بعض من ذكريات مع الشيخ بورفيريوس

بعض من ذكريات مع الشيخ بورفيريوس

أناستاسيوس تزافاراس
ترجمته بتصرّف عن اليونانية راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطع
رسالة الشيخ بورفيريوس إلى أولاده الروحيين

أبنائي الأحباء،

بما أنه لا يزال تفكيري سليماً حتى الآن، أود أن أوجه إليكم بعض النصائح. كنت متمرغاً بكل أنواع الخطايا منذ طفولتي، وعندما كانت أمي ترسلني لأحرس الحيوانات في الجبل، لأن أبي نظراً لعوزنا نحن أولاده، كان قد سافر إلى أميركا ليعمل في قناة بناما. وأثناء رعايتي للحيوانات تهجأت حياة القديس يوحنا الكوخي الذي أحببته كثيراً. وكطفل صغير كنت أتراوح بين 12 – 15 سنة، إذ لا أذكر تماماً، صليت مراراً كثيرة مبتغياً، وبجهاد كبير، أن أقلده. فذهبت خفية عن أهلي قاصداً كافسوكاليفيا في الجبل المقدس، حيث تتلمذت هناك لشيخين شقيقين بندلايمون وأيوانيكيوس. ومن حسن طالعي أنهما كانا تقيين وفاضلين جداً فأحببتهما حباً جمّاً. وهكذا، وبصلواتهما، كنت مطيعاً لهما تماماً، الأمر الذي ساعدني كثيراً، إذ أحسست بمحبة فائقة نحو الله فعبرت عندئذ أيامي بشكل جيد. ولكن، وبتخل من الله بداعي خطاياي، مرضت كثيراً، فطلب مني الشيخان أن أمضي إلى أهلي في إيفيا. وبما أني كنت قد ارتكبت منذ طفولتي خطايا عديدة، فعندما عدت إلى العالم عاودت ارتكابها من جديد. وأما الناس فاعتبروني صالحاً وقديساً مع أني أحس بأني أكثر رجل خاطئ في العالم. وطبعاً اعترفت بخطاياي التي كنت أذكرها، وأنا على يقين بأن الله سامحني بكل ما اعترفت به رغم أنها اليوم كثيرة جداً. لذا أرجوكم أنتم يا من عرفتموني بأن تصلّوا لأجلي لأني أنا أيضاً، وبكل تواضع، صليت لأجلكم عندما كنت حياً. وأما الآن، وبما أني سأنتقل إلى السماء، فلدي شعور بأن الله سيقول لي: “ماذا تبغي أنت هنا؟” وأما جوابي الوحيد له فهو: “لست مستحقاً يا سيد لهذا المكان، ولكن اعمل بي بمقتضى محبتك”. لذا فأنا لا أعلم ماذا سيحدث بعد ذلك، ولكني أرجو أن تتداركني محبة الله. أتمنى على أبنائي الروحيين أن يحبوا الله الذي هو الكل في الكل كي يؤهلنا أن ندخل كنيسته غير المنظورة. لأنه من هنا، ونحن على هذه الأرض، يجب أن يبدأ جهادنا. سعيت دوماً أن أصلي وأن أقرأ التسابيح الكنسية، الكتاب المقدس وسير قديسينا. فأتمنى أن تعملوا أنتم أيضاً الشيء نفسه.

أرجو جميعكم أن تسامحوني بكل ما أحزنتكم به.

الكاهن المتوحد بورفيريوس

من كافسوكاليفيا في /4-17 تموز1991/  

بعض من الذكريات مع الشيخ بورفيريوس

حاولت بصعوبة أن أكتب إليكم، أنا الحقير، بضعة سطور عن الجد الصغير كما ندعوه نحن معظم أبنائه. فعلت هذا محبة بكم مستقوياً بأقوال ربنا حيث يقول: “بأنه جعل قديسيه عجباً، كما أنه هو عجيب في قديسيه “.

وعلى الرغم من صعوبة هذا العمل، إذ إنني لست لاهوتياً ولا مصنفاً كتابياً موهوباً ولا أديباً أو فقيهاً بالمعاني والأشكال الجوهرية، سأجتهد، وللفائدة، لأنقل ما أعرف عنه عربوناً لمحبتي تجاهه ولمجد ثالوثنا القدوس.

كنت جالساً ذات يوم إلى طاولة في إحدى ساحات قريتي الصغيرة، أتحاور مع اثنين من مواطنيّ الأكبر مني سناً، عندما سمعت لأول مرة عن الأب بورفيريوس. إن الله أظهر أولاً الأب بورفيريوس قديساً، ثم أعلناه نحن الذين سمعناه وعاينّا عجائبه، وهكذا أيضاً سوف تعلنه الكنيسة، لا لشيء سوى لمحبته الكبيرة لله التي ملكت نفسه وقلبه. لقد دلّت طاعته طيلة حياته على حرارة إيمانه وتواضعه العميق، إذ كثيراً ما كان يردد: “الطاعة يا ولدي تعني التواضع”.

أما أنا، كابن روحي للأب بورفيريوس، فقد عرفته لأول وهلة صدفة بواسطة أحدهم، ولكن فيما بعد عرفته أكثر عندما أتيت أثينا لأقدّم امتحاناتي في حقل الطيران. كنت أحاول جاهداً أن ألازمـه حتى  آخر أيامه، أي قبل

رحيله إلى الجبل المقدس حيث رقد. كما كنت أجتهد أن أتشبه به ولو قليلاً.

وهكذا لازمته أولاً في كنيسة القديس جراسيمس في بوليكلينيكي أثينا، ثم في كنيسة القديس نيقولاوس في كاليسيا، ثم فيما بعد في الدير في ميليسي، ثم متنقلاً ما بين مختلف المنازل أو المستشفيات حيث كان يحلّ لإجراء علاجات لمختلف الأمراض التي عاناها بصبر محبةً بالمسيح. وهكذا لم أكن أهمل أية فرصة لألازمه، كما أننا مرات كثيرة ترافقنا في سيارتي قاصدين جهات مختلفة.

كنت أراقبه دوماً كيف كان يصلّي، كيف كان يقبّل الإيقونات، كيف كان يشعل شمعته. كيف كان يعامل كل من يدنو منه، كيف كان يسامح أو يتكلم أو يتمشى أو يكهن. كيف كان يشجعنا ويقوّي إيماننا. وكيف فضّل أخيراً أن يموت في الجبل المقدس هرباً من الضوضاء، في حديقة العذراء التي طالما أحبها واتخذها مرشدة له. وبهذه الوسائل البسيطة مجَّد أبانا السماوي هنا على الأرض.

لذلك مجده المسيح أيضاً بدوره هنا على الأرض بالمحبة الكبيرة التي كان يبديها المؤمنون نحوه. إذ كان يزوره يومياً العشرات بالسيارات، والمئات بالباصات فقط لينالوا البركة. وبالإضافة إلى مجد الأرض مجده الرب أيضاً في السماء. والآن فهو يشفع من هناك مع بقية القديسين من أجل خلاصنا، كما يمدنا بالمعونة عندما نسأله، الأمر الذي اختبرته جيداً إذ إنه لم يرفض لي مطلقاً أي مطلب شرط أن يناسب طبعاً ما هو صالح لخلاصي.

لقد منحه الله موهبتي البصيرة ( أي الرؤيا ) لنقاوة ذهنه والنبوءة ( أي

معرفة المستقبل )، إلى جانب المواهب الأخرى التي كان يستخدمها مراراً، حسبما كان يقول لنا، ليساعد المؤمنين على تقدمهم الروحي، وليحرك حميتهم نحو محبة المسيح وكنيسته.

هذا هو رأيي المتواضع، وبهذا أنصحكم أن تتخذوا كلكم الأب بورفيريوس نصيراً وشفيعاً لدى الله لتنحدر عليكم من العلاء الصالحات التي ننالها عندما نطلبها بمحبة وتواضع كبيرين.

وصية ترك لنا في إحدى رسائله، والتي أوردها لكم لتعلموا كلكم بماذا أوصانا قبل انتقاله عنا بالجسد. ورغم أنها تتضمن إرشادات قليلة، لكنها بالنسبة إلينا نحن أولاده تعني الكثير.

إنه ينصحنا أن نصبح نحن أيضاً أبناء لله، لهذا نجتهد، بقدر الطاقة، أن نحفظ كل ما تعلمناه وعشناه بقربه. وبهذا فقط يبتهج في السماء من حيث يشاهدنا ويساعدنا لمجد الله الآب والابن والروح القدس آمين.

والآن أتابع سرد مختلف القصص الصغيرة منها والكبيرة، والوصايا والحوادث وغيرها، التي بواسطتها يستطيع كل امرئ أن يلمس سمو قداسة الأب الشيخ الموقّر والمغبوط بورفيريوس، وذهنه الصافي مع مختلف مواهبه الأخرى: الأشفية التي صنعها، المساعدة التي قدمها لكل الذين كانوا يزورونه أو كانوا يتصلون به هاتفياً أو كانوا يطلبون شفاعته. هذا وأرجو منه، هو الذي تحرر من الجسد والحائز ملء نعمة الإله المثلث الأقانيم، أن يمنح جميعنا من عليائه ما هو صالح لخلاص نفوسنا.

وهذا نموذج صغير أستقيه من حياته ومن كل ما جرى مع المئات من أبنائه الروحيين من كل سن ورتبة:

ذات يوم كنت أقود سيارتي وإلى جانبي الأب بورفيريوس، وكنت أسأله بتواتر حول مختلف الأمور الروحية أو الحوادث التي كانت تجري معه. فطلبت منه أن يقصّ عليّ ماذا جرى له مع السيد باسيليوس الذي أتى إلى قريتي لاهثاً خائفاً. أجابني: “ما الذي ذكّرك به الآن”؟ ثم بدأ يروي لي ما جرى:

لست أدري كيف استطاع بعضهم أخذي لأعلمهم أين يوجد ماء، مع أني لم أكن أرغب أبداً بمرافقتهم. إن أحد معارفك المدعو السيد ميخائيل، وهو ابن أخ السيد باسيليوس، كان قد دعاني يوماً إلى حقله لأشير له في أية جهة يوجد ماء. ومع أني أوصيته بألاّ يخبر أحداً بهذا الأمر، إلاّ أنه لم ينفّذ الوصية بل نقله لأحد أخصائه المقربين الذي كان يملك هو أيضاً حقلاً في الموضع نفسه. وبينما كنا نجتاز حقل السيد باسيليوس لنذهب إلى حقل السيد ميخائيل، ناداني هذا الأخير عن بعد وقال لي:

– هيا بنا يا أبتي لتجد لي أنا أيضاً ماء في حقلي. ثم أردف: الويل لك يا أبتي! أمسموح لك وأنت الكاهن أن تهتم بأشياء كهذه مستهزئاً بالناس؟ لو علم المطران بهذه الأمور التي تفعل لحلق لك لحيتك”.

– ولكن أي شر أفعل؟ ها قد توسل إليّ السيد ميخائيل أن أريه أين يوجد ماء، وبما أن الرب قد منحني هذه الموهبة فلم أرفض.  

– ولكن كيف تستطيع أن تتفوه بهذا يا أبتي؟ كيف تدّعي معرفة أين يوجد ماء؟

– نعم أنت على حق. أما بالنسبة لعيوننا المادية التي نملك فإننا لا نرى بها إلاّ بعداً قليلاً فقط، وأما بالنسبة لعيون النفس، الكائنة وراء عيوننا المادية، فإنك تستطيع أن ترى بها ما وراء هذا الجبل وما تحت الأرض وما فوق في السماء، لا بل أبعد من هذا أيضاً”.

وعند سماع السيد ميخائيل هذا الكلام ارتاب بي وغيّر رأيه نحوي. عندئذ أظهر لي الرب أن السيد باسيليوس كان قد أجرى عمليتين جراحيتين، فسألته حالا: “ألم تجر أنت عمليتيتن جراحيتين الأولى في الجهة اليمنى والأخرى أسفل جهة الشمال” مشيراً من فوق ثيابه إلى موضع العمليتين.

وبوحي من الشيطان، أنكر هذا الذي اكتشفته فيه وأعلن أنه لم يجر عمليات كهذه. حينئذ تساءلت متعجباً وقلت: “لا يتكلم روح الله كذباً”. وبحركة قوية جذبته من قميصه وحاولت رفعه مريداً أن أبيّن له افتراءه. وللحال اعترته رعدة خفيفة، وبدأ يقرّ بخطيئته بخوف معلناً أنه بالفعل كان قد أجرى عمليتين جراحيتين الأولى كانت بسبب التهاب الزائدة، والأخرى بسبب أحد أمراض المعدة الخطرة.

وبعد أن ندم على خطيئته، كان يطلب مني باستمرار أن أسامحه وهو منذهل من كشف الحقيقة. ورغم كل ما حدث بقي السيد ميخائيل مرتاباً فيّ. غير أن هذا لم يمنعنا من متابعة عملنا، تاركين السيد باسيليوس مرتعباً راكضاً إلى قريتك ليخبر بالتفصيل مالذي حصل له.

عندئذ قلت: “أتعرف يا أبي أني في ذلك اليوم كنت أنا أيضاً بين أولئك الذين أخبرهم السيد باسيليوس حادثته. وإن لم أكن مخطئاً فإن هذا حدث سنة /1954/ أو /1955/، إذ كنت جالساً وقتئذ إلى طاولة صغيرة في إحدى ساحات القرية، عندما أتى لاهثاً خائفاً وقائلاً: “لقد كشف لي أحد الآباء كل مجريات حياتي. الأمر الذي لا يعرفه أحد آخر سواي”.

وعند سؤالي الأب بورفيريوس إذا ما وجد ماء أجابني: “تجولت في الحقل كله، فلم أجد ماء”. ومن ثم ذهب بي السيد ميخائيل إلى منطقة أخرى، حيث وجدت ماء غزيراً إلا أنه كان مالحاً غير صالح للشرب”.

–  كيف عرفت يا أبي أنه مالح؟

–  لقد ذقته، ذهنياً، فوجدته مالحاً.

خلال أيامي الأولى في أثينا، ذهبت متهيأً للاعتراف إلى كنيسة القديس جراسيمس حيث كان الأب بورفيريوس. وكنت قد كتبت خطاياي على ورقة صغيرة راغباً أن ينصحني كيف يمكنني أن أصبح إنساناً أفضل. وعندما رأيته في الكنيسة، وبالتحديد عند باب الهيكل الأيمن، قبلني فرحاً. وبدون أن أطلعه على رغبتي ناداني وطفق يرشدني قائلاً: “يجب يا بنيّ أن تكون دوماً صالحاً، متسامحاً، محباً، مستقيماً في أعمالك، جدّياً، مصلياً، مجاهداً”. بقيت صامتاً لأن أقواله جاءت جواباً على ما أردت سؤاله إياه.    

قال لي أحد الأخوة : “في /4-6-1967/ أُخبرت أثناء عملي أن أختي مريضة مرضاً خطيراً، ولكن الحقيقة أنها كانت قد ماتت. فمررت، قبل أن أذهب إلى المستشفى حيث كانت، بكنيسة القديس جراسيمس لأنال بركة الأب بورفيريوس. رأيته داخل الكنيسة فسألته: “كيف ترى حالة أختي يا أبي؟ ” فأجابني: “اعلم يا بنيّ إن المسيح يقيم الأموات”. ودون أن أعي مغزى كلماته قلت في داخلي: “ما هذا الذي يقول؟ إني أعتبره قديساً ولذا سألته عن أختي أفيجيبني بهذا؟! “

وخرجت دون أن أقول له شيئاً آخر. ولما وصلت المستشفى علمت بموت أختي، وساعتها فهمت معنى كلام الأب.

قال لي الأب بورفيريوس ذات يوم موضحاً لي كيفية قطع أهوائنا: “لدينا يا ولدي حديقة غُرست في إحدى جوانبها أزهار نضرة وفي الجهة الأخرى نمت أشواك ضارة، يسقيهما صنبور ماء واحد. متى حوّلنا الماء جهة الأزهار مانعين إيها عن الأشواك أينعت الأولى ويبست الثانية. هكذا يجب أن تكون أعمالنا نحن أيضاً، إذ لدى اعتيادنا عمل الصلاح، سوف تزول عاداتنا السيئة شيئاً فشيئاً، وسيختفي الإنسان العتيق الكائن داخلنا ولن يعود يشغلنا. ولكي نقتني الفضيلة يلزمنا جهاد وصلاة غير منقطعة.     

قصدنا ( الأب بورفيروس وأنا ) ذات يوم أحد أولاده الروحيين القاطن شقة في إحدى البنايات. وقبل وصولنا صادفنا إنساناً أعمى، فحياه الأب بورفيريوس. وبعد أن جزناه سألني:

– هل تعلم لماذا هذا الإنسان أعمى؟

– كلا.

– عُمي لأنه بنى هذه البناية التي ترى، فسرقه بعض الصناع الذين كانوا يبنونها معه وأحزنوه، فكانت النتيجة أن فقد بصره.

وعند دخولنا المصعد قال لي مبتسماً: “كم نحن محظوظون يا ولدي لأننا لا نملك الكثير”.

قصّ عليّ ما حدث لأحد الكهنة مرة قائلاً: “ذهب كاهن ذات صباح ليشتري تفاحاً من أحد البقالين الذي لم يكن قد باع منه شيئاً. وطبعاً كان يوجد في تلك الناحية بقالون آخرون يبيعون الزبائن ما لديهم من التفاح. فحياه الكاهن وسأله أن يعطيه كيساً ليضع فيه بعضاً منه، فأعطاه وتركه يختار ما يشاء بمفرده، وعندما أخذ الكمية التي أرادها، كان قد تجمّع كثير من الزبائن لدرجة أن البقال لم يعد يستطيع تلبيتهم. وبعد ساعات قليلة كان قد باع كل ما لديه تقريباً ولم يعد يعلم كيف يشكر الكاهن”. فسألته: “ولماذا حصل هذا؟” فأجابني: “عندما يكون الإنسان رجل الله، فإن النعمة تتبعه باستمرار وتحصل عندئذ عجائب مختلفة”.

مرة أخرى سألته: “كيف ومتى ذهب إلى الجبل المقدس؟” فقال: “ذهبت عندما كنت في سن الثانية عشرة متمثلاً بسيرة القديس يوحنا الكوخي. في العشرين من عمري أصبحت كاهناً، وفي الحادية والعشرين أباً روحياً. وحيث لم يكن لي خبرة للفترة الأولى، كنت أضع قوانين صارمة للرهبان وللعلمانيين الآتين للاعتراف، وكثير من هؤلاء كانوا يعودون بعد وقت قصير قائلين: “لم نستطع يا أبانا أن نطبّق القوانين التي فرضتها علينا”. وبعد أن تعمقت خبرتي أدركت أن تلك القوانين التي فرضتها في البداية كانت صارمة. أتعلم، لقد كنت متحمساً للغاية، إذ عندما ذهبت مرة إلى البيت ورأيت أبي يقرأ إنجيلاً مفسَّراً، بادرت إلى تمزيقه مع أني لم أكن على حق، ولذا يجب أن لا نكون متزمتين”.

ومرة أخرى سألته: “كيف يجب أن تكون محبتنا نحو الله؟” فقال لي: “يجب أن تكون محبتنا نحو الله يا ولدي عظيمة جداً لا يشاركه فيها أمر آخر. وهاك مثلاً على ذلك: إنسان يوجد بداخله بطارية ذات طاقة محدودة، فعندما تُنفَق هذه الطاقة  في أشياء مختلفة غير محبة الله، فإنها تصبح قليلة أو عديمة النفع. ولكن عندما نوجه كل طاقاتنا نحو الله عندئذ تكون محبتنا له عظيمة. وأسوق لك أيضاً مثلاً آخر: أُغرمت إحدى الفتيات بشاب. فكانت تقوم كل ليلة لتقفز من النافذة خفية عن أهلها، وتذهب عارية القدمين، متوغلة في الحقول المشوكة لتلاقي حبيبها مدمية القدمين. وعند عودتها إلى البيت كان ذهنها دوماً معه متفكرة به. هكذا أنت أيضاً يجب أن تعطي كل قوتك لله يا ولدي، وأن يكون ذهنك دوماً معه لأنه هكذا يسر ويرتضي”.

سألته مرة قائلاً: “كيف نستطيع يا أبي أن نحب المسيح؟” فأجابني: “محبتنا للمسيح يا ولدي تتحقق تتحقق على النحو التالي: ندعو إنساننا الداخلي ونقف به أمام الله، موجهين ذهننا نحوه، ومجتهدين أن نتلمس حبه وعجائبه عند رؤيتنا جمال الطبيعة: الأشجار، الأزهار، الطيور الداجنة، النحل، البحر، الأسماك، النجوم، القمر، الشمس… وبمحبتنا لهذه المخلوقات تنمو محبتنا نحو الخالق وتصبح حقيقية. ضرورية هي محبة المخلوقات، ولكن محبة أخينا الإنسان ضرورية أكثر، لذلك يجب أن نزور المستشفيات، السجون، المياتم، دار الشيوخ …الخ . إن أعمالاً كهذه تجعل محبتنا صادقة”.

يستحيل أن يُصوَّر الموت إلاّ هكذا: “لنفترض أننا نوجد داخل إحدى الغرف، فلدى فتحنا الباب فإننا سنوجد تلقائياً في غرفة أخرى. هكذا نحن أيضاً، إن كنا هنا مع المسيح فهناك أيضاً سنكون معه”.

كنت قد واجهت بعض الصعوبات مع أحد المسؤولين وعندما أخبرت الأب بهذا قال لي: “أطع يا ولدي واصبر، لا تجادل بل صلِّ”. وعندما أتيته ثانية متذمراً من السبب ذاته قال لي: “ألم أقل لك أن تطيع؟ أتعلم ماذا تعني الطاعة ؟ الطاعة تعني التواضع هل فهمت هذا؟”.

– فهمته يا أبي.

– كلا لم تفهمه بعد. اسمع لتعي ماذا تعني الطاعة: كان شيخ فظاً جداً، حسبما تصف أنت مسؤولك، يعيش في أحد الأديار. فأتى ذاك الشيخ عدد كبير من الرهبان ليعيشوا تحت طاعته، فلم يستطيعوا أن يقيموا معه أكثر من أسبوع تقريباً. وعندما علمت أنا بهذا الأمر، قلت لنفسي لأذهب أنا أيضاً وأجرب. وفعلاً ذهبت إلى قلايته وتحدثنا حول الهدف الذي أتيت من أجله. فقال لي بعد قليل: “حسناً، اذهب الآن من حيث أتيت” مشيراً إلى النافذة. وبدون أن أفكر بشيء آخر ذهبت وخرجت من حيث أشار لي. أفهمت الآن ماذا تعني الطاعة؟

– نعم.

ثم تابع الأب قائلاً: “لقد أقمت معه أكثـر من بقية الرهبان الآخريـن،

وكنت أخدمه فرحاً، وبعد فترة تركته من تلقاء ذاتي. هذه هي الطاعة. والآن عليك أن تتصرف هكذا مع مسؤولك.

– نعم يا أبي، ثم أخذت بركته ومضيت.

ذهبنا ذات مرة سوية إلى الدير(الذي كان مزمعاً أن يشيده) سنة /1978/ فقال لي الأب بورفيريوس: “أمسك هذا الحبل واجذبه إلى أسفل، لأني أريد أن أرى كيف يجب أن تكون قلالي الدير عند شروق الشمس”. فأمسكت بالحبل وذهبت إلى المكان الذي أشار إليه الأب متمتماً : “أي دير يقول إنه سوف يبنيه وهو في هذا السن ويعاني من أمراض كثيرة”. فأجابني للحال: “حسناً سوف تراه”. وفعلاً رأيت بعد فترة كيف كان العمل في بناء الدير يقترب إلى نهايته. وأما الآن فإني أقول لنفسي: “كم كنت على حق حينئذ يا أبتي لأنك أنت رأيته وأما أنا …!

قال لي أحد الإخوة: “كنا قد انتهينا من القداس الإلهي في كنيسة القديس نيقولاوس في كاليسيا، وذهبنا في طريق ضيق يؤدي إلى حيث توجد السيارة لنعود إلى أثينا. وكالعادة كان يسير أمامي متمهلاً وكنت أنا خلفه أتبعه. عندئذ فكرت أن أخطو حيث يخطو الشيخ مصلياً في داخلي: “أرجو أن تؤهلني يا إلهي أن أتبع خطوات حياة أبينا الروحية كما أتبع الآن خطواته، وأن أتشبه به قدر المستطاع”. وتتبعت لعدة دقائق تحركاته نفسها، وبعد لحظة توقف الأب فتوقفت أنا كذلك. فالتفت إلى الوراء وتأملني مبتسماً، وباركني راسماً علامة الصليب لأنه أدرك كل ما فعلت وما قلت… لتكن صلواته معنا آمين.

قال لي ذات يوم: “انتبه ألاّ تكون مبالغاً بل واقعياً. يجب أن يحصل في حياتنا من وقت لآخر اعتراف عام، لأن بعض الجراح النفسية أوالحوادث الخطرة تخلق لنا انحرافات صحية. لا نقل في الاعتراف خطايانا فقط، بل مختلف الأفكار أيضاً : كالخوف، والحزن، والفرح، والانزعاج… التي تحصل من مختلف الوقائع كالهزات والموت والزواج وقلة الإيمان…”.

قال لي مرة أخرى: “كن صالحاً، مطيعاً، صبوراً، عديم الانزعاج، لا تكن مرهف الحساسية، كن مستقيماً في عملك، ولا تتكلم هناك كثيراً عن الروحيات إن لم يسألوك، بل كن مثالاً لهم متشبهاً بالمسيح”.

دخل الأب بورفيريوس بعد إحدى النزهات بيت أحد أولاده الروحيين، وقبل أن يلج المنزل قال له الأخ: “أرجو منك يا أبي أن تكشف إحدى الحقائق لزوجتي لتقترب من المسيح أكثر”. فالتفت الأب وقال له: “إنك لا تعلم ماذا تطلب”. فأجاب الأخ: “لماذا؟!” فقال الأب: “لأنني إن استجبت لطلبك سأجعل حالتها تزداد سوءاً، سأسبب لها ضغطاً وثقلاً. غير أني سأصنع لها شيئاً آخر يفيدها أكثر”.

– ما هو يا أبي؟

– سأصلي لها لتتجه نحو الروحيات وهكذا ستستفيد كثيراً جداً.

– ليكن مباركاً.

ولكي يرضي الأب الأخ قال لزوجته وهم يتناولون شيئاً من المرطبات:

– ألديك إحدى صور قريتك يا سيدة؟

– نعم.

– أحضريها لي لأراها.

فأحضرت له إحدى الصور التي تُظهر قريتها محاطة بأشجار كثيرة من الجهتين. فقال لها الأب:

– قولي لي أيوجد هنا ماء؟ وأشار من فوق الصورة إلى المكان الذي يقصد.

– نعم يا أبي يوجد ماء.

– وهناك أيوجد ماء؟ وأشار إلى منطقة أخرى فوق الصورة.

– نعم يوجد ماء هناك.

– وهنا فوق ألا يوجد ماء؟ مشيراً إلى جهة ثالثة من القرية.

– نعم وهناك أيضاً فوق يوجد ماء.

– حسناً يا ابنتي، خذي الصورة. إن قريتك جميلة جداً.

فسرّ الأخ بداخله كثيراً للحقائق التي أظهرها الأب لزوجته، محققاً بذلك رغبته التي كانت لديه عندما دخلوا البيت.

قال لي ذات مرة: “لا تصلِّ كي يشفيك الله من مختلف الأمراض، بل كن في سلام، صابراً، مداوماً على الصلاة العقلية (صلاة يسوع) فتستفيد أكثر”.

طلب منه أخوان أن يقول لهما كلمة منفعة فقال: “ماذا أقول لكما؟ اعملا الصلاح ولا تدعا الشيطان يختطفكما”. فضحك الأخوان لقوله وأما هو فأكد مردداً: “نعم، لنعمل الصلاح دوماً لأنه الويل لنا إن عملنا خلاف ذلك”.

وقال لأخ آخر: “اقرأ بتواتر لينير الله ذهنك. أتعلم؟ إني كنت أطالع كثيراً، ولكي لا يزعجني أحد، كنت أصعد إلى أعلى إحدى الأشجار بواسطة سلم صنعته بنفسي، وحالما كنت أصل إلى فوق كنت أسحبه، وهناك كنت أمضي ساعات في المطالعة”.

كنا قد ذهبنا بصحبة الأب بورفيريوس لزيارة أحد الأديار في كريت. فالتقى هناك أحد الرهبان الذي كان قد عاش معه فترة في جبل آثوس. وبما أنهما كانا فرحين بلقائهما، فقد بدأ يخبر الواحد الآخر كم كانا سعيدين في آثوس وما العجائب التي كانت تحدث للشيوخ. وأتذّكر أن الأب وصف لهذا الراهب كيف كان يُختطف أولئك الشيوخ على السحب عندما كانت تقضي الحاجة أحياناً أن ينتقلوا إلى دير آخر. “كم نحن بعيدون عنهم حالياً!” قال الأب متنهداً”.

أعطاه أحدهم ذات يوم مالاً لسد إحدى حاجات الدير، ولكنه أراد، بالمقابل، أن يقول له الأب كلمة حول إحدى الصعوبات التي كانت تعترضه، أو أن يميزه بالمعاملة عن الآخرين. ولكن الأب لم يكن قادراً وقتئذ على محادثته مما جعل الأخ يدمدم في سره قائلاً أثناء ذهابه: “لقد أعطيته مالاً كذا مقداره، أفيبخل عليّ بكلمة يقولها لي؟!” وللحال ناداه الأب إلى الداخل قائلاً له: “انتبه يا فلان لما سأقوله لك، لم أطلب منك مالاً أو أي شيء آخر. أنت بإرادتك دفعته لي عندما أتيت، فلا يصح أن تفكر هكذا. واعلم أني إن احتفظت بهذه الأموال إنما لأستخدمها لحاجة الدير”. فصمت الأخ مبهوتاً.    

عندما عاد أحد الإخوة، ذات يوم أحد، من الكنيسة علم بأن زوجته وأولاده لم يذهبوا إليها. فتضايق كثيراً لهذا الإهمال ولكنه لم يتكلم. وعندما التقى الأب بورفيريوس بعد بضعة أيام لم يقل له شيئاً البتة عن هذا الموضوع، وإنما حدثه عن خطاياه الأخرى. فقال له الشيخ: “حسناً لكل ما قلت لي، ولكن دعني أقص عليك كيف تصرفت يوم الأحد كي لا تعاود فعله”.

– ماذا يا أبي؟

– حالما دخلت بيتك غضبت وتضايقت لأن عائلتك لم تذهب إلى الكنيسة.

– وماذا عليّ أن أفعل يا أبي؟

– عندما تصادف أموراً كهذه ابق هادئاً ومردداً بداخلك يا ربي يسوع المسيح ارحمني، محافظاً على البركة التي نلتها من الكنيسة، لأنه بانزعاجك هذا سوف تؤلمك أمعاؤك. ألا تؤلمك الآن؟

– نعم إنها تؤلمني. ثم طلب منه أن يسامحه.

كان يقول مرة لأحد الإخوة: “انتبه واستعد جيداً قبل أن تتناول الأسرار الإلهية. كن ممسكاً، صالحاً، محباً للرب كثيراً، لا تنقطع عن المناولة أكثر من خمسة عشر يوماً”. وأما عن هذا الأمر الأخير، فكان ينصح  كل شخص أن يحاسب نفسه متصرفاً بما يوافقها.

قال لي ذات يوم: “اجتهد أن تقرأ وتصلي وترتل بوضوح، وأن يُسمع حتى الحرف الأخير من كل كلمة تقولها، لأنه هكذا تعتاد على الصحيح، وأن تكون متواضعاً في كل شيء بالأفكار والأقوال والأفعال. مهما تكن تعباً لا تهمل أبداً تلاوة صلاة النوم قبل رقادك”.

“اجتهد ألاّ تظهر سيئاتك الداخلية، بل بالحري افتح باب قلبك ليلجه النور الذي هو المسيح، وبذا تضمحل الظلمة الكائنة فيك”.

وعند قولي للأب بورفيريوس بأني لا أحفظ كل ما أقرأ أجابني: “اعلم يا ولدي أن كل الأشياء تُخزَن في ذاكرتنا التي سوف يكشفها المسيح يوم الدينونة. ليكن الرب دوماً نصب عينيك، لأنه يرى ويراقب كل شيء إذ إن آلته التصويرية لا تبلى”.

Leave a comment