عن القدّيس سيرافيم ساروفسكي

عن القدّيس سيرافيم ساروفسكي

الأب لعازر مور


نقلها إلى العربية راهبات دير مار يعقوب الفارسي – دده، الكورة

أوّلاً: حول عذابات الجحيم الثلاث

لقد أنعم الله على نيقولا ألكساندروفيتش متوفيلوف أو “خادم سيرافيم” كما يدعو نفسه بشفاء عجائبيّ، لا بل منحه عطيّة أكبر وأسمى من الشفاء، وهي أن يعاين بأمّ العين القدّيس سيرافيم وهو في حالة الإستنارة، مجلَّلاً بنور ثابوريّ، أو بكلمة أخرى بنعمة الروح القدس. وبما أنّ نيقولا كان رجلاً مُخلصاً للقدّيس وحارّاً بالروح، أراد أن يُحيي ذكرى القدّيس سيرافيم، فقرّر أن يزور “كورسك” مسقط رأس القدّيس ليحصل على معلومات حول طفولته وحداثته. ولكنّ هذا الأمر أزعج الشيطان، فضرب متوفيلوف، بسماح من الله، بمرض مزمن بسبب سعيه هذا. وهاكم بعض التفاصيل التي سبقت مرض متوفيلوف:

كان متوفيلوف يشكَّ بوجود قوى شرّيرة تستطيع أن تؤذي الإنسان. لذلك أخبره القدّيس سيرافيم عن قتاله المريع مع الشياطين الذي دام ألف يوم وألف ليلة. وهكذا، وبقوّة كلمات القدّيس النابعة من قداسته، والتي لا يمكن أن يتخلّلها ولو ظلٌّ خفيف من المبالغة أو الكذب، اقتنع موتوفيلوف بوجود الشياطين ليس كأشباح أو خيالات بل كحقيقة مرّة وقاسية. وتأثّر بكلام القدّيس لدرجةٍ أنَّه صرخ من أعماق قلبه: “آهٍ يا أبي كم أتمّنى لو أحظى بجولة قتال مع الشياطين”. فقاطعه القدّيس محذّراً: “ماذا تقول بحقّ السماء؟!! أنت لا تعرف ماذا تتفوّه به. فلو كنت تعرف أن أصغرهم قادر أن يقلب العالم رأساً على عقب بمخلبه لما تمنّيت تحدّيهم البتّه.”
– ولكن، يا أبي، هل، حقّاً، لهم مخالب؟
– كلا. ليس للشياطين مخالب. لقد صُوِّروا بقرون وأنياب وأذيال لكي يتمكّن الإنسان أن يتصوَّر شيئاً من بشاعتهم، لأنّهم فعلاً بشعون. إنَّ مقاومتهم الإراديّة للنعمة الإلهيّة جعلتهم ملائكة ظلمة مع أنّهم كانوا قبل السقوط ملائكة نور، كما جعلتهم أيضاً قبيحين لدرجة أنَّهم لا يمكن أن يُصوَّروا بأيّ شكل بشريّ دميم، ولكن، وبما أنّه لا بدَّ من بعض التشبيه، لهذا صوِّروا بأشكالٍ سوداء وقبيحة. ولكونهم كانوا ملائكة، فهم يملكون بعض الخواصّ أو القوى المختصّة بالملائكة، لذا فهم يتمتّعون بقوَّةً هائلة حتّى إنَّهم قادرون على قلب العالم رأساً على عقب بأظافرهم فقط. ولكنّ نعمة الروح القدس، التي أُعطيت لنا نحن المسيحيّين الأرثوذكس كعطيّةٍ مجانيّة بواسطة الإله الإنسان سيّدنا يسوع المسيح، فقط هذه النعمة قادرة على دحض كلّ حيلهم ومقاصدهم.
تسلّل شعور غريب إلى متوفيلوف بعد هذا الحديث، ولكنّه، ولأنّه كان تحت حماية القدّيس استطاع أن يتصدّى لحيل إبليس. ولكن، وبسماح من الله، فإنَّ طلبته لتحدّي الشياطين لم تبقَ من دون جواب، إذ عندما ذهب موتوفيلوف إلى كورسك، بعد رقاد القدّيس، لم يحصل على الكثير من المعلومات حول طفولة القدّيس وحداثته، لأنّ مَن عرفوا القدّيس في طفولته كانوا قد رقدوا، وغيرهم نسوا الأحداث التي جرت، وحتَّى بيت القدّيس كان قد دُمِّر.
مرّت الرحلة إلى كورسك بسلام، ولكن هبّت في طريق العودة عاصفة قويّة أجبرت متوفيلوف أن يُمضي ليلته في إحدى محطّات القطار. وبينما كان وحيداً في غرفة المسافرين أخرج بعضاً ممّا كان قد دوَّنه، وبدأ يتفحّصه على ضوء شمعة وحيدة كانت بالكاد تضيء الغرفة الواسعة. تناول أحد التقارير وصفاً مسهباً لشفاء سيّدة ممسوسة من عائلة نبيلة تُدعى إروبكين عند ضريح القدّيس مطروفانس. فأخذ متوفيلوف يفكّر في نفسه قائلاً: “من المستغرب، حقّاً، أن يسكن الشيطان في إنسانة مسيحيّة، تشترك بالأسرار المقدّسة المحيية، مدّة ثلاثين سنة. إنَّ هذا مستحيل!!! آه كم أودّ لو أرى كيف يجرؤ الشيطان أن يقترب منّي أنا الذي أتناول الأسرار باستمرار”.
في تلك اللحظة بالذات، أحاطت به غيمة سوداء داكنة وباردة تنبعث منها رائحة كريهة بدأت تشقّ طريقها نحو فمه، فيما كان يبذل جهداً هائلاً لإبقاء فمه مغلَقاً. بقي يصارع، بيأسٍ، محاولاً حماية نفسه من البرد الجليديّ والرائحة المقرفة التي استمرّت تزحف تدريجيّاً نحوه. ولكن، وبالرغم من كلّ جهوده، فإنَّها استطاعت أن تدخله وتتغلغل فيه كليّاً. ثمّ بدا له وكأنَّ يديه قد شلَّتا، وعاد لا يستطيع رسم إشارة الصليب، وتجمّد عقله من الرعب، وما كان قادراً على تذكّر إسم الربّ يسوع المخلّص. حقّاً كان أمراً مرعباً إذ مرَّ بفترة من العذاب الهائل. وإليكم ما كتبه بنفسه واصفاً العذابات التي مرَّ بها:
“لقد منحني السيّد أن أختبر في جسدي، وليس في حلم أو خيال، عذابات الجحيم الثلاث. الأوّل كان النار التي لا تُعطي أيّ ضوء، والتي لا يُمكن لغير النعمة الإلهيّة أن تطفئها. استمرّ هذا العذاب ثلاثة أيّام شعرت خلالها بأنّي أحترق، ولكنّي لم أمت. كان عليّ، عشر مرّات يوميّاً، أن أمسح الفحم الجهنَّمي الذي غطَّى جسدي كلَّه، والذي كان ظاهراً لجميع الذين كانوا حولي. توقّف هذا العذاب فقط بعد الإعتراف والإشتراك في القدسات، وبصلوات أنطونيوس رئيس أساقفة فورونيج الذي أمر بإقامة السهرانات من أجل شفائي في كلّ الكنائس والأديرة الواقعة ضمن أبرشيّته.
عُذِّبت، بعد ذلك، ولمدّة يومين ببرد قارس غير محتمل لدرجة أنَّ النَّار نفسها لم تكن قادرة أن تدفئتي، ولا أن تحرقني ولو وُضعت على أوصالي. وعملاً برغبة الأسقف أنطونيوس، وضعت يدي فوق لهب شمعة لمدّة نصف ساعة، فتغطّت يدي بطبقة سميكة من سخام الشمعة، ومع ذلك لم تتسرّب إليها الحرارة.
ولقد قمت بكتابة هذه التجربة، ووقّعتها بيدي المفحَّمة. وبقوّة القدسات الإلهيّة استطعت أن أتناول شيئاً من الطعام، وقليلاً من الشراب، والخلود إلى النوم لبضع ساعات فقط.
أمّا العذاب الجحيميّ الثالث، فرغم أنَّه كان أقصر بنصف يوم، إذ استمرَّ يوماً ونصف فقط، إلاَّ أنّه سبَّب لي عذاباً أشدّ، ومعاناةً لا توصف. ولا أشكّ بأنَّ بقائي حيّاً كان معجزة حقيقيّة بحدّ ذاتها. هذا العذاب أيضاً تلاشى بعد الإعتراف والمناولة. في هذه المرّة، قدّم لي أنطونيوس رئيس الأساقفة بنفسه القدسات. أمّا هذا العذاب، فكان الدود الذي لا يموت.
لم يرَ أحد هذا الدود إلاَّ رئيس الأساقفة وأنا. أصبح جسدي كلّه منخوراً من هذا الدود القاتل الذي كان يدبّ على كلّ أجزاء جسدي، وبطريقة مخيفة لا يمكن وصفها كان ينهش أعضائي. وكان يخرج أوّلاً من أنفي وفمي وأذنيَّ ثمَّ يعود، بعد تجواله في كلّ الجسد، ليدخل ثانيةً من حيث خرج. على كلّ حال، لقد أمدّني الله ببعض القوَّة، إذ كان بإمكاني أن أمسكها بيدي، وأعصرها بأصابعي كالمطاط.
إنّي أجد نفسي مجبَراً على وصف هذه التجربة، لأنَّ الله، من دون شكّ، لم يجعلني أختبرها بدون سبب. ولا يظنّنّ أحد أنّي أتكلّم كذباً، لأنّي سوف أعطي حساباً يوم الدينونة الرهيب على كذبي هذا.
وبعد هذا الاختبار المريع مباشرة، رأى متوفيلوف القدّيس سيرافيم في رؤيا يتقدّم منه معزّياً، وواعداً إيّاه بالشفاء بعد نقل رفات القدّيس تيخن زادونيسك الذي جرى بعد ثلاثين سنة من هذا الحادث. وقد عاش متوفيلوف حتى ذلك الوقت، إذ بينما كان الجوق، ذات يوم، يرتّل الشيروبيكون في القدّاس الإلهيّ، رأى القدّيسَ تيخون جالساً على كرسيّ المطران يرفع يمناه ويباركه، ومن تلك الساعة شُفي موتوفيلوف، ومنذ ذلك الوقت، أيضاّ، ما عاد الشيطان يتعرّض له بقوّة.

ثانياً: حول قراءة الكتاب المقدّس

** من يقرأ الكتاب المقدّس يتلقّى في داخله حرارة إلهيّة تولِّد الدموع التي تملأ الإنسان بالنعم الروحيّة، وتبهج العقل والقلب بشكل يفوق كلّ تصوّر. وعلاوة على ذلك، فهي تجلب السلام إلى النفس بحسب قول المرنّم : “سلام للذين يحبّون شريعتك ياربّ”.

** لا تبحْ بما في قلبك للآخرين من دون ضرورة قصوى، فشخص واحد من بين آلاف الناس يمكنه، فقط، أن يحفظ سرِّك.
** من الأفضل ألاّ تظهر ما في قلبك من العطايا الموهوبة لك من الله، وإلاَّ ستفقدها ولن تحصل عليها ثانية.
** من المؤسف، حقّاً، أن تدع الثرثرة وعدم اليقظة تطفئ النار التي جاء السيّد ليلقيها على أرض القلب.
** إن أردت اقتناء السلام الداخليّ، عليك أن تماثل الموتى، أي أن تكون أصمّ أبكم أعمى عن النميمة والإدانة وبقيّة الرذائل. أمّا الإضطهادات والتجارب، فهي الطريق التي لا بدَّ من سلوكه لمن يريد أن يتبع المسيح، لأنَّه بآلام كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السماوات.
** لا يوجد خلاص من دون الأحزان، وملكوت السماوات ينتظر أولئك الذين احتملوا ويحتملون بصبرٍ ليتنعّموا بالمجد العلويّ الذي لا يوصف ولا يُقارَن بمجد العالم كلّه.
** أطلب منك، يا فرحي، أن تقتني روح السلام لتنعم بالفرح الحقيقيّ.

ثالثاً: حول إقتناء الروح القدس

لقد شبّه الربُّ الكلمةُ، الإلهُ الإنسانُ، ربُّنا يسوع المسيح حياتنا على الأرض بالتجارة إذ قال لنا: “تاجر حتى آتي” (لو:13:19)، وأيضاً: “وافتدوا الوقت فإنَّ الأيّام شرّيرة” (أف 16:5). وذلك يعني أن نستغلّ معظم وقتنا لاقتناء البركات السماويّة من خلال الأعمال الصالحة المعمولة لأجل المسيح، والتي تجلب لنا نعمة الروح الكلّيّ قدسه… أطلب إليك إقتنِ الروح القدس.

** ما أعظم رأفة الربّ تجاه شقائنا. هذا الشقاء الناتج فقط عن عدم انتباهنا لعناية الله بنا إذ يقول: “ها أنذا واقف على الباب أقرع”، وما هذا الباب إلاّ حياتنا الحاضرة الذي لن يُغلَق بعد بالموت، فالمغبوط أغسطينوس يقول: “في الحالة التي أجدك فيها أُدينك”. فالويل لنا إذا وجدنا منهمكين ومنغمسين في اهتمامات هذا العالم وإغراءاته، وهو الذي حذّرنا قبلاً قائلاً: “انتبهوا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة” (لو 40:22)، فالتجربة هي ابتعادنا، أو بالأحرى انفصالنا، عن الروح القدس، بينما الصلاة والسهر يجلبان لنا النعمة.
وها أنا أسوق لك هذه القصّة المتداولة في التقليد الشعبيّ، لتدرك مدى قوّة الصلاة حتّى لدى الإنسان الخاطئ:
شارفت امرأة بائسة على الجنون لفقدان ابنها الوحيد، فالتقت، يوماً، بامرأة زانية خارجة لتوّها من بيت الدعارة، فطلبت منها أن تصلّي من أجل ابنها. فوجئت الزانية بهذا الطلب، وتأثّرت جدّاً لحزن المرأة العظيم حتّى إنّها صرخت إلى الله قائلة: “اقبل توسّلي، يا ربّ، ليس من أجلي أنا الخاطئة البائسة، بل من أجل دموع هذه الأمّ الحزينة. إنّي أؤمن، أيّها المسيح الإله، وأثق بعظيم محبّتك ورأفتك وقدرتك، فأقم الصبيّ وتحنّن على أمّه الثكلى…”، وأقام الربّ الصبيّ.
فسأله موتوفيلوف: وماذا بشأن الأعمال الصالحة المفعولة باسم المسيح بهدف اقتناء نعمة الروح القدس؟ وهل الصلاة هي الطريق الوحيد لاقتناء الروح القدس؟ فأجاب القدّيس سيرافيم: بالإضافة إلى الصلاة التي هي الطريق الأساس، عليك أن تقتني نعمة الروح القدس بممارسة كلّ الفضائل الأخرى حبّاً بالمسيح. أقول لك: تاجر بتلك الفضائل الروحيّة، وبالأخصّ تلك التي تدرّ عليك بأوفر الأرباح. أودع طاقاتك الروحيّة في بنك الربّ الأزليّ، وهو، بدوره، سيعطيك فوائد روحيّة ليس فقط 40% أو 60% بل 100% لكلّ روبل روحيّ، أو ربّما أكثر. فإن كانت الصلاة واليقظة تفيضان عليك نعمة الله بوفرة أكبر، صلّ وانتبه. وإن كان الصوم، فصمْ، أو الإحسان، فأعطِ. لا تقم بعمل ما من أجل العمل نفسه، بل ليكن دوماً بهدف اقتناء نعمة الروح القدس. فلا تصلّ، مثلاً، من أجل الصلاة نفسها، ولا تتلها كواجب، بل لتكن الصلاة لاقتناء نعمة الروح القدس. إنّ كلّ الأشياء بسيطة لمن يودّ اقتناء المعرفة الإلهيّة، ولكنّ المشكلة هي أنّنا لا نطلب هذه المعرفة، ولا نسعى وراءها. إنّ هذه المعرفة مليئة بالحبّ نحو الله ونحو القريب، وتعمل على نموّ كلّ إنسان من أجل خلاصه.

صلاة طلب منّا القدّيس سيرافيم أن نصلّيها باستمرار:

“ها أنا، يا ربّ، أقف أمامك واثقاً بعظيم محبّتك وتحنّنك، لأقدّم لك هذا الابتهال الصادر من فمي الدنس وشفتيّ الرجستين. اذكرني، يا ربّ، لئلا يجتذبني العدوّ إليه أنا الذي دُعيت باسمك القدّوس، وقد افتديتني بدمك الكريم، وختمتني بختم روحك القدّوس، ورفعتني من عمق الجهل والمعصية. دافع عنّي، يا ربّي يسوع المسيح، وكن عوني القويّ في جهادي، لأنّ الشهوات ما زالت تقيّدني وتستعبدني. لا تدعني، يا سيّد، أن أبقى مشدوداً إلى هذه الأرض، ومحكوماً عليّ بسبب أعمالي. حرّرني، يا سيّد، من عبوديّة الشرّير أمير هذا العالم. أنت هو، يا نور عينيّ، طريقي في هذه الحياة، فليضئ، إذاً، نورك البهيّ نفسي لئلا تدركني الظلمة، ويختطفني أولئك الذين يسيرون في الظلام. لا تسلّم، يا سيّد، إلى الوحوش الغير المنظورة روحاً تعترف بك، ولا تدع الكلاب الضالّة تنهش خادمك. امنحني، أيّها الآب القدّوس، أن أتقبّل روحك القدّوس في داخلي، وأن أكون مسكناً يستريح فيه مسيحك. أرشدني، يا مرشد الضالّين، لئلا يكون نصيبي مع أهل الشمال. إنّي أتوق، يا سيّدي، لرؤية وجهك، فأرشدني بنورك في طريق الحقّ. هبني ينابيع دموع وأعطِ خادمك قطرة من روحك القدّوس، لئلا أيبس كشجرة التين التي لعنتها. لتصر، يا مخلّصي، الدموع شرابي والصلاة طعامي, وحوّل نوحي إلى حبور، وتقبّلني في مساكنك الأزليّة، ولتشملني رحمتك، يا رحوم، واغفر كلّ خطاياي، ولا تدع جبلة يديك تهلك إلى النهاية. آمين

Leave a comment