التقليد أو التسليم

 

التقليد أو التسليم

الأب جورج عطية

 

 

 


“وأعرفكم أيها الأخوة بالبشارة اتي بشرتكم بها وتسلمّتوها وتقومون فيها، وبها أيضاً تخلصون… فإنني سلمت إليكم في الأول ما تسلمته أنا أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب وأنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث…” (1كور15: 3 – 5).
“نوصيكم أيها الأخوة بإسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنبوا كلّ أخّ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التقليد (التسليم) الذي تسلمه منا” (2تس3: 6).
“وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيّ فهذا افعلوا وإله السلام يكون معكم” (فيل 4: 9).

 

 

التقليد أو التسليم من الناحية اللغوية

تشتق كلمة “Παραδοσις باراذوسيس” اليونانية من فعل “δοσω” “أسلم” الذي يعني فاعلية النقل أو الإرسال بعيداً من يد إلى يد، ومن فم إلى فم، أو التسليم المباشر من شخص لآخر. أما موضوع هذا النقل فيمكن أن يكون كلمات قيلت وأعمالاً شوهدت أو عوائد عمل بها. وهكذا نجد أن كلمة Παραδοσις التي ترجمت في العربية بكلمة تقليد، لا تعني تقليد الأقدمين أي مجاراتهم ومحاكاتهم، بل هو الاستلام منهم بالتسلسل الوديعةَ التي سُلِّمَت إليهم. على هذا الأساس تصبح كلمة “تسليم” أصحّ وأقرب بكثير إلى المعنى الأساسي من كلمة تقليد. وإن شئنا الاحتفاظ بكلمة “تقليد” فيجب فهمها على أساس اشتقاقها من فعل قلّد بمعنى قلّده السيف أي جعل حمالته في عنقه، أو قلّده العمل: فوض أمره إليه.

التقليد أو التسليم من الناحية العقائدية

 

إذا بحثنا عن تعريف للتقليد في الكتب اللاهوتية الأرثوذكسية فسنجد تعابير عدة تسلّط عليه الضوء من زوايا مختلفة هناك: “النقل الشفهي للحقّ المعلَن” أو “الذاكرة الحيّة للكنيسة” أو “حياة الروح في الكنيسة”. التعريف الأول يشدّد على أساس (مصدر) التقليد الذي هو تعليم الرسل القديسين المنقول في البداية شفاهاً. الثاني يؤكد ملاصقة التقليد العضوية لحياة الكنيسة على الأرض وتطوره معها عبر العصور. الثالث يظهر المبدأ الفاعل في المحافظة على جوهر التقليد والمساعدة على استمرار حيويته وهو الروح القدس العامل في الكنيسة.

وعلى وجه العموم فالتقليد أو التسليم هو الإعلان الإلهي أو البشارة المسيحية التي تسلمتها الكنيسة بالروح القدس، كتابات مقدسة وصلوات، وفنونا، ومناهج حياة. ولنعد الآن إلى البداية لنحاول أن نتعرف على التقليد منذ نشأته.

 

 

تسليم إعلانات الله في العهد القديم

 

إن كان التقليد هو النقل الشفهي للحق المعلَن، فهذا يعني أنه كان هناك تقليد أو تسليم منذ أقدم الأزمان، لأنه يرافق بصورة حتمية إعلانات الله للبشر: المخفيات للرب إلهنا والمعلنات لنا ولبنينا إلى الأبد لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة (تثنية29: 29). فالمعلنات أي ما أعلنه الرب من مجد وأفعال ومشيئة وشرائع ووصايا ليست فقط للجيل الذي تمّ الإعلان فيه بل ولجميع الأجيال التي تعقبه. وجميع رحال الله هم مسؤولون عن تسليم ما تسلموه من إعلانات إلهية لآخرين كي يحفظوها ويعملوا بها: “وتخبر ابنك في ذلك اليوم قائلاً من أجل ما صنع إليّ الرب حين أخرجني من مصر، ويكون لك علامة على يدك وتذكاراً بين عينيك لكي تكون شريعة الرب في فمك” (خروج13: 9).

التقليد إذن بالنسبة للإعلان الإلهي هو نقل هذا الإعلان أفقياً وعمودياً، أي للمعاصرين وهؤلاء بدورهم إلى أبنائهم بالتسلسل من جيل إلى جيل. وهذا النقل قد تمّ أولاً بصورة شفهية وحياتية “ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، وقصّها على أولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم واربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك” (تثنية6: 6-9).
وأكبر دليل على هذا هو أن ما أعلنه الله منذ بدء الخليقة حتى عهد موسى قد تمّ نقله بالتسليم الشفوي: “لأني (الله) عرفته (إبراهيم) لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا براً وعدلاً لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به”.
أما التوراة فهي ذاتها تسليم، وقد كانت جزءاً من التسليم الشفهي حتى أواخر عهد موسى حين أصبحت تسليماً مكتوباً. يطبق عليه ما يطبق على التسليم الشفهي من مسؤولية في حفظه وتطبيق تعاليمه: “وكتب موسى هذا التوراة وسلّمها للكهنة بني لاوى حاملي تابوت عهد الرب ولجميع شيوخ إسرائيل. وأمرهم موسى قائلاً في نهاية السبه السنين في ميعاد سنة الأبراء في عيد المظال… . إجمع الشعب والرجال والنساء والأطفال والغريب الذي في أبوابك لكي يسمعوا أو يتعلموا أن يتقوا الرب إلهكم ويحرصوا أن يعلموا بجميع كلمات هذه التوراة”. (تثنية31: 9-12).

 

 

التقليد (التسليم) في العهد الجديد

 

نشأت كنيسة العهد الجديد وانتشرت، كما هو واضح من شهادة أسفار العهد الجديد، بفعل الكرازة الشفهية في جهات عديدة، وقبل أن تكتب هذه الأسفار: “وقال لهم إذهبوا في الأرض كلها، واعلنوا البشارة للخليقة كلها… فذهب أولئك يبشرون في كل مكان والرب يعينهم…” (مرقس16: 15-19). هذا يعني، أنه كما حدث في العهد القديم، فإن التسليم الشفهي في العهد الجديد، وهو البشارة ذاتها المنقولة شفاها، وجد قبل الكتاب المقدس، لا بل قبل الكنيسة نفسها، إن جاز التعبير، حيث كان هو الواسطة المباشرة لتأسيسها وامتدادها.

الرب يسوع المسيح لم يكتب شيئاً، بل كانت شخصيته غير المنفصلة عن كلامه وأعماله الإعلان الأعظم عن الله، ولذلك كان الإيمان قائماً بالدرجة الأولى على رؤيته وسماعه: “تعال وانظر” (يو1: 46) ثم فيما بعد بقبول شهادة الذين رأوه وسمعوه: “الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به” (1يو1: 3).
التقليد نشأ قبل الكتاب، لأن الله أراد بحكمته أن يجعل حقائق الإعلان الإلهي تعطى شفاها لكي يسهل قبولها وتمثلها، لأنه لو أعطيت حقائق الإيمان منذ البداية كتابة لما انتشرت بهذه السهولة والقوة: “الإيمان بالسماع بينما السماع بكلمة الله” (رو10: 17).
المخلص نفسه أمر رسله أن يكرزوا شفاها: “إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدّوهم بإسم الآب والإبن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به” (متى 28: 19 – 20). ولكن بمعونة الروح القدس الذي سيلبسهم قوة من الأعالي (لوقا24: 49) وهو روح الحق الذي يمكث معهم ويكون فيهم (يو14: 17) ويعلّمهم كلّ شيء ويذكرهم بكل ما قاله يسوع لهم (يو14: 26).
هكذا لم تكن كتابات الرسل وحدها بإلهام الروح القدس بل أيضاً كلامهم المنطوق: “وكلامي وكرازتي لو يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة” (1كو2: 4)”… ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس” (1كو2: 12 – 13).
هذه الفكرة يؤكدها كون الكنائس الأولى قد تأسست بناء على تبشير الرسل لها بفم ولسان.

ٍ

بعد ذلك حين كان الرسل يتركونها ليبشروا في مكان آخر كانوا يرسلون إليها رسائل مكتوبة إذا اقتضت الحاجة. الرسائل نفسها تظهر بوضوح أن الرسل ليكتبوا سوى قسم ضئيل مما يريدون إعلام الكنائس به، مثلاً يوحنا الإنجيلي يعلن: “إذا كان لي كثير لأكتب إليكم لم أرد أن يكون بورق وحبر لأني أرجو أن آتي إليكم وأتكلم فماً لفم لكي يكون فرحنا كاملاً (2يو1: 13) أو (3يو1: 13) أما بولس فيظهر أن أموراً كثيرة لا ترتب إلا بحضوره الشخصي: “وأما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتبها” (1كو11: 34). هذه القضية صريحة أيضاً في الأناجيل. يوحنا الحبيب يقول في إنجيله: “وآيات أخرى صنع يسوع لم تكتب في هذا الكتاب” (يو20: 30) وهو ينهيه بهذه الكلمات: “وأشياء أخرى صنعها يسوع إن كتبت واحدة فواحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة” (يو21: 25).

ث
م

إن هذا التقليد المأخوذ عن الرسل مباشرة يسمى التقليد الرسولي الذي منه انبثق ما يسمى بالتقليد الكنسي. لقد عاصر هذا الأمر القديس ايريناوس (القرن الثاني) ومن أجل ذلك كتب: “الرسل القديسون استلموا تقليدهم من المخلص، بينما الكنيسة استلمته من الرسل” بمعنى أن الرسل سلموا الوديعة للأساقفة الأول، وهؤلاء بدورهم للذين بعدهم وهكذا بالتسلسل، إلى هذا اليوم. المغبوط أغسطينوس الذي عاش في القرن الرابع يثبت هذا أيضاً: “كل التقليدات المحفوظة في كل الأرض أما هي متسلمة من الرسل أو من المجامع المسكونة”. التقليد الكنسي إذن هو في علاقة جد وثيقة مع التقليد الرسولي ويكمل أحدهما الآخر. ولذا فعلامة التقليد الحق هي التواصل (عدم الانقطاع).
بناءً على هذا الأساس يمكن القول بأن التقليد هو البشارة المكروز بها من الرسل إلى يومنا هذا، ولأجل ذلك كما يقول أوريجينس (185 – 255): “ويجب الإعتقاد فقط بذلك الحق الإيماني الذي لا يبتعد بشيء عن التقليد الرسولي والكنسي.

التقليد والكنيسة

المسيح قد أتى ليؤسس كنيسة (متى16: 18) لأن الكنيسة هي إمتداد وغاية وقمة ملء كل عمل المسيح الخلاصي (أفسس1: 20 – 23 و 3: 20 – 21). وما الكنيسة سوى جسد المسيح (كولو1: 24) الذي يضم الأعضاء الذين آمنوا بالبشارة وتابوا فصارت لهم شركة مع الآب بالإبن في الروح القدس (1يو1: 3 و 3: 24) بواسطة الأسرار الإلهية المؤسسة من الرب يسوع كالمعمودية (متى28: 19 – 20) والميرون (1ع2: 33) وسر الشكر (متى26: 26 – 27) والمعطاة بالتسليم الكنسي. وفي الواقع فكل التسليمات الكنسية (التقليد) بما فيها الكتاب المقدس هي ثمرة لحياة الروح القدس في الكنيسة. ولذلك لا يمكن أن تفهم وتعاش خارج الكنيسة التي هي عمود الحق وقاعدته (1تيمو1: 15) والتي فيها يعمل الروح القدس ويوهب (1كو12: 28). من أجل ذلك يقول القديس ايريناوس: “حيث تكون الكنيسة هناك يكون روح الله”. ثم يتابع: “الهراطقة بما أنهم ليسوا في الكنيسة، وعلى العكس لأنهم غير موجودين في الكنيسة ليسوا في التقليد ولا يعيشون في التيار الحي لروح الله. 
بين الكنيسة والتقليد إذن علاقة ديالكتيكية متبادلة، فالكنيسة هي التي تحفظ التقليد وتسهر على نقائه وحيويته، بينما التقليد يقوى الكنيسة إذ يشدها إلى تعليم وحياة المسيح ورسله وقديسيه، فيربطها بالمسيح الحاضر أبداً، موّحداً أعضاءها مع رأسهم، بالإيمان والمحبة والأسرار. وطالما بقيت الكنيسة فالتقليد باق. ولأن المخلص وعد الرسل بأنه سيبقى معهم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر (متى28: 20) “له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور”. (أفسس3: 21) فكنيسته الحية باقية. وبما أن المخلص طلب إلى إلى الرسل تعليم جميع الأمم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به (متى28: 19) بإرشاد روح الحق الماكث مع الكنيسة إلى الأبد (يو14: 16 – 17) فقد حفظت الكنيسة البشارة دون انثلام واستمر تسليمها في كل المسكونة بالأساقفة المقامين من الرسل مثل تيموثاوس وتيطس تلميذي الرسول بولس، وأقليمس الروماني الذي عرف شخصياً القديس بطرس وبولس والذي كان عنده التقليد الحي بمشاهدة العين، وبوليكاربوس الذي كان يعرف أشخاصاً كثيرين ممن رأوا المسيح، ووعظ دائماً بالأمور التي تعلمها من الرسل…. وهؤلاء سلّموها بدورهم إلى خلفائهم وهكذا…..

التقليد (التسليم) والكتاب المقدس

في الكنيسة الأولى لم تكن هناك ثنائية البتة بين ما كان يحمله الرسل وتلاميذهم من بشارة شفهية حياتية وبين ما سجلوه منها كتابة، فيما بعد، بحسب الإحتياجات الرعائية للكنائس، بصيغة رسائل وأناجيل وأعمال رسل الخ… فكل هذا مع أسفار العهد القديم كان محور وتعليم وحياة الكنيسة التي كانت تتسلمه وتسلّمه بأمانة بمعونة الروح القدس. وحين حاول الهراطقة التلاعب بهذه الأسفار، حذفاً أو إضافة، حددت الكنيسة بلسان آبائها ومجامعها المحلية أسفار العهدين القديم والجديد القانونية، معتمدة في هذا على التسليم الذي عندها مكتوباًكان أم شفهياً. 
ولم تكتف الكنيسة بكتابة أسفار العهد الجديد، بل تابعت تسجيل بشارتها الحية بلسان رعاتها وآبائها وفنانيها القديسين، ومجامعها المحلية والمسكونية، بمختلف الوسائل المنسجمة مع ظروفها عبر العصور المتلاحقة التي عاشتها كالكتابة نثراً أو شعراً، أو الفنون المختلفة كالموسيقى أو البناء أو التصوير, كذلك لم تتوقف البشارة عن الإنتقال بالتسليم الشفوي كالعظات والتعليم والصلوات والأسرار والحياة المشتركة والقدوة الحية، على نمط الكنيسة الأول. كما يشهد بذلك سفر أعمال الرسل: “وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات” (1ع2: 41). وبالطبع فأهم ما أعطته حياة الشركة في الكنيسة هو المسيح نفسه ومواهب الروح القدس، عبر الأسرار الإلهية بالتسليم. فهل من الممكن، بعد هذا، الحديث عن الكتاب المقدس والتسليم وكأنهما شيئان منفصلان مختلفان، أم أن هناك تسليماً واحداً حافظت عليه الكنيسة الواحدة وعاشته، بمختلف وسائل التعبير والحياة؟. والحقيقة أن الثنائية بين الكتاب المقدس والتسليم لم تطرح، كقضية لاهوتية إلا في القرن السادس عشر حين رفض المحتجون (البروتستانت) على كنيستهم الغربية، تقليدها بسبب عدد من التجاوزات والإنحرافات، كصكوك الغفران، فأعلنوا وجوب الإعتماد على الكتاب المقدس وحده من خلال شعارهم اللاهوتي الشهير: “Sola Scriptura”. وكان جواب لاهوتيي الحركة الباباوية المضادة للإصلاح البروتستانتي هو وجوب الإعتماد على “الكتاب المقدس والتسليم”. 
وبكل تأكيد فالصراع غير الموضوعي بين من حاول أن يطمس حقيقة التسليم ويشوهها وبين من حاول أن يؤكدها ويرفعها لكي يصبح للتسليم كيان خاص إلى جانب الكتاب المقدس هو الذي أدى إلى بلورة هذه الفكرة في أذهان الكثيرين، وهو أنه يوجد مصدران للإيمان المسيحي هما “الكتاب المقدس والتقليد”، أو أنه لا يوجد سوى الكتاب المقدس وحده. بينما الحقيقة الموضوعية هي أنه يوجد مصدر واحد هو التسليم الذي عبّرت الأسفار المقدسة الموجودة عن جزء أساسي ومهم منه، كما يشهد بهذا كتّاب هذه الأسفار: “إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثيوفيلس” (لو1: 1 – 4). تلك الأمور المتيقنة عن الكنيسة إذن، والمسلّمة منذ البدء من الرسل، والتي هي الأساس والمصدر هي ما نسميه بالتسليم. وبالطبع فبعد كتابة أسفار العهد الجديد صارت هذه أيضاً جزءاً مكتوباً من هذا التسليم ذاته ولهذا لا يمكننا أن نكتفي بالكتاب المقدس وحده، أو نعزله عن تسليم الكنيسة ككل، أو أن ننتزعه من إطار حياتها، وهي جسد المسيح وحاملة مواهب الروح القدس، فنغرّبه لكي نفسره مزاجياً مدّعين مساعدة الروح القدس لنا، ونحن إنما نعكس مفاهيم عقلنا المنتفخ المحدود وأهوائنا البشرية. 
وللتشديد على الإرتباط العضوي بين الكتاب المقدس والتقليد نلفت النظر إلى نقطتين عمليتين تلقيان بعض الضوء على أهميته باقي التسليم بالنسبة للكتاب المقدس: 
1. في التقليد أمور كثيرة تفيدنا حياتياً وروحياً لا توجد في الكتاب الإلهي يحضنا على التمسك بها الكتاب نفسه: “فاثبتوا إذن أيها الأخوة وتمسكوا بالتقليدات التي تعلمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا” (2تس2: 15). القديس يوحنا الذهبي الفم يعلق على هذا المقطع في تفسيره لهذه الرسالة فيقول: “من هنا يتضح بأن الرسول بولس لم يعط الكل كتابة بل أعطى أشياء كثيرة بطريقة شفهية. والأشياء المكتوبة وغير المكتوبة هي مع بعضهاقابلة للإيمان بها بحيث نعتبر أن تقليد الكنيسة مستحق للإعتقاد به”. في مكان آخر نجد الرسول بولس يمدح الكورنثيين من أجل محافظتهم على التقليد “فأمدحكم أيها الأخوة على أنكم تتذكرون كل شيء لي وتحفظون التقليدات كما سلمتها إليكم (1كو11: 2) (أنظر تس3: 6، رو6: 17، 1كو11: 23، 15: 3 – 5 الخ…). ويوصي تيموثاوس أن يحفظ الوديعة (1تيمو6: 20). القديس باسيليوس الكبير يوضح لنا ماهية هذه التقليدات فيقول: بعض العقائد والكرازات قد حفظ في الكنيسة كتابة، والبعض الآخر عندنا إياه من تقليد الرسل إذ انتقل سرياً، والإثنان عندهما نفس المعطيات، ونفس السلطة من أجل التقوى”… . إلى أن يقول: “إذا حاولنا أن نحذف العوائد غير المكتوبة لأنها ليست بذات أهمية لا ننتبه بأننا نسيء إلى البشارة في أهم أركانها ونجعل الكرازة الإنجيلية إسماً لغير مسمى”… . ثم يعطي أمثلة كثيرة على هذه التقليدات منها رسم إشارة الصليب، التوجه نحو الشرق حين الصلاة، كلمات استدعاء الروح القدس حين تحويل الخبز والخمر في سر الشكر، مباركة ماء المعمودية وزيت المسحة والمعمد نفسه، تغطيس الإنسان على ثلاث مرات الح… . القديس يوحنا الدمشقي يذكر أمثلة أخرى كرقاد والدة الإله وحضور الرسل في تلك اللحظة المجيدة. أغسطينوس المغبوط يذكر عماد الأطفال الخ… .
2. التقليد يساعدنا على فهم الكتاب المقدس بصورة صحيحة. وذلك لأنه يمكننا أن نسترشد: 
أ – بالتعليم القويم المحفوظ في التقليد، (كالعقائد المصاغة من قبل المجامع المسكونية) لإقتبال حقائق إيمانية – يعلنها الكتاب – لا يمكن إدراكها أو التعبير عنها بشرياً، خصوصاً بإعتمادنا المجرد على عقلنا الفردي. 
ب – بالتفاسير الكثيرة لأسفار عديدة من الكتاب، والتي حفظها التقليد عن آباء قديسين، بنوا معرفتهم لا على مهارة شخصية في التحليل والشرح، بل على تمثلهم لتعليم الكنيسة المتوارث منذ البدء وعلى خبرة حياة روحية عميقة مع الله. 
صفوة القول أن التقليد من وجهة نظر أرثوذكسية يفسر الكتاب، كما أنه يكمل بعض نواح عملية فيه مثل الناحية الطقسية والقانون الكنسي. ولكن من الناحية العقائدية لم يثبت حتى الآن أي تكميل للكتاب المقدس من قبل التقليد، ونعني بهذا أن التقليد لم يضف أية عقيدة إلى ما ذكر منها في الكتاب المقدس. وما العبارات العقائدية الجديدة التي وردت في المجامع المسكونية أو عند الآباء القديسين سوى توضيح، أو تحديد لمفاهيم قضايا إيمانية أعلنها الكتاب بطريقة ير منهجية، وذلك لقطع الطريق أمام المبتدعين. أما الكتاب فيكما بدوره محتوى التقليد ويفسر لا بل يحكم على صحته. وهكذا يحفظ التسليم ككل الإعلان الإلهي ويساعد على جعله في التاريخ فاعلاً ومحققاً.

منابع التقليد

يشكل التقليد الإلهي والرسولي الرصيد العام لكل إيمان الكنائس الأولى، الذي بقي أساساً لدستور إيمان الكنيسة الجامعة كلها. ولقد ذكرنا سابقاً أن قسماً منه، وهو كتاب العهد الجديد، سجّل كتابةً في زمن الرسل بإلهام الروح القدس. بينما بقي القسم الآخر منتقلاً شفهياً أو بطريقة عفوية سرية. ثم بدأ يسجَّل بدوره تدريجياً بطرق مختلفة. إذ مرّ بعد الفترة الرسولية، في القرون الثمانية الأولى، بحالة بلورة وصياغة صائراً مع الكتاب المقدس معيناً لا ينضب لحياة الكنيسة الإلهية في الزمن. وفيما يلي المصادر التي يمكننا أن نجد فيها هذا التقليد:

1. دساتير الإيمان: وهي شروحات قديمة مختصرة للإيمان مبنيّة على أساس كتابات الرسل وتقليدهم، كانت تُستعمَل في الكنيسة الأولى من أجل التعليم أو حين المعمودية. وقد كان لكل كنيسة محلية في البداية دستور خاص، والخلاف بين هذه الدساتير كان في الشكل لا في المضمون. ثم بدأت هذه الدساتير تأخذ بالتدريج شكلاً واحداً، إلى أن تحدد دستور إيمان واحد لكل الكنائس في المجمعَين المسكونيَين الأول (325) والثاني (381).
2. القوانين الرسولية الخمس والثمانون: هذه القوانين لم يكتبها الرسل أنفسهم، لكنها تحتوي على ترتيبات كنائسية مأخوذة عنهم.
3. التحديدات العقائدية والقوانين الكنائسية للمجامع المسكونية السبع، والمجامع المكانية التسع.
4. كتب الخدم الطقسية: نستطيع أن نجد فيها تعليم الكنيسة مبسَّطاً في صلوات وتراتيل، كما أنها تتطرق إلى مختلف مظاهر حياة الكنيسة الدينية والإجتماعية.
5. سير الشهداء: أهم ما يعنينا في هذه السير هو اعترافات إيمان الشهداء قبل استشهادهم.
6. تاريخ الكنيسة: لقد كتب مؤلِّفون قدماء كثر عن الأحداث التي لفتت انتباههم في مجرى حياة الكنيسة على الأرض. ما يهمّنا في هذا المجال بصورة خاصة تاريخ الهرطقات والأسباب التي أدت إلى عقد المجامع وبالتالي صياغة العقائد.
7. كتابات الآباء القديسين: وهي تراث ضخم ومتنوّع ذو قيمة روحية عالية، كتبه عدد كبير من رجالات الكنيسة الذين استخدمهم الروح القدس لقيادتها عبر مختلف عصورها.
8. الآثار المسيحية: ويقصَد بها الأعمال الفنية القديمة المعبّرة عن تقليد الكنيسة من عمارة وموسيقى وأيقونات…. .
تشدد الكنيسة الأرثوذكية بصورة خاصة على أهمية: 1) التحديدات العقائدية للمجامع المسكونية السبع، 2) كتب الخدم الطقسية، 3) كتابات الآباء القديسين.

حيوية التقليد

الواقع أن الكنيسة ومنذ البداية، لم تحتفظ بتقليدها الرسولي كتراثٍ جامد بل استعملته ليس فقط كقاعدة للإيمان ولتفسير الكتاب المقدس بل أيضاً كوسيلة بنّاءة تساعدها في مجابهة الصعوبات التي تعترضها، والتأقلم في ما يتعلّق بحياتها الخارجية مع الزمان والمكان بحسب تلك السلطة المعطاة لها من السيد والمسماة التدبير.
هكذا استطاعت، عامة، اتخاذ المواقف التي تثبّت قدرتها على التصرف بحسب مواهبها الممنوحة، وظهر تقليدها حياً نابعاً من تمخّضها ومعاناتها من أجل تطابق إيمانها مع ترتيباتها الخارجية كالطقوس والقوانين الكنسية. لهذا يمكن القول أنّ التقليد لم يتوقّف عند موت آخر رسول، ولا عند انتهاء آخر مجمع مسكوني، بل استمرت الكنيسة في تمثّل تقليدها القديم وعيشه، مطوِّرة إياه بحسب احتياجاتها وظروفها، ولكن دون أن تمسّ الجوهر الإلهي فيه. لذلك مع تشديدنا على أهمية الفترة الرسولية وما تلاها في زمن المجامع المسكونية من بلورة لعقائد الكنيسة وقوانينها، نستطيع القول أنّ التقليد لم يجمد بعد هذه الفترة ولا يجب أن يجمد. لأنه ليس فقط حقٌ لكل مسيحي أن يحيا ويعبّر بطريقة عصرية، بل هو واجب أن يكون له دور رئيسي في تطوير المجتمع الذي يحيا فيه نحو الأفضل. هذا يحمّل الكنيسة كلها رسالة مجابهة العصر بطرق تتلاءم مع متطلباته، مجيبة عن مشاكله وتساؤلاته إنطلاقاً من الحقائق الإيمانية المحفوظة عندها.
في القرون الثمانية الأولى استطاعت الكنيسة الجامعة التغلّب على الهرطقات والشقاقات التي انتشرت في ذلك الزمن معلنة عقائدها الصحيحة عبر المجامع المسكونية، وكذلك أن تنظّم حياتها وإدارتها وصلواتها بشكل يتناسب مع واقع تلك العصور. وبعد توقف آخر مجمع مسكوني (787)، وكذلك بعد الانشقاق الكبير في القرن الحادي عشر تابعت الكنيسة الشرقية الطريق ذاته الذي سارت عليه الكنيسة منذ البداية رغم الظروف القاسية التي مرّت على أقطارها. ولهذا استطاعت كنيستنا الأرثوذكسية الحفاظ على نقاوة التعليم المأخوذ عن المسيح والرسل، وعلى الوحدة غير المنثلمة لكنائسها (رغم استقلالها الإداري). وكذلك واصلت التوسّع في المجال الطقسي والشروحات الكتابية والترتيبات القانونية معتمدة سلطتها في التدبير كصمام أمان، ليس فقط مع التقليد المحفوظ، بل وحتى مع الإنجيل نفسه (مثال القَسَم في المحاكم والطلاق). أما بالنسبة للعقائد فلقد استمرت الكنيسة الشرقية في عيش وشرح وتعميق وتقديم الإعلان الإلهي بطريقة تنسجم مع الأسئلة الجديدة التي نشأت في سيرتها الحياتية. هكذا ثبّتت الكنيسة عدد الأسرار السبع، كذلك عقدت عدة مجامع أرثوذكسية للنظر في قضايا إيمانية نشأ خلاف حولها، مثل قضية السكينة والقوى الإلهية غير المخلوقة. أما في الظروف الصعبة التي كانت تمنع عقد مثل هذه المجامع فقد كان يكفي إجماع آراء الكنائس الأرثوذكسية لاقتبال حق إيماني أو حياتي على أساس موثوق من الكتاب المقدس والتقليد الشريف. كما ظهرت عدة اعترافات إيمان تشرح وتحدد العقيدة الأرثوذكسية في العصور التي تعرضت فيها الكنيسة الشرقية لضغط شديد من الكاثوليك والبروتستانت. مثل إعتراف إيمان المطران بطرس موڤيلا الذي قدمه في مجمع پاش (1642)، ووافقت عليه سائر الكنائس الأرثوذكسية.
نتيجة لما سبق يجدر بنا أن نشدد من جديد على أن الذي يتغير في التقليد ليس جوهر الإيمان ولا الشريعة الأدبية اللذين لا يعرفان زيادة أو نقصاناً، بل أوضاع الكنيسة الخارجية المتصلة بأمور زمنية. وحتى هذه يجب أن تتبدل أو تتغير بموجب سلطة شرعية عليا كي يبقى كل شيء منسجماً مع إرادة الله والجماعة الواحدة الممثلة بسائر الكنائس الأرثوذكسية.

العوامل المساعدة على استمرار حيوية التقليد

عديدة هي العوامل التي تساعد على تطور التقليد المتفاعل مع الحياة. والذي نعني به بصورة خاصة التمثل المتعمق أكثر فأكثر للحقائق الإلهية وعيشها بطريقة متناسبة مع تطور الزمن. فبالإضافة إلى دور الله العامل بروحه القدس في الكنيسة والذي ينير دربها كي تستطيع أن تحفظ لتعليمِها حيويةَ وصحةَ محتواه هناك التفاعل البشري والممثل بالعوامل الآتية:

1. الشعب الحسن العبادة: من خلال الاشتراك الصحيح في حياة الكنيسة (صلوات، أصوام، أعياد، إقتبال الأسرار الإلهية، قراءات روحية، محبة القريب الخ…) تحصل إمكانية اللقاء الحي مع الله وبالتالي غنى الفهم المتجدد للتعاليم الإلهية. هذا الاختبار الروحي للبعض ينعكس بدوره على باقي أعضاء الجسد الواحد فيقوي استعدادهم الداخلي لتقبّل إعلان الله وعيشه بطريقة أقوى وأعمق. وطبعاً معرفة الشعب المؤمن هي غالباً من النوع الحياتي لا النظري والتي تتطور عند البعض إلى درجة من الاستنارة الروحية تؤهّلهم لفهم الحق الإلهي كيانياً. هؤلاء يعرفون عن عالم الله غير القابل للإدراك أكثر بما لا يقاس من لاهوتي متعلم. القديس أنطونيوس الكبير وغيره كثر، أمثلة صارخة عن “جهالة الله الأحكم من الناس” (1كور1: 25). حتى لقد استطاع بعض العائشين بالصلاة مع الله إبراز تعاليم لم تكن واضحة كفاية في الإعلان الإلهي، كمثال على ذلك “قوى الله وأفعاله غير المخلوقة”.
صحيح أنه في المجامع كان بعض الأساقفة محاطين باللاهوتيين المتعلّمين الذين ساعدوا في صياغة مقررات المجمع في عبارات. إلا أن مضمونها عِيش وبُلوِر أولاً بين أبناء الشعب المؤمن وخاصة القديسين منهم الذين رأوا روحانياً بعين الإيمان، ولهذا دافعوا عنه لدرجة قبول الموت والإضطهاد. دور اللاهوتي كان أن يصيغها بطريقة أقرب ما تكون للإدراك من قبل العقل.
2. الاضطهادات والهرطقات: الاضطهادات الموجَّهة ضد المؤمنين محاولات لإبادة جسد المسيح، أما الهرطقات فهي تمزيق له من الداخل. ومع ذلك فلهذه ولتلك كما للمهاجمات التي تحصل من قبل بعض الفلاسفة أو المتعلمين دور إيجابي في إثارة حماس أبناء الكنيسة وتنقية إيمانهم، ودفعهم للتضحية والشهادة الأكثر عمقاً وواقعية. وكما هو معروف فإن أهم الأسباب التي أدت إلى عقد المجامع المسكونية يرجع إلى الرغبة في استئصال سموم الهرطقات التي تفشت في ذلك الزمان.
3. المدارس اللاهوتية: ترجع المدارس القديمة كمدرستي الإسكندرية وإنطاكية إلى القرون الأولى للمسيحية، وقد أنشئت لغرض الوعظ والتعليم، ثم تطوّرت مع الزمن لتأخذ طابعاً منهجياً لاهوتياً. ولم يكن معلمو هذه المدارس حافظين وناقلين لتقليد تلك الفترات فحسب، بل كانوا أيضاً يشددون على أهمية بعض التعاليم، أو يلفتون الانتباه لروعة بعضها الآخر. لا بل يمكن القول أنهم هم الذين كانوا يؤمّنون غالباً التعابير الضرورية للمناقشات اللاهوتية التي كانت تدور على مستوى الشعب كله، وبالتالي يساعدون على تعميق وصياغة التعاليم المسيحية قبل أن تحدد نهائياً في المجامع. وحتى الآن لا تزال المدارس اللاهوتية بمثابة المخابر التي فيها تناقش وتتحضر وتتشكل مواد المعرفة المسيحية المنفتحة على الحياة المعاصرة. وذلك نظراً للعلاقة الوثيقة بين الشعب الحسن العبادة وبين هذه المدارس.
4. المجامع المسكونية: للمجامع المسكونية الدور الأكثر أهمية، لأنها الصوت الناطق للكنيسة وسلطتها العليا المعبّرة عن تعليمها العقائدي الأصيل، ولهذا لا يمكن أن تتضارب قراراتها مع تقليد الكنيسة وإلا تسقط، كما حدث بالنسبة لعدة مجامع غير شرعية. في جواب البطاركة الأرثوذكس على كتاب البابا بيوس التاسع سنة 1848 نقرأ: “عندنا لم يستطع أحد لا البطاركة ولا المجامع أن يدخِلوا أموراً جديدة، لأن المدافِع عن الديانة هو جسم الكنيسة أي الشعب نفسه، الذي يريد أن تكون ديانته أبدياً غير متغيرة كما آباؤه أيضاً”.
5. المجامع المحلية: هي السلطة التنفيذية العليا للكنيسة المحلية، التي تدافع عن حقائق الإيمان. إذ باستطاعتها أن تفرز كلّ مَن ينحرف عن استقامة العقيدة إكليريكياً كان أم علمانياً، وأن تسهر على جعل تعليم الكنيسة وتقليدها حياً معاشا.

الرد على رفض الفرق البروتستانتية للتسليم

يتلخّص تعليم الكنائس البروتستانتية بشأن الكتاب المقدس بما يلي: “أن كلام الله المتضمن في العهد القديم والجديد هو القانون الوحيد الإلهي المعصوم للإيمان والعمل” ويعنون بهذا:

1 – أن أسفار العهدين هي كلام الله المكتوب بإلهام الروح القدس، وأنها لذلك معصومة من الغلط ولها سلطان إلهي.
2 – أنها تتضمن كل ما أعلنه الله دستوراً دائماً للكنيسة وللإيمان والعمل.
3 – أنها واضحة حتى يقدر الشعب أن يفهم منها كلّ ما هو ضروري للخلاص باستعمال الوسائط المعهودة وبمعونة الروح القدس دون احتياج إلى مفسّر أرضي معصوم.
معنى هذا الكلام الرفض الضمني للتسليم وتجريده من أيّة سلطة أو فائدة، وهو ما يتعارض مع تشديد الكتاب المقدس على أهمية التسليم كأساس ومصدر، بحسب ما أوضحنا في الفصل الماضي. وكذلك مع سلطان الكنيسة المؤسسة من الرب يسوع والمقادة من الروح القدس في أن تحدد التعليم القويم أي قواعد الإيمان والعمل حين تدعو الحاجة.
وبخصوص الكنيسة، فلأن البروتستانت يعتقدون بعصمة الكتاب وحده، وأنه كافٍ ليفسّر نفسه بنفسه، يعتقدون بمبدأ تفوق الكتاب على الكنيسة. ويبررون ذلك بأنه لو قلنا العكس لخفضنا من قيمة كلمة الله أمام الكنيسة أي من قيمة الله أمام البشر. وللجواب على الفكرة الأخيرة نقول أنه لا مجال للحديث عن مفاضلة من هذا النوع بين الكتاب والكنيسة ولا حتى للحديث عن الكتاب خارج الكنيسة، لأن ما أعلن عنه الكتاب يحيا في إطار شركة جسد المسيح أي في الكنيسة، ولأن الكنيسة هي السلطة التي انتَخَبت بواسطة آبائها ومجامعها المحلية أسفار العهد الجديد من بين كثرة من الكتب المتداولة في ذلك الحين، مؤكدة صدق فحواها وحقيقة كتابتها مباشرة من الرسل والإنجيليين، والسلطة التي سهرت دائماً على نقاء التعليم واستقامته، لأن الروح الذي فيها هو بالضبط الروح الذي نطق بالأنبياء والرسل وألهم كتّاب العهد الجديد. وهنا نذكّر بأن المسيح أتى لكي يؤسس كنيسة، وبالتالي فالكتاب جُعل من أجل الكنيسة، وليس العكس.
ومن الواضح أن البروتستانت رفضوا سلطة الكنيسة الذي يتكلم فيها الروح، لأنهم كانوا في صراع مع كنيستهم الكاثوليكية التي أعثرتهم بتجاوزاتها وتسلّطها. ولاضطرارهم أن يقبلوا بشهادة كنيسة القرون الأولى عن قانونية الأسفار المقدسة، فيتحججون بأنهم لم يأخذوا قانون الكتاب المقدس من كنيسة رومية التي كانت في القرن السادس عشر ولا المعاصرة لهم، وبأن وظيفة الكنيسة بشأن الأسفار المقدسة تنحصر في المحافظة عليها والشهادة لها ولا تمتد إلى العصمة في تفسيرها. ولكن المشكلة الكبرى هنا أن البروتستانت يحددون سلطة الكنيسة بالطريقة التي تلائمهم ويرفضون منها ما لا يعجبهم كما يجعلون سلطانها وعصمتها يسريان على القرون الأولى، ثم يخفّان أو يتوقفان بالنسبة للقرون التي تلتها بحجة ضلالها أو انحرافها. فإذا قبلنا بوجهة النظر هذه، أي أن كنيسة المسيح ككل قد ضلت بعد القرون الأولى، ألا يعني هذا أن أبواب الجحيم قد قويت عليها (متى16: 18)؟ أو أن المسيح قد تركها وتخلى عنها (متى28: 20)؟ أو أنها لم تعد عمود الحق وقاعدته (1تيمو3: 15)؟ أو أن الروح القدس قد عجز عن إرشادها ومساعدتها (يو14: 17 و 16: 13)؟ أو أن الله قد سحب من الكنيسة السلطة التي أعطيت لها (متى28: 18 – 20 و يو20: 21-23، وأفسس3: 21)؟ ولكي نتخلّص من تناقض هذه الأسئلة الواضح مع إعلان الكتاب الذي يحتكم إليه البروتستانت ألا يكون من الأجدى أن نسأل: ألا توجد كنائس أخرى على الأرض غير كنيسة الغرب البابوية؟ وأليس من الممكن أن تكون من بين هذه الكنائس من حافظت على استقامة رأي الكنيسة الأولى؟ ولعلّ من أسباب تركيز المصلِحين البروتستانت المتطرف على الكتاب وحده، هو أعمال كنيسة القرون الوسطى الغربية له، ومنعها الشعب عملياً من قراءته، لسماحها بطباعته فقط في اللغة اللاتينية التي لا يفهمها. وفي هذا اختلفت أيضاً الكنيسة البابوية عن كنيسة الشرق الأرثوذكسية التي كانت دائماً تحبّذ وتشجّع شعبها على قراءة الكتاب المقدس. والدليل أنه كان عادة، أول كتاب يترجمه مرسلوها إلى لغات الشعوب المتنصِّرة حديثاً.
أما من جهة وضوح الكتاب المقدس وقدرة الشعب على فهم كلّ ما هو ضروري لخلاصه بمعونة الروح القدس، فالكتاب المقدس يشهد أن في أسفاره أشياء عسرة الفهم يحرّفها غير العلماء وغير الثابتين، ويوجد في الكتاب الكثير من الأشياء العسرة الفهم، ترجع ليس فقط إلى صعوبة أساليب بعض كتّابه، وإلى الجهل بالبيئات والظروف التي كتبت أسفاره بل وإلى السمو اللامتناهي للحقائق الإلهية التي يعلنها. فمن البديهي أن يقول أي قارىء للكتاب المقدس مع الخصى الحبشي عندما سأله الشماس فيليبس: “ألعلك تفهم ما أنت تقرأ، فقال كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد” (أع8: 31).
بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية، التسليم القويم أو تعليم الرسل والمعبَّر عنه عبر العصور بمختلف الأساليب المتلائمة مع احتياجات المؤمنين هو مفسر الكتاب ومكمله، وبالتالي فهو مرشد كل راع وكل مؤمن، إلى معرفة أسرار الخلاص بمعونة النعمة الإلهية التي تعطى عبر الحياة (حياة الإيمان والجهاد) في الكنيسة الحاملة لمواهب الروح القدس.
وأكبر برهان على عدم كفاية الكتاب المقدس لتفسير نفسه بنفسه، وأن الإنسان يخطىء فعلاً في فهمه دون إرشاد سليم ودون حياة روحانية كنسيّة أصيلة، هو خلاف الفرق البروتستانتية فيما بينها في تفسيره، ليس فقط على أمور ثانوية، بل على قضايا أساسية تتعلق بالخلاص مثل التعيين المسبق وغيره. هذا عدا عن الهرطقات الخطيرة التي وقعت فيها بعض الفرق والتي يصفها البروتستانت أنفسهم بالبدع كالسوسينيين والمورمون وشهود يهوه الخ… كما أن اضطرار الفرق البروتستانتية لاتخاذ دساتير إيمان منذ البداية وهو ما يتعارض مع مبدأ الحرية في تفسير الكتاب المقدس لهو دليل آخر على أن الكتاب بحاجة لمرشد في التفسير، وإلا لما استمرت هذه الفرق ذاتها في الوجود. وهو ما يحدث فعلاً، حين يبطل التشدد من فرقة ما في المحافظة على دساتير إيمانها، فتعطي الحرية أكثر للأفراد في التفسير فتنشأ فروع جديدة لهذه الفرقة، وهو ما يفسر التوالد غير المتوقف لفرق وشيع جديدة عند البروتستانت.

 

 


Leave a comment