدتنا العذراء وعدت بأن تشفع لدى ابنها من أجل خلاصنا وكل ما نقوم به من سهر وصوم وتعب إنما نفعله حمداً وشكراً للعذراء التي بدونها لن يخلص العالم فهي قالت ها أنذا أمة للرب وأصبحت بهذا القول علة تجسد المسيح وليس بالأمر اليسير أيضا أن نشتم نحن الرب ونهينه.

وعن فضيلة الضيافة قال: يجب أن نعتني بالغرباء كي يرحلوا عنا شاكرين فنحظى بصلواتهم لنا. إن فضيلة الاحسان عظيمة والرب يبارك خاصة اولئك الذين يتعاطونها”

كان الاب خريستوذولس واحداً من أكابر نساك عصرنا: فقد ضبط تقليد الإسقيط القديم وسلمه بصفاء دون شوائب أو زيادات الى خلفائه. كان يتحلى بروح الشركة والتسامح ويرشد بحكمة مقدماً حياة القديسين مثالاً يحتذى ويستفيد منه الكثيرون، فكان مثالهم أبلغ وأجدى نفعا من الكلام القاسي أو التوبيخ. كان يمك سلاماً داخلياً نابعاً من طاعته الكاملة المقدسة إذ لم يكن يرفض أبداً أي عمل يشار به عليه إن من معلمه أو من سواه. وكان يقول عن رئيسه: ” لقد لقنني ممارسة الفضيلة بصمت. وبحزمه وقساوته على نفسه وشظف عيشه علمني أن ألقي رجاء خلاصي وتدبير حياتي على الله وليس على أعمالي”.

قبل السيد جهاده النسكي كذبيحة مرضية وأنهى حياته في فترة القيامةففي يوم الخميس من أسبوع حاملات الطيب رحلت نفسه المقدسة إلى السماء تاركة خلفها رائحة عطر فضائلها ونسكها. لقد كان له من العمر ثمانون سنة، أمضى منها خمسين سنة في النسك والجهاد المقدسين.

إننا نشكر الله الكلي الصلاح، والسيدة العذراء اللذين أظهرا لنا كأنوار ثاقبة تنير ظلمات حياتنا رجالا قديسين منحهم الفهم الروحي والاستنارة الداخلية، فكانوا العضد والسند لنفوسنا المسترخية من أجل استمرارية الجهاد والوصول الى الملكوت العلوي الهدف، المنشود لكل راهب.      

Leave a comment