عظات حول أنبياء العهد القديم وأبراره – 2

عظات حول أنبياء العهد القديم وأبراره – 2

القديس نيقولا فيليميروفيتش


نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

ملكيصادق الملك والكاهن

“لأنّك أنت كاهن على ترتيب ملكيصادق” (مزمور 4:110، عبرانيين 17:7و 21).

آه كم عند الرب من الخدّام المخفيين المخلِصين، يخدمونه نهاراً وليلاً! آه كم من المذنبات اللامعة يراها البشر تعبر السماوات المنجّمة، فتظهر من غير توقع، متلألئة، ومن ثم تضيع في رحاب الكون، تاركةً قصصاً عنها لا غير! البارّ إبراهيم، مع الذين تحدّروا منه، معروفون لدينا كالسماوات اللامعة بالنجوم فوق رؤوسنا، لكن ملكيصادق معروف لدينا كمثل مذنّب ساطع، ظهر فجأة، انحنى نحونا من السماوات المملوءة بالنجوم، ومن ثمّ اختفي في المجهول.
من هو هذا الملكيصادق؟ “مَلِكُ شاليمَ… وكانَ كاهناً للهِ العليِّ” (تكوين 18:14). لقد أخرج خبزاً وخمراً لإبراهيم وباركه فأعطاه إبراهيم عشر كلّ ما كان له. إذا كان إبراهيم بورِك من الله بشكل عظيم، فكم يكون أكثر بركة ذاك الذي باركه؟ آه، كم يصعب وصف أعماق تدبير اللهّ! إن فكر الإنسان يمتدّ من اليوم إلى الغد، لكن فكر الله يمتدّ إلى آخر الزمان.
بحسب كلمات الرسول القديس بولس، ملكيصادق يمثّل مسبقاً الرب يسوع المسيح شخصياً (عبرانيين 10:7). إذ فيما أبو الآباء إبراهيم كان فلاحاً عجيباً ومرضياً لله، ملكيصادق كان ملكاً وكاهناً في آنٍ واحد، كما كان ربنا ملكاً وكاهناً. ملكيصادق أعطى إبراهيم خبزاً وخمراً، وربّنا منح جسده ودمه إلى البشرية جمعاء. إبراهيم انحنى أمام ملكيصادق مقدماً له إجلالاً طوعياً، ونسل إبراهيم الحقيقي، أي المسيحيون، ينحنون أمام الرب يسوع مقدّمين له أضحيتهم الطوعية، هدية مقابل هدية، هدية جسده ودمه على الصليب. “لا أحدَ في جيلِهِ ا‏عتَرَفَ بهِ” (إشعياء 8:53). هذا يشير إلى المسيح وملكيصادق معاً.
“أبوكُمْ إبراهيمُ تهَلَّلَ بأنْ يَرَى يومي فرأَى وفَرِحَ” (يوحنا 56:8). هكذا كلّم الرب اليهود. كيف رأى إبراهيم يومه؟ لقد رآه بالروح. الرب أعلنه له، وقد رأى أيضاً التصوير المسبَق للمسيح في هذا الملكيصادق المجيد العجيب، الملك، الكاهن وخادم الله المتعالي.
أيها الرب يسوع، باركنا نحن أيضاً كما باركتَ خدّامك المخلصين، ملكيصادق وإبراهيم. لك المجد والإكرام إلى الأبد. آمين.

يوسف الطاهر البريء

“فترَكَ ثَوبَهُ في يَدِها وهَرَبَ وخرجَ إلَى خارِجٍ” (تكوين 12:39).

تحمّل يوسف الطاهر البريء تجربتين عظيمتين وصعبتين، وتخطاهما: تجربة الحسد الشرير من جهة إخوته بالجسد، وتجربة شهوة الزنا من جهة المصرية. الحسد باعه كعبد، وشهوة الزنا قادته إلى السجن. في كلتا الحالين بادل الشر بالخير: أعطى طعاماً إلى إخوته الغاضبين وحافظ على حياة وعرش وشعب فرعون الخائف. فكّر إخوته بأن يقتلوه، لكن الله خلّصه، والمرأة الزانية فكّرت في القضاء عليه ولكن الرب خلّصه.
من العبودية والسَجن، توّجه الله بالمجد والسلطة غير المحدودة. وذاك الذي كان بمقدور إخوته أن يقتلوه بضربة واحدة، وبإمكان زوجة فوطيفار المقتدرة أن تسحقه في لحظة، جعله الرب سيداً مطلقاً على حياة الملايين من الشعب والمغذّي الوحيد لإخوته المتضورين جوعاً.
هكذا هي رحمة الله العجيبة نحو الأبرار. وهكذا يعرف الرب كيف يخلّص البار والطاهر ويمجّده. في عظمة مصير يوسف نرى عظمة رحمة الله. هناك عين واحدة لا تنام أيها الإخوة. فلنتشبّث بالله ولا نخشيّن أحداً. فلنكن أبرياء وطاهرين ولا نخشى الشر أو الافتراء أو السًجن أو الهزء أو المحن. على العكس فلنفرح عندما يحلّ بنا كلّ هذا بسبب براءتنا وطهارتنا. فلنفرح وننتظر بإيمان إعلان عجائب الله لنا. فلننتظر، في كل عاصفة، برق عدالة الله، ومن ثمّ الهدوء.
أيها الرب غير المدرَك، الذي يرافق البارّ سرياً ولكن بيقظة، في العبودية والسجن، ويظهر رحمته في الوقت الذي يختاره، أعنّا لنكون أبرياء وطاهرين. لك المجد والإكرام على الأبد. آمين.

حُلُم موسى

“وأمّا الرَّجُلُ موسَى فكانَ حَليمًا جِدًّا أكثَرَ مِنْ جميعِ الناسِ الذينَ علَى وجهِ الأرضِ” (العدد 3:12).

رجل مختار، صانع عجائب عظيم، صورة للرب يسوع المسيح بعجائبه، منتصر في مصر، منتصر في البرية، قائد الشعب، كيف له أن لا يكون مغروراً؟ ولكن لو أصابه الغرور لما كان موسى شيئاً مما كان عليه.
يتفاخر الذين يظنون أنّهم يقومون بأعمالهم وليس بأعمال الله في هذا العالم، والذين يظنون أنّهم يعملون بقوّتهم الذاتية وليس بقوة الله. لكن موسى العظيم عرف أنّه كان الفاعل لأعمال الله، وبأنّ القوة التي يتمم بها هذه الأعمال هي قوة الله ولا تعود إليه شخصياً. لهذا السبب لم يصبه الغرور من العجائب التي أنجزها، ولا من الانتصارات العظيمة التي حققها، ولا من القوانين الحكيمة التي أعطاها للشعب.
“الربُّ قوَّتي ونَشيدي” (خروج 2:15)، قال موسى. أي من كل الجماعة الإسرائيلية في البرية لم يحس بضعفه الشخصي كما أحس به موسى، وهو الأعظم في الجماعة. في كل مهمة، في كل مكان وفي كل لحظة، كان يتوقّع المعونة من الله. “ما عساي أفعل؟” صرخ إلى الله، واستمع إلى جواب الله بشكل مستمر والتمس قوته.
“أكثر حلماً من كل الناس على الأرض”. لأنّ كل الآخرين اعتبروا أنفسهم شيئاً ما، وثقوا بأنفسهم على أنّهم شيء ما، أمّا هو فلا شيء. لقد كان منهمكاً بالله بالكامل، وبشكل كليّ تذلل أمام الله.
عندما احتاج الناس لأن يأكلوا ويشربوا، توجّه إلى الله؛ عندما كان من الضروري خوض معركة مع الأعداء، رفع يديه إلى السماوات؛ عندما كان من الضروري أن يهدئ الثورة بين الشعب، صرخ إلى الله. المتواضع، موسى الكامل التواضع! والله كافأ خادمه المخلِص بمجد عظيم وجعله مستحقاً لأن يظهر على جبل ثابور مع إيليا إلى جانب الرب المخلّص.
أيها الرب، إله المتواضعين، الراعي الصالح، اجعلنا أيضاً متواضعين مثل موسى والرسل. لك المجد والإكرام على الأبد. آمين.

Leave a comment