عظات حول أنبياء العهد القديم وأبراره – 1

عظات حول أنبياء العهد القديم وأبراره – 1

القديس نيقولا فيليميروفيتش


نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

برّ نوح

“كان نوح رجلاً باراً كاملاًً في أجياله، وسار نوح مع الله” (تكوين 9:6).

أن يكون الإنسان باراً بين الأبرار لهو عمل عظيم ومستحق الثناء، لا بل ما من عمل يساوي كون الإنسان باراً بين الأبرار في العظمة واستحقاق المديح.
عاش نوح بين أناس ممتلئين بالإثم والشرّ؛ عاش بينهم لمدة خمسمئة سنة وبقي باراً أمام الله: “أمَّا نُوحٌ فنالَ رِضَى الرّبِّ‌” (تكوين 8:6).
القاضي الأعلى، الذي ينظر إلى كل أعمال الجنس البشري ويقيّمها من دون انحياز ومن دون خطأ، قدّر أعمال نوح لأنّه في وسط جيل فاسد وشرير بقي في برّ الله، وكافأه الله بنعمته. بالتأكيد، تحمّل نوح الكثير من البؤس والمرارة من جيرانه الأشرار. وعلى الأكيد أيضاً، لم يكن بمستطاعه أن يتّخذ صديقاً من بينهم. فالاكتفاء الأعظم عند الخاطئ هو في جرّ الإنسان البارّ إلى مستنقعه ليشاركه خطيئته. لكن نوح لم يسمح لنفسه بالانجرار ولا بالانخداع. فضّل نوح صداقة الله على صداقة الأشرار. كان أحبّ على قلبه أن يسير مع الله من دون الناس، من أن يسير مع البشر من دون الله. مخافة الله، الخالق والقاضي، حفظتْه من الفساد المستشري في العالم، حتّى أنّه لم يكن بارّاً وحسب بل وكاملاً في جيله. هذا يعني أنّه لم يسمح لنفسه، ولا بالقدر القليل، بأن يتلوّث بالشر العام، بل بالأحرى تعلّق بالبرّ الإلهي. إغراء الخطيئة وهزء الخطأة: كلّ شيء ساهم بإبعاده عنهم.
عندما أصاب الطوفان الكوني الجنسَ البشري، لم يتخلَّ الله عن نوح المخلِص ولم يتركه يفنى مع الآخرين. بالمقابل، خلّصه ومجّده جاعلاً إياه سَلَف ذرية جديدة من البشر.
أيها الإخوة، مثال نوح اللامع هذا يعلّمنا أنّ كلّ واحد منّا قادر على إرضاء الله حتّى في وسط الخطأة، فقط إذا أردنا ذلك. أيّها الربّ الصالح والمتألّم، أيّدنا على طريق برّك. لك المجد والإكرام إلى الأبد. آمين.

إيمان البطريرك إبراهيم

“أنا تُرابٌ ورمادٌ” (تكوين 27:18)

هذه هي كلمات البار إبراهيم التي نطق بها عن نفسه. أيها الإخوة، مضحكون هم أولئك الذين، بسبب ارتباطهم بأمراء العالم ونبلائه، يتباهون بأنفسهم ويثمّنون ذواتهم عالياً. لقد استحقّ إبراهيم أن يتكلّم مع الملك الأبدي الكليّ القدرة. ومع هذا، لقد بقي ثابتاً في تواضعه، مسمياً نفسه رماداً وتراباً.
مَن كان هذا الابراهيم الذي وُجِد مستحقّاً لكلّ هذا الاستحسان لدى الله في حياته، وللمديح من الرسول بعد موته (غلاطية 3، عبرانيين 11)، وحتّى من السيّد المسيح نفسه (لوقا 22:16، يوحنا 39:8)؟ لقد كان فلاحاً امتلك كل هذه الفضائل، سالكاً دوماً بحسب ناموس الله، رجلاً ذا إيمان ثابت في الله، محبً للعدالة، مضيافاً، رحيماً، شجاعاً، مطيعاً، طاهراً ومتواضعاً. ومع كل هذا، يُمَجَّد إبراهيم لإيمانه، الإيمان القوي.
كان إبراهيم في سنته المائة من العمر عندما أخبره الله أنّ امرأته، العاقر إلى ذلك الحين، سوف تحمل صبياً. وحتّى قبل أن تلد سارة إسحق، قال الله لإبراهيم: “وأجعَلُ نسلَكَ كتُرابِ الأرضِ” (تكوين 16:13). آمن إبراهيم ولم يشكّ. وعندما وُلِد له ولد وحيد، أمره الرب، على سبيل الاختبار، بأن يقدم ولده الوحيد كضحية. كان إبراهيم مستعداً لتلبية الطلب، لولا أنّ أوقفه في اللحظة الأخيرة.
يا للكمال الذي بلغه إيمان ذلك الرجل والطاعة التي عنده لله! لهذا باركه الله وجعله ممجّداً في الأرض وفي السماء. أيها الإخوة، مباركون هم أولئك الذين من غير تردد يؤمنون بالله ويتممون وصاياه الإلهية. بركة الرب سوف ترافقهم في العالمَين. أيها الخالق المبارَك، باركنا نحن الخطأة أيضاً واحسبْنا بين مختاريك، الذين يشتركون مع إبراهيم في ملكوتك. لك المجد والإكرام إلى الأبد. آمين.

بِرّ لوط ابن أخ إبراهيم

“فخَرجَ إليهِم لُوطٌ وقالَ لا تفعَلوا سُوءًا يا إخوتي” (تكوين 7:19).

لوط، رجل بار بين الأشرار، عاش في سدوم مع زوجته وابنتيه. سأل إبراهيم الوفي الله: “أتُهلِكُ الصِّدِّيقَ معَ الشِّرِّيرِ” (تكوين 23:18). أجاب الله إبراهيم المخلِص بأنّه لا يكتفي بألا يهلك البارّ بل حتّى إذا وجد عشرة أبرار في المدينة سوف يستبقي عليها بسببهم. مع هذا، لم يوجد في سدوم سوى بارّ واحد، هو لوط، وقد كان غريباً.
تماماً كما قبل الطوفان، لم يوجَد سوى بار واحد في العالم، وهو نوح، كذلك قبل إبادة سدوم لم يوجد في تلك المدينة سوى بار واحد. كان لوط مشابهاً لعمّه إبراهيم في كلّ الفضائل، وبطاعته لله وضيافته بشكل مميز. لقد كرهه السدوميون لكونه غريباً، وبالأكثر لكونه رجلاً باراً.
لقد كان لوط ينصحهم “أيها الإخوة لا تسلكوا بهذه الفظاعة”. لقد سمّى الشعب الفاسد إخوته، لكي يهدّئهم ويذكّرهم بألا يرتكبوا الإثم، لكي يخلّصهم. لقد وُجد لوط مستحقاً لأن يزوره ملائكة الله ويخلّصوه من تلك المدينة الفاسدة التي وصلت خطيئتها إلى الله. وقد هاجم زمرة الأشرار منزل لوط ليلوّثوا قداسة ضيافته.
لقد توسّل إليهم لوط: “أيها الإخوة لا تسلكوا بهذه الفظاعة”. لكن لمَ قد يستمع عميان البصيرة هؤلاء إلى إنسان فيما هم لا يخافون الله؟ لهذا السبب عاقبهم ملائكة الله بالعمى: “وأمَّا الرِّجالُ الّذينَ على بابِ البَيتِ فضربَهُمُ الرَّجلانِ بالعَمَى‌، مِنْ صغيرِهِم إلى كبـيرِهِم” (تكوين 11:19). من ثمّ قاد الملائكة لوطَ من مدينة الأشرار وأطلقوا عاصفة من الملح والنار على المدينة. وهكذا، بادَت مدينة الشر، والرجل البارّ الوحيد فيها خلص: “واحدٌ صالِحٌ خَيرٌ مِنْ ألفٍ” (سيراخ 3:16).
أيها الإله الصالح، الذي لم يتخلَّ عن الرجل البار، أصلِحْ عدم برّنا وخلّصنا. لك المجد والإكرام إلى الأبد. آمين

إسحق الذي باركه الله

فتراءى لَه الرّبُّ في تِلكَ اللَّيلةِ وقالَ لَه أنا إلهُ إبراهيمَ أبـيكَ. لا تَخفْ، فأنا مَعكَ وأبارِكُكَ وأُكثِّرُ نسلَكَ مِنْ أجلِ عبدي إبراهيمَ (تكوين 24:26).

أيها الإخوة، منذ الأزل، والطريق التي يمشي عليها الأبرار دائماً صعبة. منذ الأزل، والأبرار مضطَهَدون من أولئك الذين لا يؤمنون بالله أو أصحاب الإيمان الوخيم. هابيل اضطهده أخوه قايين؛ نوح ولوط اضطهدهما جيل من كامل الفساد؛ وإبراهيم وإسحق ويعقوب اضطهدهم الوثنيون. مع هذا، لم يتخلَّ الله عن البار ولم يتركه يسير الدرب الصعبة وحيداً.
هذا نراه أيضاً مع إسحق: “أنا إلهُ إبراهيمَ أبـيكَ. لا تَخفْ”. فهم إسحق هذه الكلمات ذات المعنى الغني. فبها، شجّعه الله وذكّره، فقد كان يقول: “بسبب إبراهيم، سوف أباركك أيضاً، وكما حفظتُ إبراهيم بين الوثنيين، على المنوال نفسه سوف أحفظك”. وفوق هذا: “كن وفياً لي كما كان إبراهيم أبوك”. سار إسحق على مثال أبيه ولم يبتعد عن الله طيلة حياته.
كان إسحق راعياً ومربياً للماشية، كما كان أبوه. كان باراً وحليماً، يتلافى النزاع مع البشر ويصنع الخير. الذين كانوا يكرهونه ويضطهدونه اعترفوا في النهاية “رأينا أنَّ الرّبَّ معَكَ” (تكوين 28:26). واستحقّ اسحق أن يدعو الرب إلهه: كما كان الله إله إبراهيم، صار من ثمّ إله إسحق.
أيها الرب، العجيب في قديسيك، اذكر أسماءنا أيضاً مع أسماء الأبرار والقديسين في ملكوتك. لك المجد والإكرام إلى الأبد. آمين.

Leave a comment