المرأة بانية المجتمع

المرأة بانية المجتمع

إعداد راهبات مار يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة


عن مجلّة العالم اليونانيّة

يقول مثل قديم: “يستطيع الرجل أن يبني بيتاً من حجر، ولكنّ الأمر يحتاج إلى امرأة تمنح وليدها بيتاً دافئاً بحسن تربيتها”. وإن كان هذا الصوت مدويّاً من أزمنة سحيقة فإنّه يتوافق وشهادة كبار المربّين وعلماء النفس والمجتمع.

تؤكّد الاكتشافات العصريّة بأنّ دور الأمّ لا بديل عنه وبخاصّة في السنين الخمس الأولى من عمرالإنسان إذ هي المرحلة التي تصوغ حياته إمّا سلباً أو إيجاباً.
في مهد العائلة يتعرّف الطفل إلى الحياة من خلال وجه أمّه المشرق والممتلئ بالسلام والابتسام الهادئ. فالجوّ العائليّ هو المنبت الأساس حيث تنمو بذار الأمان والثقة والإيمان النموذجيّ بكلّ ما هو جميل وعظيم، بالإضافة أيضاً إلى بذار المحبّة والاحترام لكلّ كائن بشريّ. لكنّه قد يكون أيضاً المشتل الخصب لبذار الكراهية واللاّمبالاة والنقمة العارمة.
شئنا أم أبيْنا، تبقى المرأة المربّي الأوّل والأساس للطفل. فهي التي تصقل طباعه، وتشكّل شخصيّته مهيّئة بذلك مجتمع المستقبل. فمثلاً إذا تلقّى الطفل ذو السنتين أو الخمس سنوات من أمّه تعليماً بأن يضع كلّ شيء في مكانه بعد الانتهاء من استعماله، فعندئذ ينغرس النظام والترتيب في نفسه عميقاً، فيفيد منهما في حياته كلّها. وعندها يظهر هذا التعليم الذي حسبناه بسيطاً أمراً جوهريّاً وحيويّاً.
وأنىّ لشابٍّ أن يعيش في جوٍّ من الوحدة والمحبّة في الأسرة التي سيكوّنها ما لم يكن قد اختبر هذا الوحدة والمحبّة، وهو طفل، في منزل تغشاه المحبّة المتفانية والمتبادلة من خلال تجهيز الطعام، مثلاً، لإخوته أو لأمِّه التي تعمل خارجاً؟
ومتى تعلّم من كلام أمِّه ومثالها كيف يحترم كلّ إنسان كائناً من يكون، أشيخاً أم عاجزاً أم مزدراً أم محتقَراً أم غير معتبرٍ، فكيف سيتصرّف خلاف ذلك في حياته المستقبلة ؟
وعندما يتلقّى دروساً في حمل المسؤوليّة، ويبادر الآخرين بتقدماته الماديّة والمعنويّة، ويتحمّل مغبّة كلّ عمل يقوم به، ألا يجسّد كلّ هذا في ما بعد عبر تسلسل أيّامه؟ كم من إنسان، وأعتبره أنا عظيماً، قال بتأثّر: “إنّ أمّي، الدائم ذكرها، لم تكن تعرف الكثير، ولكنّها غرست في قلبي محبّة الله والقريب والحقيقة”. وهكذا نصل إلى حقيقة لا مفرّ منها أنّ الأمّ هي نبع الحكمة والتعليم الذي يرتوي منه كلّ إنسان في بداياته ليصير إلى كمال الحكمة والتعليم في مستقبل حياته.
إنّ المجتمع هو عبارة عن جماعات الأفراد التي تكون قد تشكّلت في محترف العائلة، لذا “فمتى تهذّب كلّ فرد في بيته، يتهذّب المجتمع برمّته” حسب تعبير أحد الأمثال الفرنسيّة. من هنا نستنتج أنّ الأمّ المربّية الصالحة لابنها هي مربّية صالحة للمجتمع ككلٍّ في آن.
ولكن، ولكي تنشئ الأمّ أولادها حسناً وجب أن تكون مع أولادها. فإنّ غياب الأمّ المستمرّ عن منزلها، إن كان بسبب العمل أو لخدمات اجتماعيّة، يشكّل خطراً لا يستهان به، من هنا نستطيع القول بأنّه ليس صدفة أنّ الهيبيّة والفوضويّة وتعاطي المخدّرات ظهرت كلّها، وعلى نطاق واسع، في عصر غابت فيه الأمّهات عن بيوتهنّ وأطفالهنّ، هذا الغياب والابتعاد يخلق فراغاً في نفس الطفل لا يلبث أن يظهر سريعاً.
أجمع المحلّلون النفسيّون، في الأربعين سنة الأخيرة، بأنّ نموّ الطفل يخضع لبعض الفروض والأنظمة التي تسنّها الأمّ على طفلها، والتي تخلق رابطة قويّة وضروريّة بينهما. إنّ غياب المحبّة أو فقدان الأمّ المفاجئ، وبخاصّة في السنوات الأولى للطفل، يولّد عاقبة وخيمة ومرّة للطفل إذ يخلق له شعوراً بعدم الأمان، وبالتالي بالاحتقار والازدراء في أيّام الصبا والشباب. كلّ الأطفال الذين هم تحت سنّ السبع سنوات هم رقيقو المشاعر بسبب حرمانهم من الرعاية الأموميّة كما يؤكّد معظم المحلّلون النفسيّون. ولقد كتب طفل في العاشرة من عمره قائلاً: “أمّي هي والدة ممتازة، ولكنّي أفتقدها كثيراً، فأنا أودّ لو تبقى إلى جانبي إذ غالباً ما ترافق أبي في أسفاره، لأنّ أبي يعمل قبطان سفينة”. وكتب طفل آخر في التاسعة من العمر: “أودّ أن تهتمّ أمّي بي أكثر من ذلك. أنا أعلم بأنّ لديها أعمالاً كثيرة يجب أن تتمّمها، ولكنّي أشتاق أن أراها قربي، أن تشاركني اللعب ولو قليلاً”. وكتبت شابّة جامعيّة تقول: “تمرّ العلاقات الأسريّة في العائلة بأزمة خطيرة لدرجة أنّ الأهل ما عادوا يعرفون أولادهم كما ينبغي، لأنّ الأمّ العصريّة تترك ولدها في دور الحضانة بسبب عملها في الخارج. وعندما تعود إلى البيت تجلس لوقت قصير مع ابنها، ثمّ تتركه لتلجأ إلى الأعمال المنزليّة التي كثيراً ما تكون متراكمة. وهكذا يفتقد الولد إلى الحديث مع أمّه أو إلى الخروج معها في نزهة ولو كانت قصيرة. لقد فقد الأولاد الاتّصال مع أمّهاتهم، ولذلك في غالب الأحيان يحسّون بالنفور منهنّ، وبحاجتهم لمن يتحدّثون معه، فيلجأون إلى أقرب صديق لهم. من الغريب أن تجد أمّي، مثلاً، ساعات طوالاً تقضيها في المطبخ لتجهيز طبق من الطعام فيما لا تجد ساعة من الوقت لتجلس معي، وتعرف كيف أمضيت يومي خارج المنزل. فأنا يجب أن أحمل همومي ومشاكلي بمفردي، وأحلّها بما يتوافق ومنطقي الذي كثيراً ما يكون خاطئاً، ولا أحسّ بخطئه إلاّ بعد فوات الأوان. لم ألاحظ يوماً أن أمّي يهمّها أمري ولا وضعي النفسيّ. لم أشعر بأنّها تشاركني ما يؤلمني ويؤرقني، ثمّ تعاتبني على صداقاتي “المنحرفة”. وأقرّ بكلّ صراحة بأنّها إن غابت عنّي، فإنّ ذلك قلّما يعنيني، ولا أحسّ بأنّي أشتاق إليها. أمّا في يوم عيدها، فالمعايدة تأتي كروتين وواجب، ولكنّي لا أستطيع أن أنكر بأنّ كلّ ما تعمله لي يأتي بغاية الإتقان: فملابسي دوماً مرتّبة، وطعامي دوماً جاهز… ولكنّي ما زلت في نظرها تلك الطفلة ذات الستّ سنوات”.
واتّصلت جدّة بحفيدها تسأله عن سلامة وصول أبيه من سفر غاب فيه عن المنزل مدّة طويلة، فأجاب الولد: “آه، يا جدّتي، تسألين عن سلامة أبي وعن صحّة أمّي، وأنا ألا يوجد من يسأل عنّي، ألا يوجد من يهتمّ بي؟!!
وإليكم نتيجة أبحاث جرت مع شباب تتراوح أعمارهم ما بين 18 – 24 في كلّ من اليابان وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وسويسرا. لقد طُرح عليهم عدّة أسلئة عن وضعهم العائليّ، فأجاب أكثر من 80% في اليابان وسويسرا، وأكثر من 70% في ألمانيا، وأكثر من 60% في فرنسا مؤكّدين ضرورة العلاقة الإيجابيّة والحميمة بين أفراد العائلة. وبحث آخر جرى في ألمانيا أكّد بأنّ أوّل ما يحلم به الشباب الألمان هو تأسيس عائلة كثيرة الأولاد، وقد أكّد بعضهم قائلين: “سوف نتزوّج ونؤسّس عائلة ناجحة على جميع الأصعدة العائليّة والاجتماعيّة”.
وفي العام 1980 سئل شباب تتراوح أعمارهم ما بين 14 – 24 في أوستراليا السؤال نفسه، فأجابوا بأنّ هدفهم الأوّل أن يعيشوا في عائلة منسجمة. وفي أميركا في العام نفسه أجاب أكثر من 60% بأنّ الزواج لا فائدة منه ولا معنى له.
هذا ما يحدث في عصرنا، في عصر نالت المرأة فيه حقوقها كما يقال، في عصر التساوي بين الجنسيّن. ومن المؤكّد أنّ حركة النهضة النسائيّة العالميّة ساعدت كثيراً في هذا الشأن أي في أن تتذوّق المرأة طعم التقدّم العلميّ، وأن تتحرّك لتساوي الرجل في كلّ ميادين الحياة، وأن تكون لها القدرة على العمل في أصعب قطاعات الحياة أحياناً. ولكنّها في المقابل قد أهملت أعمق ما في الحياة والذي يشكّل كنز المجتمع وغناه ألا وهو دورها كأمّ وزوجة. لقد دلّت الإحصاءات العديدة التي جرت حديثاً بأنّ كلّ ثلاث زيجات توجد زيجة فاشلة تؤدّي إلى الانفصال.
لقد ضُرب الزواج في الصميم، لأنّه، في نظر الكثيرات، يجعل المرأة عبدة للرجل، لذا يتطلّعن إلى “المساواة” المنشودة، وقد نفرن من تسمية “سيّدة بيت” باعتبارها إنقاصاً لشأنهنّ. بيد أنّه في غياب المرأة يُحرم الطفل من المربّي الطبيعيّ، وبوجهه يُحرَم المجتمع من المربّي الحقيقيّ.
وما الحلّ إذاً؟ أنطلب من المرأة أن تعود إلى العصور القديمة، وتلزم منزلها بعد أن سارت أشواطاً في عملها وإنجازاتها الخارجيّة على جميع الأصعدة؟ أتترك دراساتها التي تفيد مجتمعها ووطنها؟ أتترك مهنتها التي برعت فيها؟ تُرى هل سكلت منذ البدء طريقاً خاطئاً بنزلها إلى معترك الوظيفة والمهنة؟ هل هي السبب في انهيار عائلتها، أو على الأقلّ في المشاكل العائليّة القائمة؟ هل هي السبب في جنوح أولادها، أو على الأقل في تربيتهم تربية منحلّة؟
من الصعب أن نلاقي أجوبة على هذه التساؤلات، ومن الصعب كذلك أن نقرّر ما إذا كان من الواجب أن “تكون المرأة خارج المنزل” أم أن “يكون البيت سجناً لمواهب المرأة وخنقاً لقدراتها” وأن “ترى المرأة ذاتها داخل المهنة”. افتراضات وافتراضات كثيرة مماثلة تقف دون جواب إذ إنّ للمرأة تبريرها الإيجابيّ في كثير من الحالات وأهمّها الاقتصاديّة. ولكنّنا لا نستطيع تجاهل أنّ الخروج إلى المهنة هو أحد المزالق التي أدّت إلى مخاطر رهيبة، وأوجدت تصدّعاً ليس فقط في المجتمع الضيق (المنزل) بل وفي المجتمع الواسع.
فيجب على كلّ من يجاهر وينادي “بحريّة المرأة” أو “بمساواة المرأة بالرجل” أن يأخذ بعين الاعتبار بأنّ مقام المرأة ودورها الأساس أوّلاً وأخيراً هو كزوجة وأمّ، فمنها يستلهم الرجل والأولاد على السواء الاحترام والمحبّة وكلّ صلاح.
امرأة مثقّفة؟ نعم، ولكنّها على استعداد للتضحية بهذه الثقافة، على الأقلّ وقتيّاً، من أجل انسجام أسرتها وسعادتها وبخاصة اطمئنان أطفالها وتربيتهم السويّة. فللمرأة الحقّ بأن تفاخر كونها امرأة وأمّ. حرّيتها تذوب في تربية أبنائها يداً بيد مع زوجها لكي تقدّم للمجتمع أفراداً أصحّاء نفساً وروحاً وجسداً. نعم إنّ المرأة، من هذا المنظار، هي بانية المجتمع ومدامكه المتين.

Leave a comment