الصّعود وطفولة القلب

الصّعود وطفولة القلب

الأرشمندريت توما بيطار




باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

يا إخوة، الّذي صار إنسانًا وسلك كإنسان وصُلب في الجسد هو نفسه قام من بين الأموات في الجسد. يسوع إنسان إلى الأبد. طبعًا، هو ابن الله، ولا تشويش بين طبيعته الإلهيّة وطبيعته البشريّة، ولا اختلاط، بل وحدة. الرّبّ يسوع المسيح اتّخذنا في البشرة، وصار إنسانًا لا بمعنى أنّه لبسنا من الخارج، بل اتّحد بنا.

من هنا، أهمّيّة الصّعود الإلهيّ أنّ يسوع، الّذي قام في الجسد، قد صعد إلى السّماء في الجسد، وجلس عن يمين الله الآب في الجسد أيضًا. وبجلوسه عن يمين الله الآب، كرّس دخول الإنسان إلى المجد الإلهيّ، وجعله أرفع من كلّ الخلائق. الإنسان، في يسوع المسيح، قد تمجّد! الإنسان، في يسوع المسيح، قد تألّه! الإنسان، في يسوع المسيح، قد رُفع، حتّى إلى عشرة الآب السّماويّ الدّاخليّة! هذه عطيّة الله. وإذا كان التّلاميذ قد فرحوا جدًّا، فإنّهم، في الحقيقة، فرحوا لا فقط لأنّهم رأَوا يسوع قائمًا من الموت في الجسد، بل لسبب لا يُدرَك إلاّ بالرّوح. يسوع كان قد قال لهم: “خير لكم أن أنطلق، لأنّي إن لم أنطلق، فلا يأتيكم المعزّي”. فرحوا بيسوع، عندما رأَوه فيما بينهم؛ وفرحوا بيسوع، أيضًا، عندما انطلق عنهم إلى السّماء. خبروا فرحًا في الرّوح. لذلك، باتوا، مع صعود الرّبّ يسوع، يتشوّقون إلى نزول روح الرّبّ عليهم: “وأنا أرسل إليكم موعد أبي؛ فامكثوا أنتم في مدينة أورشليم إلى أن تُلبَسوا قوّةً من العلاء”. لم يعطهم يسوع تفاصيل كثيرة. قال لهم إنّ ما وعدهم به سوف يعطيهم إيّاه. وقال لهم أن يمكثوا في أورشليم. هذا كلّ شيء. حبيب المسيح لا يحتاج إلى تفاصيل كثيرة في علاقته بيسوع. حبيب المسيح يقبل ما يعطيه إيّاه يسوع، ولا يطلب أكثر. لذلك، أقام الرّسل في أورشليم. وحيثما أقاموا جاءهم روح الرّبّ. روح الرّبّ عارف بكلّ شيء. وهو يأتي إلى القلوب المهيَّأة لاقتباله حيثما كانت. الموضوع ليس موضوع مكان، ولا موضوع زمان. الموضوع هو موضوع قلب، موضوع تسليم، موضوع إيمان. التّلاميذ بما فعلوا، صاروا كالأطفال. اقتبلوا كلّ شيء بلا سؤال. قبل ذلك، كانوا يسألون. وبعدما جاءهم يسوع، لم تعد هناك حاجة إلى سؤال. الإنسان، قبل أن يتلقّى النّعمة، يسأل كثيرًا، لأنّه يظنّ أنّه بذلك يفهم بصورة أفضل. تلاميذ يسوع سألوا كثيرًا وقليلاً، وقد أبانت الأحداث أنّهم لم يفهموا شيئًا. فقط، عندما جاءهم يسوع، عندما أعلن ذاته لهم، فهموا. فهموا، لا بنور عقولهم، بل بنور وجه الرّبّ. حتّى الكتب المقدّسة الّتي تعاطَوها لم يفهموا ما ورد فيها في شأن يسوع. الكتب المقدّسة، أي العهد القديم، أُعطي لإسرائيل لسببين: أولاً، أُعطوا وصيّة حتّى يسلكوا فيها. كان عليهم أن يتعلّموا الوصيّة كلّ يوم، ويعلّموها لأولادهم، ويحفظوها من جيل إلى جيل، ويسلكوا في الأمانة إلى مجيء المسيح – مسيح الرّبّ. إذًا، الوصيّة أوّلاً. هذا نصيبهم، الوصيّة كانت واضحة. كانت لهم تساؤلاتهم، وكانت لهم مساعيهم، لكنّ الله لا يطالب أحدًا بشيء ما لم يعطه أن يكون هذا الشّيء واضحًا لديه.
من جهة ثانية، في ما يختصّ بمسيح الرّبّ، كان مستحيلاً على اليهود أن يفهموا، لأنّ يسوع هو الّذي يعطي روح الفهم. من هنا القول الوارد في إنجيل اليوم: “هذا هو الكلام الّذي كلّمتكم به وأنا بعد معكم إنّه ينبغي أن يتمّ جميع ما هو مكتوب عنّي في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذٍ، فتح أذهانهم ليفهموا الكتب”. “فتح أذهانهم ليفهموا الكتب”! أذهانهم كانت، قبل ذلك، مغلقة. ومتى كان الذّهن مغلقًا؛ فمهما حاول الإنسان، فإنّه لا يستطيع أن يفهم! إذًا، كان المطلوب من اليهود أن يسلكوا في الوصيّة، أن يكونوا أمناء لله، أن يهيّئوا أنفسهم لمجيء المسيح، ولو لم يفهموا كيف ولا متى يأتي المسيح. هناك أمور، في الكتاب المقدّس، لا تُفهم بالتّخمين، نحتاج فيها إلى روح الفهم الّذي يعطيه الرّبّ الإله. لذلك، نقف أمامها من دون أن نفهمها، ونقبل ألاّ نفهم، لأنّنا نعرف أنّ الرّبّ الإله يعطينا الفهم في أوانه. المهمّ أن يحفظ المرء الوصايا أوّلاً وأخيرًا. والحقيقة أنّ الإنسان، متى حفظ وصايا الله، فإنّه يتّضع لدرجة أنّه يقرّ معها بأنّه لا يفهم، ويقبل ذلك بفرح، وينتظر أن يعطيه الرّبّ الإله أن يفهم الباقي في الوقت المناسب.
اليهود صلبوا يسوع، لا لأنّهم لم يتبيّنوا صورة المسيح في الكتب المقدّسة، بل لأنّهم لم يكونوا أمناء من جهة الوصايا! لهذا السّبب، صلبوه! عدم أمانتهم أفرز صورة عن المسيح في أذهانهم ليست أبدًا الصّورة الحقّ لمسيح الرّبّ. المسيح الّذي كان اليهود ينتظرونه كان من ابتداعهم. ولأنّهم لم يسلكوا في الوصايا بأمانة، جاءت صورة المسيح اختراعًا من أهوائهم. كلّ واحد منّا، في الحقيقة، قد يخترع صورة عن الله ليست مطابقة للحقيقة، إذا لم يسلك بأمانة وتواضع قلب في وصايا الله. الوصيّة، إذا سلكنا فيها بأمانة، تجعلنا كالأطفال، وتجعلنا نقبل، وتجعلنا، في آن معًا، مستعدّين وقادرين، بنعمة الله، على أن نتبيّن المسيح، متى كشف نفسه لنا؛ لأنّ الوصيّة الإلهيّة، إن اقتبلناها وسلكنا فيها، فإنّ نعمةً تقيم فينا وتجعلنا نتبيّن المسيح ونميّز المسيح، متى جاء، ومتى كشف نفسه. روح التّمييز من أين يأتي؟! – من الأمانة وتواضع القلب. الرّبّ الإله هو الّذي يعطي التّمييز. الّذين قلوبهم كقلوب الأطفال، غير سابحة في الأهواء، هؤلاء يعرفون يسوع متى تراءى لهم، تمامًا كآدم قبل السّقوط، عندما كان في حال طفوليّة، وأخرج الرّبّ الإله من ضلعه حوّاء. عندما صحا من سباته، ورأى حوّاء، عرفها، وقال: “هذه عظم من عظمي، ولحم من لحمي”. عرفها! كيف عرفها ولم يكن قد شاهدها من قبل؟! – عرفها بالرّوح، بطفوليّته، لأنّ الّذي أبدع حوّاء هو الّذي كان مقيمًا فيه وهو في حال الطّفوليّة. هنا، التّلاميذ عادوا، بنعمة الله وبالإرادة الطّيّبة، إلى هذه الحالة الفردوسيّة. صار بإمكانهم أن يميّزوا لأنّ الرّوح أعطاهم، وهو يعطينا في كلّ حين.
المهمّ أبدًا أن نسلك بثبات في الأمانة، ولا نطلب من الله شيئًا، ولا نخطّط لشيء بشأن الآتي، ولا نطلب شيئًا على الإطلاق، فقط وجه الله، وكلّ شيء يأتي في أوانه. حاجتنا فقط إلى واحد. الحاجة هي إلى واحد. حاجتنا إلى يسوع، حاجتنا إلى روح الرّبّ. التّفاصيل ليست مهمّة في شيء. التّفاصيل الّتي تنفعنا يكشفها لنا الرّبّ الإله في حينها. وما لا ينفعنا لا حاجة لنا إلى أن نهتمّ له. فلنجعل، إذًا، قِبلتَنا يسوع الّذي صعد إلى السّماء، والّذي نزل في الرّوح القدس ليقيم معنا إلى الأبد. في الرّوح القدس هو معنا: “ها أنا ذا معكم كلّ الأيّام، إلى منتهى الدّهر”. إذًا، هو حاجتنا، ولا حاجة لنا إلى أيّ شيء آخر. على العكس، كلّما اهتمّ الإنسان بالتّفاصيل وأعمل عقله وسعى لأن ينظّم أموره وحياته في نور عقله، تسبّب، من حيث يدري ولا يدري، بعرقلة عمل الله في حياته وحياة الآخرين. المطلوب أن نسلك في طفولة القلب، في هذا التّسليم. لا نعرف ما هو الآتي، ولا نهتمّ بما مضى. نهتمّ فقط بأن تكون عيوننا مسمّرة على وجه السّيّد. هذا يكفي، لأنّ لنا إلهًا أحبّنا إلى المنتهى حتّى جعلنا فيه وأعطانا أن يقيم فينا، وأن يكون أقرب إلينا من ذواتنا. يسوع مسيحُ الرّبّ نَفَسُ قلوبنا، تمجّد إلى الدّهر. آمين.

عظة في الخميس 28 أيّار 2009 حول لو24: 36- 53.

Leave a comment