حياة الكمال الإنجيليّ

حياة الكمال الإنجيليّ

الأرشمندريت توما بيطار




باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

اليوم، يا إخوة، تذكر الكنيسة المقدّسة الآباء الأبرار منذ الدّهر. والآباء الأبرار، عندنا، هم، بخاصّة، الرّهبان والنّسّاك. هؤلاء يُدعَون أبرارًا لأنّهم يطلبون، في كلّ وقت، أن يكونوا مرضيّين أمام الله. وليسوا وحدهم الأبرار. كلّ مؤمن، في كنيسة المسيح، مدعوّ إلى أن يكون بارًّا. مَن ليس بارًّا، أي مَن لا يرضي الله، فهذا لا يكون من كنيسة المسيح. كنيسة المسيح هي كنيسة الأبرار، هي كنيسة القدّيسين، هي كنيسة الّذين يحبّون الله. لذلك، الأبرار القدّيسون، الّذين نقيم تذكارهم اليوم، هم، في الحقيقة، يعلّموننا كيف نسلك، عمليًّا، وفق الكلام الإلهيّ. الأبرار اختبروا، ويختبرون دائمًا، محبّة الله، وهم يلتمسون هذه المحبّة بالسّلوك في مخافة الله، وبالسّعي، في كلّ حين، لحفظ وصاياه. لسان حالهم هو: “إن عشنا، فللرّبّ نعيش؛ وإن متنا، فللرّبّ نموت؛ فإن عشنا وإن متنا، فللرّبّ نحن” (رو14: 8).

إذًا، الإنسان البارّ هو الإنسان الّذي يطلب وجه يسوع المسيح، في كلّ الأحوال، في كلّ قول، في كلّ فكر، في كلّ فعل. لا يعمل شيئًا، على الإطلاق، إلاّ في الله؛ ولا يأتي شيئًا، على الإطلاق، إلاّ من أجل الرّبّ يسوع المسيح، للشّهادة له، لتمجيد اسمه القدّوس. إذًا، ليس بإمكان أحد أن يقول: “هذا الّذي ورد هنا أو هناك، في الكتاب المقدّس، لا يخصّني أنا، بل يخصّ الرّهبان، أو الّذين يسلكون في البراري”. لا يمكن أحدًا أن يقول إنّ ما ورد على لسان الرّبّ يسوع، أن “كونوا كاملين كما أنّ أباكم السّماويّ هو كامل”، ليس له. كلّ ما ورد في الكتاب المقدّس ورد للجميع، من دون استثناء. ولكن، الرّهبان والنّسّاك هم الطّليعة، في كنيسة المسيح! هم الّذين يتركون كلّ شيء ويتبعون المعلّم! هم الّذين يحفظون وصيّة الله حفظًا كاملاً! لذلك، نلقاهم في الطّليعة دائمًا. الكنيسة، قديمًا وحديثًا، تنظر إلى الأديرة وإلى الرّهبان باعتبار أنّهم معلّمو الحياة الرّوحيّة بامتياز، إذ لا يمكن لأحد أن يعلّم طريق الله، إن لم يكن هو نفسه قد سلك فيها. فالّذي لا يصلّي، كيف يمكنه أن يعلّم النّاس الصّلاة؟! والّذي لا يصوم، كيف يمكنه أن يعلّم النّاس الصّوم؟! الحياة الرّوحيّة ليست موضوعًا نظريًّا. طبعًا، بإمكان العديدين أن يتكلّموا على الحياة الرّوحيّة، من دون أن يختبروها. يعتمدون على ما يسمعونه، هنا أو هناك، أو على ما يحصّلونه من الكتب، من هنا ومن هناك، ويتكلّمون. وقد يظنّ أناس أنّهم خبراء في الحياة الرّوحيّة، فيما هم، في الحقيقة، لا يعرفون شيئًا من أصول الحياة الرّوحيّة! الحياة الرّوحيّة كالحبّ. الحبّ لا يعرفه إلاّ الّذي يتعاطاه! كذلك الأمر، الحياة الرّوحيّة لا يعرفها إلاّ الّذين يتعاطونها. لهذا، كان الرّهبان والنّسّاك، في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسيّة، هم المعيار أنّ الكنيسة في نهضة، وفي سلام، وأنّ نعمة الله تملأ الكنيسة. الكنيسة من دون أشخاص مكرّسين بالكامل للحياة في المسيح ليست كنيسة بالمعنى الصّارم للكلمة! تتحوّل، بالأحرى، إلى ما يشبه النّادي الاجتماعيّ. وربّما قال قائل: “ولكن، في الكنيسة الأولى، بخاصّة في القرون الثّلاثة الأولى، لم يكن هناك رهبان! هذا لأنّ جميع النّاس، من دون استثناء، كانوا، في كنيسة المسيح، رهبانًا! الرّاهب ليس أبدًا إنسان من طينة مختلفة. هو إنسان كغيره من النّاس، له ضعفاته، وله خطاياه، وله صعوباته، وله مخاوفه. ولكن، الفرق بين الإنسان الّذي يكرّس نفسه بالكامل للحياة في المسيح والإنسان الّذي لا يكرّس نفسه للحياة في المسيح هو أنّ الأوّل يطلب أن يسلك بأمانة في وصايا الله، ويطلب وجه الله، في كلّ حين. همّه أوّلاً وأخيرًا، أن يتنقّى، وأن يتقدّس، وهو لا يقول أبدًا: “أنا لا أستطيع أن أحقّق هذا كلّه، لأنّي إنسان”! يعرف حدوده، ويعرف قصوره، ويعرف ضعفاته. لكنّه يعرف أيضًا ما تكلّم عليه الرّسول بولس، حين قال: “أستطيع كلّ شيء في المسيح الّذي يقوّيني” (في4: 13). الرّبّ يسوع المسيح لا يطلب من أحد منّا أن يكون قويًّا، لأنّه يعرف أنّ “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (رو3: 23). لكنّه يطلب أن تكون لدى محبّيه، ولدى طالبيه، الإرادة الطّيّبة في أن يتقدّسوا، وفي أن يكونوا آنية لروح الرّبّ القدّوس. الموضوع هو موضوع إرادة في المسيح. أتريد أن تُشفى؟! أتريد أن تصير على مثال الله؟! أتريد أن تتقدّس؟! هذا، بالضّبط، هو الموضوع. نحن علينا أن “نريد”، وعلى الله الباقي. الله هو الّذي يجعلنا قادرين على كلّ شيء، إذا كنّا نطلب أن نكون مرضيّين له. إذًا، في الكنيسة، بمعنًى، الجميع مدعوّون إلى أن يصيروا رهبانًا، ولو كانوا في العالم، ولو كانوا متزوّجين! طبعًا، ليس مطلوبًا منهم أن يكونوا نسخة عن الرّهبان والرّاهبات الّذين يعيشون في الأديرة. ولكن، بإمكانهم أن يتعلّموا منهم الكثير، حتّى تتحوّل بيوتنا وعائلاتنا إلى هياكل لله، يقيم فيها روح الله، وتمتلئ من نور الرّبّ، وتفعل فيها نعمة الله. هذا نصيب الجميع، من دون استثناء.
في ضوء ذلك، ما ورد في إنجيل اليوم، يحدّد، بكلّ صراحة، وبكلّ بساطة، في آن معًا، شرطين أساسيّين لحياة البِرّ، لحياة القداسة، للرّهبانيّة العامّة الّتي تشمل جميع المؤمنين في كنيسة المسيح. الشّرط الأوّل هو الصّدقة. والشّرط الثّاني هو الصّلاة.
ما هي الصّدقة؟! ربّما ظنّ بعضنا أنّ الصّدقة هي أن يعطي الواحد منّا المحتاجَ شيئًا من المال، أو شيئًا من المأكول، أو شيئًا من اللّباس، أو شيئًا ممّا يحتاج إليه. هذا ليس دقيقًا كفايةً. الصّدقة، في الحقيقة، هي صدًى للوصيّة الثّانية والعظمى، الّتي أُشير إليها في العهد القديم، والّتي تكلّم عليها العهد الجديد: “أَحِبَّ قريبك كنفسك”. موضوع الصّدقة ليس موضوعَ كمّيّة من المساعدة، إنّما هو موضوع انعطاف القلب صوب الآخرين. الصّدقة، في الحقيقة، هي المحبّة النّابعة من القلب. والمحبّة لا تكون نابعة من القلب، إلاّ إذا كان الواحد منّا مستعدًّا لأن يحبّ قريبه كنفسه. وقريب كلّ واحد منّا نصنعه نحن بأنفسنا. كلّ إنسان نلقاه، قريبًا كان منّا في المكان، أو بالقربى، أو بعيدًا، كلّ إنسان هو برسم القربى في القلب. علينا أن نمتدّ إلى الجميع، وبصورة خاصّة، علينا أن نمتدّ صوب الّذين لا نرغب، لسبب مزاجيّ، في الامتداد صوبهم. أعداؤنا مثلاً، هؤلاء قليلٌ منّا يفكّر في الامتداد صوبهم. ولكن، كلمة الرّبّ يسوع واضحة وصريحة: “أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، وصلّوا لأجل الّذين يُسيئون إليكم ويطردونكم” (لو6: 27). القدّيس سلوان الآثوسيّ يقول إنّ المسيحيّة تتجلّى في حياتنا، بصورة خاصّة، في محبّة الأعداء. إذًا، نحن لا نسعى، فقط، لأن نبادل المحبّة الّذين يحبّوننا. هذا كلّ النّاس يفعلونه. البطولة هي أن يحبّ الواحد منّا الّذين لا يحبّونه، أو حتّى الّذين يعملون على أذيّته! طبعًا، هذا نحن لا نفعله وحدنا. الرّبّ الإله هو الّذي يعيننا. المهمّ أن نكون مستعدّين، والمهمّ أن نبذل ما في طاقتنا. وبعد ذلك، قوّة الرّبّ الإله في ضعفنا تكمّلنا! إذًا، المطلوب، في الكلام على الصّدقة، أن نتعاطى محبّة الآخرين كأنفسنا. حين أراد كاتب المزامير أن يتكلّم على المساكين، وعلى الإحسان إلى المساكين، قال: “بدّد وأعطى المساكين، فبرّه يدوم إلى الأبد” (مز111: 9)! إذًا، الصّدقة تصل إلى حدّ التّبدبد! أن يبدّد الإنسان على المحتاجين، وأن يكون مستعدًّا، إذا جعله الله في وضع مؤاتٍ، لأن يصوم عن الطّعام حتّى يُطعم الّذين لا يمكنهم أن يأكلوا من عرق جبينهم! وهذا كان، في الحقيقة، هدفًا أساسيًّا من أهداف الصّوم، في كنيسة المسيح! كان النّاس يصومون لكي يوفّروا ثمن الأطعمة، الّتي كان يمكن أن يستهلكوها، ليُعينوا بها الّذين لا يستطيعون أن يُعينوا أنفسهم. لهذا، كلّنا مدعوٌّ إلى تعاطي الصّدقة بروح المحبّة. والمحبّة لا يمكنها أن تكون منقوصةً. إمّا تكون كاملةً، أو لا تكون! لا يمكن لأحد أن يحبّ بعض الشّيء! المحبّة تكون من كلّ القلب، ومن كلّ النّفس، ومن كلّ القدرة، أو لا تكون! هذا بالنّسبة إلى الصّدقة، وإلى المحبّة.
أمّا بالنّسبة إلى الصّلاة، فقد قيل عن الإنسان إنّه حيوان ناطق، أي حيوان مفكّر. بالنّسبة إلينا، نحن في كنيسة المسيح، الإنسان هو كائن مصلٍّ! الإنسان يحقّق إنسانيّته بالصّلاة، أوّلاً وأخيرًا. الإنسان الّذي لا يصلّي لا يصير إنسانًا، بل يبقى مشروع إنسان، كما لو كان عندنا سيّارة مكتملة التّجهيز ولا نستعملها. هكذا الإنسان الّذي لا يصلّي. والصّلاة، في الحقيقة، لها مناخ تنمو فيه. وأنا أكتفي فقط بالقول إنّ الصّلاة هي أن ينشغل الإنسان بالله، في كلّ حين. لذلك، كان الكلام، في الكتاب العزيز، أن “صلّوا ولا تملّوا، صلّوا في كلّ حين” (لو18: 1). الإنسان المؤمن بالرّبّ يسوع مدعوّ إلى أن يكون آلة صلاة. يبدأ الإنسان بالصّلاة كما يبدأ الأطفال بالكلام! أوّل كلام الأطفال أصوات غير مفهومة. وأوّل الصّلاة هو توجّه إلى الرّبّ الإله بطريقة قد لا تكون واضحة. ولكن، الإنسان الّذي يطلب الصّلاة يريد أن يرفع نفسه إلى فوق، يريد أن يقف قدّام ربّـه. لذلك، نحن لا نتعلّم تقنيّات الصّلاة، لأنّ المؤمن بالرّبّ يسوع يتعلّم الصّلاة بالصّلاة! يبدأ بالصّلاة. وطبعًا، في الكنيسة، عندنا من الصّلوات الكثير. حتّى إنّنا نتعاطى ما يمكن تعاطيه بصورة شخصيّة، في خلوتنا، في غرفتنا، في بيتنا. يصلّي الإنسان، ويجمع نفسه، ويرفع قلبه إلى الرّبّ الإله ما استطاع. فإن ثبت، فإنّه، شيئًا فشيئًا، يجد نفسه في عالم يختلف عن هذا العالم، لأنّ الرّبّ الإله يأتي إليه، وهو القائل: “اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتَح لكم” (لو11: 9)؛ فإذا كنّا نطلب الله في الصّلاة، فلا يمكن إلاّ أن يأتي إلينا. الرّبّ الإله هو عشير المصلّين، أطفالاً، وشبابًا، وشابّات، وكهولاً، وشيوخًا. اسمعوا هذه القصّة. أعرف امرأة كانت مُحبّةً لله، فلمّا بلغت حوالَي الثّمانين من عمرها، حدث أنّها كانت جالسة وحدها، وكانت كنّتها تعمل في المطبخ. فإذا بهذه المرأة تنادي كنّتها: “يا ماري!”، فجاءت ماري، وقالت لها: “ماذا تريدين، يا عمّة؟!”، قالت: “إليّ بكتاب الصّلوات!”؛ فجاءتها بكتاب الصّلوات، وكان كتابًا ذا حجم كبير؛ فأخذته، وجعلت تتصفّحه، ثمّ نظرت إلى الأمام، فطالعتها أيقونة السّيّد، له المجد؛ فقالت له: “يا معلّم، لم يعلّمني أحد، لا القراءة، ولا الكتابة. لكنّني أصلّي لك كلّ ما هو في هذا الكتاب”. هذه صلاة عظيمة! الرّبّ يطلب، أوّلاً وقبل كلّ شيء، قلبَ الإنسان: “يا بنيّ، أعطني قلبك” (أم23: 26). إن لم يكن القلب هو ما نعطيه في كلام الصّلاة، وفي حركات الصّلاة، وفي كلّ ما له علاقة بالصّلاة؛ فإنّنا لا ننتفع شيئًا. الصّلاة، أوّلاً وأخيرًا، هي حركة القلب إلى فوق، باتّجاه الله. والصّلاة، في الحقيقة، لا تأتي، إن لم يكن الإنسان مستعدًّا، كلّ يوم، لأن يتعاطى المحبّة الّتي تكلّمنا عليها، منذ قليل. لذلك، المحبّة تغذّي الصّلاة. والصّلاة، بدورها، تدفعنا إلى المحبّة. وعلى هذا النّحو تسير العجلة، يومًا بعد يوم. ولكن، لا تسير أفقيًّا، بل تسير عموديًّا، إلى فوق، إلى حضن الله. الأمور في منتهى البساطة. المهمّ أن نطلب ملكوت السّموات، أوّلاً وأخيرًا. وبعد ذلك، كلّ شيء يُزاد لنا.
مشكلة الإنسان، اليوم، أنّه حوّل حياته إلى جبّ من الهموم، والرّبّ الإله جاء لكي لا يكون للإنسان همّ: أريدكم أن تكونوا بلا همّ. إذًا، نحن نطلب الله، في كلّ حين. وبعد ذلك، كلّ ما يمكن أن يكون هناك من صعوبات، أو مضايقات، أو آلام، أو مشكلات… كلّ هذا يأخذه الرّبّ الإله على عاتقه، لأنّه قال: “تعالوا إليّ، يا جميع المتعبين والثّقيلي الأحمال، وأنا أريحكم” (متّى11: 28). بهذه الرّوح، في الحقيقة، وعلى هذا الأساس، ندخل في موسم الصّوم الكبير. الصّوم الكبير هو، في الحقيقة سفر، لا إلى القمر، بل سفر إلى وجه الله، إلى الملكوت، إلى نور الله. نحن نلتمس الحياة الأبديّة، نحن نلتمس أن نكون مع الله، في كلّ حين. والكنيسة أعدّت لنا المركبة الّتي علينا، فقط، أن ندخل فيها، وأن نسلك وفق قواعد السّلوك فيها. وبعد ذلك، تقودنا الكنيسة المقدّسة إلى الفرح الّذي لا يُنزع منّا، وإلى السّلام الّذي لا يشبه أبدًا سلام هذا العالم. الرّبّ الإله قد أعطانا نفسه لمّا تجسّد من البتول القدّيسة. تألّم حتّى يكون لنا فرح به، كلّ يوم من أيّام حياتنا، بغضّ النّظر عمّا نواجهه من ضيقات، وصعوبات، وآلام، ومشكلات… الرّبّ الإله زرع الفرح الإلهيّ فينا عميقًا. لذلك، الإنسان المؤمن همّه، أوّلاً وأخيرًا، أن يلتمس وجه الله، حتّى يترسّخ فيه هذا الفرح، وحتّى تترسّخ فيه الحياة الأبديّة، منذ الآن.
فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.

عظة حول متّى6: 1- 13 في السّبت 5 آذار 2011

Leave a comment