ميلاد الأعمى

ميلاد الأعمى

الأرشمندريت توما بيطار




باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

“أتى يسوع إلى بيت صيدا”. يسوع في حركة دائمة: “أبي إلى الآن يعمل وأنا أعمل”، يكرز بالكلمة، ويشفي المرضى، ويطرد الشّياطين، ويُقيم الموتى؛ “فقدّموا إليه أعمًى، وطلبوا إليه أن يلمسه”. للجماعة، دائمًا، دور في تقديم المضنوكين والمتعَبين، في الصّلاة إلى الرّبّ يسوع. ليس أحد منّا جزيرة. الجماعة مسؤولة عن كلّ فرد فيها. هذا ما تقضيه المحبّة في المسيح، وإلاّ لا تكون الجماعةُ جماعةً. الّذين يلتقون، لكنّ كلّ واحد منهم يهتمّ بما لنفسه، لا يشكّلون جماعة، ومن ثمّ لا يشكّلون كنيسة. الجماعة تلاحظ، دائمًا، لا سيّما المتعَبين فيها. ولأجل هؤلاء المتعَبين ترفع الصّلاة، وتطلب بإلحاح؛ لأنّ قوام الجماعة المحبّة. من دون محبّة، لا تكون هناك جماعة. المحبّة تظهر، بصورة خاصّة، في الانتباه للمَنسيّين، للصّغار، للمهمَّشين، لِمَن هم في كلّ ضيق، سواء أﮐان ضيقهم بيِّنًا أم مخفيًّا.

“وطلبوا إليه أن يلمسه”. هذا الأعمى جعل نفسه في عُهدة الجماعة. كان كالطّفل، أتوا به إلى يسوع، فلم يقاوم؛ وطلبوا إليه (أي إلى يسوع) أن يلمسه، فلم يكن لديه (أي لدى الأعمى) كلمة يقولها، إنّما اكتفى بكلمة الجماعة. لا شكّ في أنّ ذلك فيه اتّضاع جميل. حين يكون كلّ واحد منّا مشمولاً بعطف إخوته، فإنّه لا يحتاج إلى أن يقول شيئًا، لأنّهم هم يلتزمونه، ويقولون الكلمة عنه. ليس أطيب من أن يكون الإنسان مُنتمِيًا إلى جماعة حيّة، إذ حتّى لو كان أعمًى العينين الحسّيّتين، فإنّ عيني قلبه تكونان مفتوحتين، ومُبصرتين لمحبّة الإخوة، وهذا يفرّح ويعزّي.
“طلبوا إليه [أي إلى يسوع] أن يلمسه”. الرّبّ يسوع كان، أحيانًا، يشفي بالكلمة. وأحيانًا أخرى، كان يشفي عن بُعد. وأحيانًا، كان يلمس المريض الآتي إليه. القدّيس مرقس، بين الإنجيليّين، هو أﮐثر مَن يشير إلى نزعة اللّمس عند الرّبّ يسوع. بالنّسبة إلينا، الطّريقة الّتي يتّبعها الرّبّ يسوع في شفاء المتعَبين المقبلين إليه هو يعرف لماذا يتّبعها دون سواها. لكنّنا نستنتج، من سلوكه، أنّه يعاملنا كواحد منّا: يعاملنا بالكلمة، ويعاملنا عن قرب، ويعاملنا عن بعد، ويعاملنا باللّمس… وكلّ هذا من طبيعة النّاس، ومن طبيعة تعامل النّاس فيما بينهم. “فأخذ يسوع بيد الأعمى، وأخرجه إلى خارج القرية”. ليس هناك أعمًى يأتي إلى يسوع، أو يُؤتى به إلى يسوع، إلاّ ويأخذه الرّبّ يسوع بيده، ويقوده. وإذا ما قلنا إنّ البشريّة بأسرها لا تعرف الطّريق إلى الله، إذ الخطيئة أعمتها حتّى لم يعد بإمكانها أن تتبيّن السّبيل إلى الله؛ فالرّبّ الإله تجسّد، بالضّبط، من أجل أن يأخذ بيد البشريّة، ليمشي بها على سبيل الملكوت إلى وجه الله. في هذا ليس أحد متروكًا. الرّبّ لا يختار قومًا، ويُعرض عن غيرهم. معرفة الله لكلّ واحد منّا هي معرفة شخصيّة، ومخطّط خلاص الله للبشريّة يتناول كلّ فرد فيها. المهمّ أن يعطي الإنسان يده لله، أن يمدّ الإنسان نفسه إلى الله: “هاءنذا، يا ربّ”، والله، بعد ذلك، يأخذه بيده. الخلاص هو للجميع. المهمّ ألاّ يعاند أحد منّا عن استكبار، أو عن عناد. المطلوب أن يكون كلّ إنسان متّضعًا بإزاء ربّه، وأن يكون مُقلِعًا عن كلّ عناد يحاول أن يُثبت نفسه به، لأنّ هناك كثيرين بيننا يحاولون أن يُثبتوا أنفسهم، باتّخاذ مواقف سلبيّة معاندة حيال الله، وحيال الإخوة. هؤلاء، في الحقيقة، يحرمون أنفسهم من عطف الله، ومن لطفه. ليس الكِبَر، أبدًا، أن يعاند الإنسان في موقفٍ يرضى هو عنه شخصيًّا، ولا يُرضي الله. الكِبَر أن ينظر كلّ واحد إلى ضعفه، وإلى خطيئته، وأن يعترف بقصوره. إذ ذاك، يصير الإنسان كبيرًا. الكِبَر في تواضع القلب، لا في الكبرياء.
إذًا، “أخذ يسوع بيد الأعمى، وأخرجه إلى خارج القرية”. أحيانًا، كان الرّبّ يسوع يشفي النّاس علانيّة. وكان يفعل ذلك لأنّه كان يقصد أن ينفع الجماعة. وأحيانًا أخرى، يجعل الرّبّ الإله علاقته بكلّ واحد منّا شخصيّة، في الخفاء، خارج القرية، خارج الجماعة. يخاطبنا الرّبّ الإله شخصيًّا. يعرف ما ينفعنا، ويعرف ما يضرّنا. في كلّ حال، الرّبّ الإله لا يأتي عملاً، إلاّ بقصدٍ حسن، التماسًا لبناء الجماعة، أو لبناء الأشخاص فردًا فردًا. هنا، أخرجه إلى خارج القرية، لأنّه (أي يسوع)، في الحقيقة، لم يشأ أن يُذاع الخبر بشأنه أنّه شفى الأعمى. هذا واضح في خاتمة إنجيل اليوم. وهذه أيضًا ميزة من ميزات إنجيل الإنجيليّ مرقس. كذلك، أخرجه يسوع إلى خارج القرية، لأنّ كلّ واحد منّا، في الجماعة، له انتماؤه إلى الجماعة، ولكن، له أيضًا انتماؤه إلى نفسه. الرّبّ يسوع لا يخاطبنا كقطيع، بل كشركة، وفي الشّركة أشخاص. كلّ شخص كيان في ذاته. ولكن، كلّ شخص، في إطار الشّركة، منفتح عليها وهي عليه. لذلك، يسوع، دائمًا، يتعاطى وإيّانا كأشخاص؛ ويتعاطى وإيّانا، في آن معًا، كأشخاص في جماعة، في شركة.
“وتفل في عينيه، ووضع يديه عليه، وسأله أيُبصر شيئًا”. الرّبّ يسوع يلجأ إلى أسلوب يبدو، للوهلة الأولى، غريبًا. نحن، في تعاملنا بعضنا مع بعضنا الآخر، إذا تفل إنسان في وجه إنسان آخر، فهذا دليل احتقار وإهانة. تُرى، هل كان الأمر غير ذلك، في زمن الرّبّ يسوع؟! – لا أظنّ. بل أظنّ أنّ هذا الأعمى كان إنسانًا متواضع القلب، وكان مستعدًّا لأن يقبل حتّى ما لا يقبله الأﮐثرون. وهذا لأنّ الإنسان الّذي يعاني، الّذي يتألّم، يطلب الشّفاء، وهو مستعدّ لأن يقتبل كلّ شيء، إذا كان يُفضي به إلى الشّفاء. لذلك، استبان الأعمى وكأنّه إنسان قد أسلم نفسه بالكامل بين يدي الرّبّ الإله؛ فتفل الرّبّ يسوع في عينيه. إذا كان هذا الفعل يبدو، بشريًّا، كأنّه بلا معنًى، إلاّ أنّه فعل عظيم، لأنّه صدر عن الرّبّ يسوع، ولأنّ يسوع هو إله وإنسان. قديمًا، عندما خلق الرّبّ الإله الإنسان، جبله من تراب، ونفخ في التّراب، فصار هناك إنسان ذو نفس حيّة. هنا، تفلة الرّبّ يسوع تذكّر بالطّريقة الّتي برأ بها الرّبّ الإلهُ الإنسانَ، في أوّل الخليقة، وتشير إلى أنّ الرّبّ يسوع هو الّذي خلق الإنسان. وفي آن معًا، يسوع ابن الله المتجسّد، بصفته خالق الإنسان، يستكمل، الآن، خليقته الّتي أصابها التّشويه بما دسّه الشّيطان من سمّ في حياة الإنسان؛ فالعمى إن هو سوى علامة على ما أحدثه الشّيطان في حياة الإنسان. إذًا، الرّبّ الإله الخالق، ابن الله المتجسّد، الرّبّ يسوع المسيح يُعيد لخليقته سلامتها الأولى، تمهيدًا للسموّ بها من معاينة الخلائق إلى معاينة النّور الإلهيّ. ما كان الرّبّ يسوع ليجعل عيني الأعمى تنفتحان، لو لم يشأ أن يُبدي أنّه يريد للإنسان أن يصير عشير الإلهيّات. لهذا السّبب، تجسّد ابن الله، وهو تجسّد لكي يرفعنا، بالنّعمة الإلهيّة، إلى مستوى الإلهيّات. والكلام على العين، بصورة خاصّة، يشير إلى القلب. الرّبّ الإله يشاء أن يُقيم في قلب الإنسان، يشاء أن يجعل قلب الإنسان ملكوت السّموات، ويشاء، في آن معًا، للإنسان أن يُقيم في قلب الله.
“ووضع يسوع يديه عليه”. يسوع وضع يديه على الأعمى ليستردّه إليه، لأنّه هو خلقته، ملكه، وهو الرّاعي. وإن كان الشّرّير قد خطف الخراف، في البشريّة، و”ضربها” بكلّ أنواع العلل، فالرّبّ الإله يستعيد خليقته، يضع يده عليها من جديد، ويكرّس ملكيّتها له. ولا يمكن، من بعد، لأحد أن يخطف من يده خرافه. إذًا، الرّبّ يسوع يضع يده علامةً، وختمًا، وتأﮐيدًا أنّها، منذ الآن، قد أضحت إليه هو.
“وسأله أيبصر شيئًا؛ فرفع طرْفه [أي نظره]، وقال: أبصر النّاس أنّهم كأشجار يمشون”. الرّبّ يسوع، أحيانًا، يشفي الإنسان للوقت، في اللّحظة ذاتها. وأحيانًا، يشفيه على مراحل. وسواء فعل هذا الأمر أم ذاك، فإنّه يشاء ما يشاؤه لخير الإنسان. في حياتنا، قد لا يكون موافقًا لنا أن نُشفى بسرعة، لأنّنا قد لا نكون مُهيَّئين لقبول الشّفاء، وتكون النّتيجة أنّنا بدل أن نشكر ونثبت في محبّة الله، نسقط في المحظور. لذلك، يحتاج العديدون بيننا إلى أن يُشفوا على مراحل. والشّفاء لا يتمّ، بالضّرورة، نتيجة ما نأتيه نحن من أعمال ترضي الله، لأنّ الشّفاء لا يأتي أبدًا كأجر على أتعاب بذلناها. الأمر المهمّ هو أن يثبت الإنسان في طلب الشّفاء من الله. قد يتعب كثيرًا، وقد يتعب قليلاً. المهمّ أن يكون قلبه لله، وأن تكون له الثّقة بأنّ الله قادر على أن يشفيه؛ فإذا ما ثبت الإنسان على هذا الفكر، وانتظر، فإنّ الرّبّ الإله يعطيه ما يشاء. الله لا ينتظر أجرًا من أحد، بل ينتظر أن يتغيّر قلب الإنسان تجاهه. “القلب الخاشع المتواضع، هذا لا يرذله الله”. فرفع الأعمى نظره، وقال: “أبصر النّاس أنّهم كأشجار يمشون”. هذه كانت مرحلة أولى، شعر فيها الأعمى بأنّه بدأ يتحسّن؛ “فعاد [يسوع] ووضع يديه على عينيه وجعله يتطلّع، فعاد صحيحًا، وأبصر كلّ النّاس جليًّا”. عمل الله، في كلّ حال، كامل، ولو توزّع على مراحل. المراحل نفسها جزء من اكتمال القصد الإلهيّ. المهمّ أن يعي كلّ واحد منّا أنّه مُطالَب بأن يُلقي بنفسه بين يدي الله الحيّ، والله العارف بمكنونات القلوب هو يدبّر أمورنا، بالطّريقة الّتي يراها موافقة، ليأتي بنا إلى مراعي الخلاص.
فلمّا أبصر الأعمى جليًّا، “أرسله [يسوع] إلى بيته قائلاً: اذهب إلى بيتك، ولا تدخل القرية، ولا تقل لأحد في القرية”. الرّبّ يسوع لا يحتاج، أبدًا، إلى أن يُذاع خبره بين النّاس، وإلى أن يقول النّاس فيه إنّه عظيم، بل كلّ ما يفعله الرّبّ يسوع إنّما يفعله ليتمّم قصد الآب السّماويّ. هنا، الرّبّ يسوع يستبين كضابط للأوقات. الرّبّ يسوع عارف أنّه مُقبل إلى الصّليب، وعارف أيضًا بالسّاعة الّتي يأتي بها إلى الصّليب. لذلك، ما يقوله، وما يطلبه من النّاس لجهة إذاعة خبره، أو الامتناع عن إذاعة خبره، هو من ضمن ضبطه للأوقات، حتّى تكتمل عناصر الصّورة، وحتّى يأتي الرّبّ يسوع إلى تمام القصد الإلهيّ. إذًا، الرّبّ يسوع يتخطّى ما يختبره النّاس لجهة الإعلان، ولجهة الشّهرة والتّعظيم. كلّ هذا لا يعني بالنّسبة إليه شيئًا. والحقّ أنّ كلّ مَن استقرّ الرّبّ الإله في كيانه لا يعود يهتمّ إطلاقًا بأن تكون له قيمة، في هذا الدّهر، بل يقبل أن يكون نكرة بين النّاس. والرّبّ يسوع قبل أن يكون نكرة بين كثيرين. قلّة من المؤرّخين والفلاسفة تحدّثوا عنه، وقلّة من ذوي الشّأن من الأباطرة والحكّام أولوه اهتمامًا. كان بالنّسبة إليهم إنسانًا كباقي النّاس، وكانوا يقولون ما يليق قوله، وما لا يليق قوله بشأنه. كلّ ذلك لم يُقِم له الرّبّ يسوع اعتبارًا، لأنّه كان ينظر إلى الآتي، وكان ينظر إلى قصد الله فيه، كان ينظر إلى تلك السّاعة، إلى تلك اللّحظة الّتي عُلِّق فيها على الصّليب، وقال: “قد تمّ [كلّ قصد الآب السّماويّ]، وأحنى رأسه، وأسلم الرّوح”. هذا هو السّبيل الّذي اختطّه الرّبّ يسوع بجسده، حتّى يكون لنا نحن أن نخرج من عمانا، من عمى أهوائنا، لنلتمس الخفية في هذا الدّهر، وأن نظهر لعين الله وحده، ولكي يتمّ قصد الله لكلّ واحد منّا. آمين.

عظة في الثّلاثاء 14 كانون الأوّل 2010 حول لوقا: مر8: 22- 26.

Leave a comment