القطيع الصّغير

القطيع الصّغير

الأرشمندريت توما بيطار




باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

“لا تخف أيّها القطيع الصّغير”. الرّبّ يسوع يطمئن خرافه. لكنّه، في آن معًا، يعطيهم نعمة لكي لا يقوى الخوف عليهم. والقطيع صغير، بأيّ معنًى هو صغير؟! لا شكّ في أنّ الرّبّ يسوع، حين كان يخاطب قطيعه، في ذلك الزّمان، كان قطيعه صغيرًا. ولكن، هذا لا يعني، بالضّرورة، أنّ القطيع سوف يبقى صغيرًا في العدد، طوال الأيّام. القطيع الصّغير هو القطيع الّذي لا قوّة له، بحسب هذا الدّهر. وهو معرّض دائمًا لأن يُفتَك به. من جهة أخرى، القطيع الصّغير لا يستطيع أن يحقّق مقاصد ذات شأن، في هذا الدّهر، ولا يمكن أن تكون له سلطة؛ لأنّ كلّ ذلك يحتاج إلى قوّة، والقوّة تحتاج إلى عدد.

إذًا، المطلوب، في الحقيقة، أن يكون قطيع المسيح، جيلاً بعد جيل، كأنّه دائمًا قطيع صغير. حين لا يعتمد الإنسان على قوّته، في هذا الدّهر، يكون كأنّه من القطيع الصّغير. حين لا يتعاطى السّلطة، بحسب هذا الدّهر، يكون كأنّه من القطيع الصّغير. حين يكون دائمًا في حالة خوف، يكون كأنّه من القطيع الصّغير. إذًا، مهما بلغ عدد المسيحيّين – والرّبّ الإله وحده هو العارف بعددهم – فإنّ عليهم أن يسلكوا باعتبارهم قطيعًا صغيرًا، بنفسيّة القطيع الصّغير، بروحيّة القطيع الصّغير. الإنسان المحسوب على الرّبّ يسوع ينبغي دائمًا أن يظهر وكأنّه ضعيف. لا يمكنه أن يظهر بمظهر القوّة. ساعة يتمنطق المؤمن بيسوع بالقوّة، بحسب هذا الدّهر، لا تعود قوّة الله تفعل فيه، لأنّ قوّة الله لا تفعل إلاّ في ضعفنا. لذلك، علينا دائمًا أن نسلك باعتبارنا ضعفاء، في هذا الدّهر، ضعفاء في كلّ أمر من الأمور. نحن لسنا في حاجة أبدًا إلى أن نكون أغنياء، بحسب هذا الدّهر؛ لأنّنا ساعة نغتني بأمور هذا الدّهر، فإنّنا نفقد الغنى الّذي بحسب الله. ونحن بإمكاننا أن نرى أنّ الجماعات والأفراد الّذين تتوفّر لهم أمور هذا الدّهر بوفرة، الّذين يعيشون في غنًى، هؤلاء يخسرون نعمة الله. لهذا السّبب، كان الكتاب وآباؤنا دائمًا يقولون: “إذا كان لنا قوت وكسوة، فلنكتفِ بهما”. لا يناسب الإنسان المؤمن أن يكون غنيًّا. ولا يناسب الكنيسة، في هذا الدّهر، أن تكون لها مؤسّسات استثمار، وأن تجمع الأموال، وتوظّف الأرصدة هنا وهناك… بكلّ أسف، الكنيسة، بحسب هذا الدّهر، تُقاس بالمؤسّسات الّتي تملكها، وبالأراضي والأموال الّتي لديها… كلّ هذا باطل، وله وجه مؤلم، في الحقيقة، لأنّه يشير إلى أنّ نعمة الله ليست متوفّرة بالقدر الكافي في مثل هذه الكنيسة. الكنيسة تحتاج إلى أن تكون في الضّعف، تحتاج إلى أن تكون على شيء من الفقر. نكتفي بما هو لازم، بما هو ضروريّ، بما نحتاج إليه، ونتقاسم ما يعطينا الرّبّ الإله، بحيث كما قال الرّسول بولس: “الّذي له كثيرًا، لا تزيد مقدّراته. والّذي له قليلاً، لا يعاني العوز” هذا يسدّ حاجة ذاك.
طبعًا، أن يتكلّم الإنسان لغة من هذا النّوع، اليوم، يعني أنّه ينظّر، كأنّه يتكلّم على شيء غير موجود! في أكثر الأحيان، هو فعلاً غير موجود! وهذا بالضّبط هو المؤشّر إلى أنّنا نعاني أزمة إيمان كبيرة. وتاليًا، نعاني أزمة بركة! البركة تنقصنا. الإنسان، بصورة متزايدة، يعاني تناقصًا في الإيمان الحيّ. إيمانه يصير شكليًّا؛ لأنّ وجدانه، في هذه الأيّام، يتكوّن على أساس أنّ عليه أن يدبّر أموره بنفسه، وأنّ الله يساعده في ما هو يسعى له. لكن، هنا، القطيع صغير. المطلوب أن يكون القطيع دائمًا صغيرًا، أن يكون القطيع دائمًا ضعيفًا، بلا قوّة، وبلا سلطة، وبلا مجد في هذا الدّهر، وبلا عظمة في هذا الدّهر. لهذا، هناك، في الحقيقة، علاقة عكسيّة بين واقع الكنيسة، بين واقع المؤمنين والحالة الرّوحيّة الّتي هم عليها. فإذا كانوا، إراديًّا، يكتفون بما هو لازم لهم، ولا يريدون أن يتسلّطوا على أحد، ولا يريدون أن يُمتدحوا، ولا أن يتعظّموا… إذا كانوا يفعلون ذلك عن إرادة، فإنّ ذلك يكون مؤشّرًا إلى أنّ فيهم غنًى إلهيًّا عظيمًا. وعلى العكس، كلّما رأينا، في الكنيسة، ما يشير إلى مظاهر القوّة والسّلطة والعظمة، بحسب هذا الدّهر، كانت مثل هذه الكنيسة خاوية وخالية إلى حدّ بعيد من نعمة الله، وكانت مثل هذه الكنيسة في أزمة حقيقيّة. يُخبَر عن دير، في جبل آثوس، نشأ من فقر رهبانه، وتعبهم كثيرًا، وتراكمت عليه البركات والخيرات المادّيّة؛ فصار ديرًا غنيًّا جدًّا. في مقابل ذلك، سقط الرّهبان في التّراخي والكسل. لم تعد الصّلاة، في ذلك الدّير، حارّة، ولم يعد الرّهبان يرغبون في الصّلوات اللّيليّة، والسّهر… صاروا يرغبون في تزيين الأمور من الخارج، وفي تزيين الكنيسة من الخارج، وفي الأثواب الكهنوتيّة، والأردية، والرّسوم، والأخشاب… كلّ شيء صار، في الظّاهر، متقنًا، جميلاً جدًّا. لكنّ نفوس الرّهبان كانت في حالة سيّئة جدًّا. وكان رئيس ذلك الدّير رجلاً يخاف الله، يصلّي ويبكي ويقول: “يا ربّ، أعنّا، فإنّنا نهلك”! فجاءته كلمة من عند الله؛ فقام، ذات يوم، وأحرق الدّير بما فيه. طبعًا، اضطرب الرّهبان والنّاس. لكن، بعدما احترق كلّ شيء، فرح رئيس الدّير، وقال: “الآن، صار بإمكاننا أن نولد من جديد. بات بإمكاننا أن نبدأ من جديد”. وهكذا، بدأوا من جديد، ودبّت الحيويّة فيما بينهم، وسكنت نعمة الله فيهم، وتحسّنت أحوالهم كثيرًا. إذًا، نحن في حاجة دائمًا، في الحقيقة، سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الجماعات، إلى أن نبقى قطيعًا صغيرًا، أن نسلك بنفسيّة القطيع الصّغير. آمين.

Leave a comment