صحّة النّفس أوّلاً

صحّة النّفس أوّلاً

الأرشمندريت توما بيطار




باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

يا إخوة، الرّبّ يسوع في وضع اﻻجتياز في حياة النّاس؛ فإذا عرف النّاس أن يستفيدوا من الفرصة، فإنّهم يخلصون. أمّا إذا أهملوا اجتيازه في حياتهم، فإنّهم يخسرون. الرّبّ يسوع يجتاز، في حياتنا، ربّما في امتحان، أو تجربة، أو مرض، أو مصيبة، أو ضيق يلحقنا، أو مشكلة نعانيها. يسوع يجتاز بنا لأنّه يريد لنا الخلاص. ليست هناك قضيّة يعناني منها الإنسان، إلاّ وللرّبّ الإله قصد منها. لا شيء، في الحقيقة، يحدث، في حياتنا، إلاّ وله معنًى، في التّدبير الإلهيّ. الله حاضر وفاعل في كلّ ما يحدث لنا، وهو وحده الجواب له كلّه. الإنسان، في العالم، يظنّ أنّه يحلّ مشكلاته بالفكر، أو بالتّدبير البشريّ، أو، أحيانًا، باللّجوء إلى الآخرين. لكنّ الإنسان المؤمن يعرف، في قرارة نفسه، أنّ الرّبّ يسوع هو الجواب. لذلك، نحن نحلّ قضايانا بالصّلاة، أوّلاً. ومع الصّلاة، نعمل ما في وسعنا. حتّى إذا أردنا أن نتناول دواءً، فإنّنا لا نفعل بمعزل عن علامة حضور الرّبّ. إذا أردنا أن نتناول حبّة دواء، نأخذها، ونرسم عليها علامة الصّليب، ونقول: “لتكن، يا ربّ، مشيئتك”، وبعد ذلك، نتناولها. فكرنا، كمؤمنين، لا يجوز أن يفصل بين ما لله وما لتدابير البشر. “بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئًا”. أحيانًا، الرّبّ يعطينا أن نخلص بالنّاس. وأحيانًا، يعطينا أن نخلص بالأدوية، إذا كنّا مرضى. وأحيانًا، يريد أن يخلّصنا بطرق أخرى. اﻻعتراف المقرون بالتّوبة، مثلاً، يخلّص. الصّبر يخلّص. أحيانًا، نحتاج إلى أن نصبر على الضَّيم فترة من الزّمن، وبعد ذلك، يأتي الفرج. أحيانًا، الرّبّ الإله يريدنا أن نتضع إذ نكون مستكبرين؛ فإذا اتّضعنا، انحلّت مشكلتنا.

إذًا، هناك طرق عديدة لحلّ مشكلتنا. ولكن، في كلّ حال، لا تنحلّ مشكلتنا، إلاّ بنعمة الله. الإنسان المؤمن هو الإنسان الّذي يجعل نفسه، أوّلاً، في الصّلاة، بين يدي الله الحيّ: “لتكن، يا ربّ، رحمتك علينا كمثل اتّكالنا عليك”، “لتكن مشيئتك”. وبعد ذلك، يعمل بما يوحي له به الرّبّ الإله. في أثناء المسير، يبقى دائمًا متّكلاً على الله. إذا كان أمينًا، فإنّه يكتشف أنّ الرّبّ الإله لا يريد له الخلاص من العلّة الّتي يعاني بهذه الطّريقة، بل بتلك. الرّبّ الإله دائمًا يتوخّى ما هو نافع لنا. ما نعانيه لا نعانيه جزافًا. الرّبّ الإله يريد لنا أن نتنقّى. يهمّه، أوّلاً وقبل كلّ شيء، أن تتنقّى نفوسنا من الزّغل الّذي فيها. يهمّه، أوّلاً، صحّة النّفس قبل صحّة الجسد. ويستعمل صحّة الجسد ليأتي بنا إلى صحّة النّفس. إذًا، الموضوع ليس موضوع أن تُحلَّ مشكلات الإنسان، سواء الصّحّيّة، أم الماليّة، أم ما يعانيه في علاقته مع النّاس… هذه كلّها وسائل. والغاية منها صحّة النّفس، أوّلاً. مثلاً، إذا كان الإنسان قليل الصّبر، فإنّ الرّبّ الإله يسمح بأن يمرّ في ظروف صعبة يعلّمه فيها الصّبر. وإذا كان إنسانًا متكبّرًا، فإنّ الرّبّ الإله يسمح له بأن يفشل مثلاً، أو بأن يقع في ضائقة، ليعلّمه، من خلالها، التّواضع، واﻻنتظار بصمت، والرّبّ الإله يخلّصه. إذًا، كلّ ما يحدث لنا له هدف عند الله، وهو أنّه يريد، أوّلاً وأخيرًا، أن يعلّمنا كيف نقتني الفضيلة، وكيف نتنقّى، وكيف نصير أبناء للملكوت. هو، إذًا، مجتاز دائمًا في حياتنا، في كلّ تفصيل. الإنسان الّذي يغرق في همومه، في هواجسه، في مخاوفه، ويكتفي بالتّدابير البشريّة، ولا يبالي بالمقاصد الإلهيّة، لا بل يتذمّر على الله، هذا الإنسان يفوته القطار، ولا ينتفع شيئًا من العلّة، أو من الألم، أو من الضّيق، أو من اﻻمتحان الّذي يمرّ فيه. ربّما تزول عنه الضّائقة، وربّما يخفّ عنه الألم؛ ولكن، ماذا تكون النّتيجة؟! – تكون النّتيجة أنّه يظنّ أنّه شُفي بتدابيره هو لأنّه ذهب إلى الطّبيب الفلانيّ، أو أخذ الدّواء الفلانيّ، أو اتّبع نصيحة فلان… يبقى في مستوى التّدابير البشريّة. لهذا، لا ينتفع شيئًا، بل على العكس، شفاؤه، أو قضاء حاجته يجعله أﮐثر قسوةً في القلب، وهذا ينعكس عليه سلبًا، في المرّات المقبلة، حين يُمتحَن من جديد. إذًا، بالنّسبة إلى المؤمن، ٱلامتحان يقربّه من الله، وينقّيه، ويزرع فيه فضائل طيّبة، فيما يؤدّي بالّذين لا يبالون بالله إلى قسوة القلب، واﻻعتماد على أنفسهم من دون الله، بشكل متزايد.
يسوع اجتاز، في السّبت، بين الزّروع. يوم السّبت، في الأساس، هو اليوم الّذي استكمل فيه الرّبّ الإله صناعة الخليقة. وكان النّاس، في يوم السّبت، يفرحون، ويشكرون الله، ويمجّدونه، ويصلّون، إلى أن انتقل العبريّون إلى بابل، حيث وجد اليهود أنفسهم من دون الهيكل، الّذي كان يشكّل محور حياتهم الدّينيّة. في هذه الحال، تركّز همّ العبريّين على يوم السّبت، وتمادَوا في الأحكام الّتي ربطوها به. وظنّوا أنّهم، بذلك، يصنعون حسنًا، لأنّهم يتمسّكون، بدقّة، بأحكام سلكوا فيها، وهي، في الحقيقة، من ابتداعهم. كانوا يظنّون أنّهم، بذلك، يعبّرون عن أمانتهم لله. فمثلاً، في السّبت، لم يعد يحقّ للإنسان أن يعمل، ولا أن يطهو على النّار، ولا أن يسافر. فقط، كان بإمكانه أن ينتقل من مكان إلى آخر في حدود الأربع مئة متر، وقد سمّوا هذه المسافة “سفر سبت”. كانت هناك أحكام كثيرة، ارتبطت بيوم السّبت، لا سيّما وأنّ الفرّيسيّين، بصورة خاصّة، كانوا مهووسين بابتداع الأحكام المرتبطة بالنّاموس، لأنّهم ظنّوا أنّهم كلّما ابتدعوا أحكامًا، كانوا، بذلك، مخلصين لشريعة الله. إذًا، في السّبت، اجتاز يسوع بين الزّروع. هل كانت المسافة الّتي قطعها هو وتلاميذه أﮐثر من سفر سبت؟! – ربّما. ولكن، يبدو، هنا، أنّ الفرّيسيّين ينتقدون الرّبّ يسوع وتلاميذه لأنّهم كانوا، فيما هم سائرون، يقلعون السّنابل ويأﮐلون. هذا، في نظر الفرّيسيّين، كان عملاً؛ وبالتّالي، من الممنوعات. لهذا السّبب، اعترض الفرّيسيّون على يسوع، وقالوا له: “انظر، لماذا يفعلون في السّبت ما لا يحلّ؟!”، فأجابهم الرّبّ يسوع، وخَلُص، في حديثه معهم، إلى النّتيجة التّالية: “السّبت جُعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السّبت”. بكلام آخر، أدانهم، لأنّهم حمّلوا النّاس أحمالاً ثقيلة، من خلال الأحكام الّتي ابتدعوها، سواء بالنّسبة إلى السّبت، أو غيره من الأمور الخاصّة بالشّريعة. لقد أثقلوا كواهل النّاس، وجعلوهم يظنّون أنّهم، بذلك، يُرضون الله. جعلوا من الله، بمعنى، ثقلاً على النّاس، حملاً يصعب حمله. الله بات ثقيلاً! لهذا، قال يسوع للفرّيسيّين: “السّبت جُعل للإنسان، لا الإنسان لأجل السّبت”! إذا كان السّبت قد جُعل لأجل الإنسان؛ إذًا، هو جُعل لخير الإنسان، لفرح الإنسان، لتعاطي الإنسان عمل الرّحمة، في يوم السّبت، لتعاطيه الشّكران، ليمجّد الإنسانُ اللهَ فيه، ليشكره على كلّ صلاح. إذًا، السّبت للفرح، والرّحمة، والصّلاة. والرّبّ يسوع، بعدما أصدر هذا الحكم، قال للفرّيسيّين بوضوح: “ابن البشر هو ربّ السّبت أيضًا”. الرّبّ يسوع، بشكل واضح وصريح هنا، يجعل نفسه الإله! يجعل نفسه السّيّد! إذًا، هو لا يقترح عليهم مسلكًا معيّنًا، بل يحكم ويأمر! نحن لا يجوز لنا أن نتعاطى كلمة الله وكأنّها اختياريّة، في حياتنا! وكأنّها رأي بإمكاننا أن نقبله، أو أن نرفضه! طبعًا، بإمكاننا أن نرفضه، لأنّ الرّبّ الإله لا يفرض علينا شيئًا على الإطلاق. ولكن، إذا رفضنا كلمة الله، فإنّنا نرفضه هو! وتكون النّتيجة أنّنا نسيء إلى أنفسنا، ونؤذي ذواتنا، لأنّ كلمة الله قاطعة. مَن لا يقتبلها، فإنّه يُدان بها: “الكلام الّذي أﮐلّمكم به هو يدينكم، في اليوم الأخير”.
“ودخل المجمع أيضًا، وكان هناك إنسان يده يابسة”. إذًا، أوّلاً، في السّبت، يجوز للإنسان أن يعمل. لا بل الإنسان يعمل في السّبت بصورة عاديّة. لكنّه، في آن، يجعل من السّبت يومًا خاصًّا للفرح والشّكر والصّلاة. وأيضًا، يوم السّبت هو يوم عمل الرّحمة بامتياز. “كان هناك إنسان يده يابسة، وكانوا يراقبونه هل يشفيه في السّبت، لكي يشكوه”. بالنّسبة إلى الفرّيسيّين، الشّفاء ممنوع، يوم السّبت. الأحكام عندهم باتت غاية في ذاتها! باتت بديلاً عن الأمانة لله! لهذا السّبب، لم تكن قلوبهم لتتحرّك، إذا رأوا إنسانًا يده يابسة. القلب، في إطار كهذا، يقسو. والرّبّ الإله يريد أن يستعيد الرّحمة إلى يوم السّبت، “فقال للإنسان اليابس اليد: قم إلى الوسط”، وسأل: “أَعَمَلُ الخير يحلّ في السّبت، أم عمل الشّرّ؟!”. إذا لم يعمل الإنسان الخير، في السّبت، فإنّه يعمل شرًّا! إذا كان هناك عمل خيّر يطالعنا به الرّبّ الإله ولا نعمله، فإنّنا نعمل شرًّا. إذا رأينا فقيرًا، وتغاضينا عنه، لا فقط نخسر عمل الخير في شأن هذا الفقير، بل نكون قد قمنا بعمل شرّير، تغاضينا عن حاجات النّاس، عن آلام النّاس، عن أوجاع النّاس!… وتابع يسوع: “أَعَمَلُ الخير يحلّ في السّبت، أم عمل الشّرّ؟! أن تُخلَّص نفس أم أن تُقتَل؟!”. لاحظوا هذه المقابلة: “أن تُخلَّص نفس أم أن تُقتَل”! الرّب يسوع جاء مخلِّصًا، ونحن علينا أن نسعى لخلاص الآخرين ممّا يعانون: من آلامهم، أو من ضيقاتهم… ونسعى أيضًا لخلاصهم من خطاياهم. أجل، خلاص الآخرين من اختصاصي، ومن اهتمامي! أنا لا يمكنني أن أهتمّ فقط بنفسي، ولا أبالي بالآخرين. إذا فعلت ذلك، أﮐون قاتلاً للآخرين! عليّ أن أهتمّ بكلّ إنسان يجعله الرّبّ الإله في سبيلي، لا بالضّرورة أن أجترح المعجزات في التّعامل معه، إنّما إذا أمكنني أن أسقيه كأس ماء بارد، أفعل ذلك. إذا أمكنني أن أطعمه، أفعل ذلك. إذا أمكنني أن أُلبسه، أفعل ذلك. إذا أمكنني أن أعطيه ثمن دواء، أفعل ذلك… أمّا إذا لم يكن بإمكاني أن أفعل له شيئًا، فإنّ بإمكاني أن أصلّي له أمام الله: “أعن، يا ربّ، هذا الإنسان بطرق أنت تعرفها، لأنّني أنا غير قادر على ذلك”. في كلّ حال، لا يمكنني أن أتّخذ موقفًا لامباليًا من جهة النّاس من حولي. أنا حافظ لأخي. كلّنا مسؤول أمام الله عن كلّ أحد. والإنسان الّذي يهتمّ فقط بخلاص نفسه، من دون الآخرين وخلاص نفوسهم، هذا لا نصيب له مع الله، ولو صام كلّ الأصوام، وصلّى كلّ الصّلوات. طالما كان موقفه، في داخل قلبه، موقف تغاضٍ عن الآخرين، موقف لامبالاة بالآخرين، فإنّ كلّ ما يفعله لا ينفعه شيئًا على الإطلاق، بل يكون قاتلاً، لأنّه يُلغي الآخرين، ويهتمّ فقط بنفسه. يكون إنسانًا أنانيًّا. والأنانيّون لا محلّ لهم عند الله. إذًا، نحن نعمل ما في وسعنا. ولكن، المهمّ أن نلتزم الآخرين، أن نتبنّاهم ولو بكلمة صلاة نرفعها إلى الرّبّ من أجلهم. طبعًا، إذا كان بإمكاننا أن نفعل شيئًا محسوسًا، هذا يكون أمرًا لا بدّ منه. لا يمكنني فقط أن أﮐتفي بالكلام، فيما أنا قادر على أن أُخرج مالاً من جيبي وأعين به الّذين هم في حاجة، مثلاً. المهمّ أن يكون لديّ اهتمام بالآخرين في، مستوى القلب. طبعًا، هذا القول قد لا ينسجم مع طريقة حياة النّاس، اليوم. النّاس، اليوم، فرديّون جدًّا، كلّ لنفسه. ولكن، المؤمنون لا يليق بهم أن يتصرّفوا أبدًا بصورة فرديّة، فيهتمّون بأمور أنفسهم، ولا يبالون بأمور الآخرين. لماذا، مثلاً، إذا رأينا أو سمعنا أزيز طائرة في الجوّ، لا يخطر في بالنا أن نقول: “أعن، يا ربّ، هؤلاء النّاس، وأوصلهم إلى بيوتهم”؟! هذا واجب علينا! هذه ضرورة محبّة لنا! كلّ إنسان نجده في ضيق، ولا نستطيع أبدًا أن نفعل شيئًا من أجله، على الأقلّ نطلب إلى الله من أجله. لهذا، مَن لا يبالي بالآخرين، يكون بمثابة قاتل لهم. يُلغيهم كأنّه هو الموجود، وكأنّهم هم غير موجودين. وهذا قتل أصعب بكثير من القتل المادّيّ الجسديّ: أن يُلغي الإنسان الآخرين من نفسه!
لمّا سمع الفرّيسيّون هذا الكلام، صمتوا! لماذا؟! – لأنّهم لا يملكون جوابًا! لأنّهم لا يريدون أن يعترفوا بأنّ ما يقوله الرّبّ يسوع هو الحقّ! لأنهم لا يريدون أن يقولوا إنّهم هم على باطل! صمتوا غيظًا! هذا الصّمت هو من الشّيطان. كلّ صمت ليس في الحقّ هو صمت من شيطانٍ أخرس يستبدّ بالنّاس. لمّا رأى الرّبّ يسوع حالهم وأنّ الشّيطان قابض عليهم، قال للإنسان اليابس اليد: “امدد يدك؛ فمدّها؛ فعادت يده صحيحة كالأخرى”. الله لا يبالي بما يظنّه النّاس وبما يريدونه، طالما هم لا يبالون بما يريده هو. المهمّ أن يُطاع الله، لا النّاس. بعد ذلك، ماذا يفعلون، هذا ليس شأنًا مهمًّا على الإطلاق، فليفعلوا ما يشاؤون. المهمّ أن نفعل نحن، إن كنّا عائلة الآب السّماويّ، ما يرضي الله، وما يمجّد الله، وما يعبّر عن أمانتنا لله. بعد ذلك، نعيش أو نموت سيّان، لا فرق، لأنّ “الحياة لي هي المسيح والموت ربح”. آمين.

عظة في السّبت 23 كانون الثّاني 2010 حول مر 2: 23 – 28، 3: 1 – 2

Leave a comment