الخطيئة الجدية

الخطيئة الجدية

بحسب الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس


نقلها عن اليونانية بتصرّف الأب أنطوان ملكي

عندما نتحدّث عن الموت والخطيئة الجدية، فإننا لا نعني أن الموت أتى في البداية كشيء موروث في الطبيعة البشرية ثم تبعته الخطيئة الجدية. ولكننا نعني أن الموت ارتبط ارتباطاً وثيقاً بخطيئة آدم كنـتيجة لها. وبالتالي، الموت لم يكن في البداية أمراً طبيعياً للإنسان، ولكنه دخل إلى الطبيعة البشرية وبالتالي يعمل كما لو كان متطفلاً.

يظهر هذا الأمر متكرراً في الكتاب المقدس. فالله لم يصنع الموت الذي دخل إلى العالم بواسطة خطيئة آدم. أود هنا أن أذكر نصين كتابيين: النص الأول هو من العهد القديم ويقول: “إذ ليس الموت من صنع الله ولا هلاك الأحياء يسره. لأنه إنما خلق الجميع للبقاء فمواليد العالم إنما كونت معافاة وليس فيها سم مهلك ولا ولاية للجحيم على الأرض لأن البر خالد” (حك 1: 13-15). من المستحيل أن ينبعث الشر من الله طالما أن الله خير. ولهذا عندما خلق الله الإنسان لم يخلقه لكي يموت. وكما نرى في التقليد الآبائي، خلق الله الإنسان بإمكانية أن يصبح مائتاً أو غير مائت. النص الثاني هو من رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية: “… كأنما بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس… لكن قد ملك الموت من آدم إلى موسى” (رو5: 12-14). يُرى الموت في هذا النص على أنه دخيل ومتطفل على الطبيعة البشرية، ونتيجة وثمرة لخطيئة آدم. يتعلّق الأمر إذاً بالموت الذي دخل إلى الطبيعة البشرية.
الخطيئة التي تولد منها الموت هي سقوط آدم في فردوس النعيم. عندما أمر الله الإنسان الأول ألا يأكل من الثمرة المحرمة أعلمه في نفس الوقت: “لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت” (تك 17:2). وبعد هذه الخطيئة، دخل الموت إلى الطبيعة البشرية، أولاً الموت الروحي الذي هو انفصال الإنسان عن الله، ثم الموت الجسدي الذي هو انفصال النفس عن الجسد. لقد مات آدم روحياً في اليوم الذي أخطأ فيه، ولاحقاً مات جسدياً.
بالرغم من موقف الكتاب المقدس من الموت ومن مشاركة الآباء القديسين في هذه الرؤية، إلا أن علم اللاهوت الغربي يرى الأمور بطريقة مختلفة إذ ينظر إلى الموت على أنه طريقة من الله لعقاب الإنسان بسبب خطيئته، ويرى ميراث الموت في كل الجنس البشري كميراث للذنب. لقد دحض الأب جون رومانيدس هذه الآراء الخاطئة التي لعلم اللاهوت الغربي في دراسة أصيلة ومهمة، كما قدم تعليم الآباء القديسين عن هذه الأمور.
يتبع لاهوتيو الغرب إفتراضات أوغسطينوس فيرون الموت كنتيجة لقرار الله بأنّ الإنسان مذنب وأنّه يجب معاقبة الجنس البشري على الخطيئة التي ارتكبها آدم. ويرى بعض البروتستانت الموت على أنه حقيقة بسيطة، ولكن تقودهم مثل هذه المفاهيم لاستنتاج أن الله هو علة الموت. كما توجد نظرية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بهذا المفهوم مفادها أنّ الشيطان هو أداة الله في تنفيذ قراره بمعاقبة الجنس البشري. هذه المفاهيم والآراء تجعل اللاهوت الغربي عاجزاً عن شرح الغرض من تجسّد المسيح، الذي هو كسر قوة الشيطان والموت، وبالتالي يعجز هذا اللاهوت عن تفسير هدف الأسرار وكلّ الحياة الكنسية.
في تعليم الآباء، ليس الموت عقاباً من الله ولكنه ثمرة ونتيجة لخطيئة آدم. يُستعمل تعبير “موت” ليعني عزلة الإنسان وانفصاله عن الله الذي هو الحياة الحقيقية. وبالتالي فإن أيّ شخص يبتعد عن الحياة أي عن الله فإنه يموت. ويؤكد القديس غريغوريوس بالاماس هذا الكلام: “إن أول من عانى هذا الموت هو إبليس الذي ابتعد عن الله بسبب عصيانه. لقد نقل الشيطان المائت الموت إلى الإنسان أيضاً، لأن الإنسان استمع لنصيحته وعصى الله وفقد نعمته”. ويؤكّد القديس مكسيموس المعترف أننا عندما نتكلّم عن الموت فإننا نعني بصورة رئيسية الانفصال عن الله. ولأنّ هذا الانفصال يحدث من خلال الخطيئة، فالخطيئة هي إذاً مركز الموت. ولأن الإنسان لم يطع وصية الله، ولأنه ابتعد عن الله “كان من الضروري أن يتبع ذلك موت الجسد”.
يؤكد القديس يوحنا الدمشقي على أن أصل كل الناس هو من الله، ولكن الفساد ونتيجته أي الموت، يأتي من الشرّ البشري: “لقد أتى الموت مع عقوبات أخرى من خلال الإنسان، أي من خلال تعدي آدم”. خلقة الإنسان هي إذاً عمل قوة الله الخالقة، واستمرار حياتنا هو عمل قواه المانحة للتماسك. والموت هو نتيجة اختيارنا الخاص ونتيجة الشر، وهو ليس عقوبة وفعل من الله، فالموت دخل إلى العالم “مثل حيوان مفترس متوحش لكي يدمر حياة الإنسان”. هذا تشبيه يعبِّر بصورة حية عن الحقيقة بجملتها. في الواقع، يشبه الموت حيواناً متوحشاً غير مروَّض يتلف ويدمر حياة الناس، ونحن جميعاً نتذوق بحق وحشية الموت عندما يموت أحباؤنا.
وبالطبع عندما نقول أن آدم مات فإننا لا نعني أن الطبيعة البشرية قد دُمرت تدميراً تاماً. ولكن اختبار الموت الروحي أولاً ومن بعده الموت الجسدي لم يؤدِّ إلى عدم الوجود. لقد انفصل الإنسان عن الله، واهتز بهذه النتائج ولكن دون أن يُدَمَر كليةً. وكما يخبرنا القديس مكاريوس المصري بطريقة مميزة: “ومع ذلك نحن لا نقول أنه ضاع تماماً وأُبيد من الوجود ومات. لقد مات بمقدار ما اختلت علاقته بالله، ولكنه لا يزال يعيش في طبيعته”. بعد سقوط آدم، ألبسه الله من خلال محبته وشفقته، أقمصة من جلد التي نرى في تعليم الآباء أنّها الفساد والموت الذي دخل جسد الإنسان بعد خطيئته. ويتكون الفساد من الأمراض، والضعفات، وصعوبات الحياة الإنسانية، وكيفية الحبل به، والحمل به في الرحم، وولادته، وأخيراً مسيرته نحو الموت. وفي الواقع تكون حياة الإنسان بجملتها سلسلة من ميتات متتالية، أي أنها موت بطيء.
إذاً، من الواضح في تعليم الآباء أن سبب الموت ليس الله بل الخطيئة التي ارتكبها الإنسان الأول في الفردوس بحرية اختياره، وأن الله سمح بدخول الموت إلى الطبيعة البشرية بسبب محبته للبشر. فهو، بعد السقوط، لم يسمح بيموت الجسد بل أن يعيش “مانحاً له طريقاً للتوبة” وإمكانية تحقيق حياة روحية. وبالتالي أصبحت كل الآلام المرتبطة بالفساد والموت فرصاً للاشتياق للحياة العليا ولتحقيق الشركة مع الله. وبحسب القديس باسيليوس الكبير، سمح الله بالموت لكي لا يبقى الإنسان إلى الأبد في موتٍ حي. وقد بلورت الكنيسة هذه الرؤية في صلاة الحلّ في خدمة الجناز، حيث يرِد أن الله في محبته لجنس البشر، ولكي لا يصبح الشر أبدياً خالداً، سمح لرباط النفس والجسد غير القابل للكسر أن ينحل بإرادته، أي أنه سمح للموت أن يحدث.
إلى هذا يوجد اختلاف بين اللاهوت الغربي واللاهوت الشرقي حول مسألة ميراث الموت. فالغرب يرى أنّ توريث الموت هو توريث الذنب؛ كما لو كان كل شخص قد أخطأ في شخص آدم وبالتالي يكون كل واحد هو المتسبب في موته الخاص. أمّا الآباء القديسون فيرون أنّ الأمر لا يتعلق بالذنب ولكن بنتيجة خطيئة آدم أي الفساد والموت. فبسبب ضعف الطبيعة البشرية المسبب من خطيئة آدم صار كل إنسان، كونه جزءاً لا يتجزأ من هذه الطبيعة، عاجزاً عن الهرب من الفساد. إلى هذا، يوجد رباط لا ينحلّ بين الخطايا والأهواء من جهة، والفساد والموت من جهة أخرى. وبالتالي، الموت ليس نتيجة للخطية وحَسْب بل هو ايضاً سبب لها. فالفساد والموت اللذين نرثهما هما خلف تكوين العديد من الأهواء كالتهاون، البخل، محبة المجد الباطل؛ ما يعني أن الموت هو سبب وقوعنا في العديد من الخطايا. بحسب هذه الافتراضات يمكن الكلام عن انتقال الموت وليس انتقال الذنب زحّسب كما يرى لاهوت الغرب.
شدّد أوغسطينوس على أننا نرث كلّ خطيئة آدم، بينما تقليد الآباء يوضِح أننا نرث نتائج الخطيئة التي هي الفساد والموت والتي تنـتقل في الجسد. فالقديس يوحنا ذهبي الفم يرى أن التوريث البيولوجي للفساد الذي دخل إلى الطبيعة البشرية لنسل آدم مبرراً: “وهو إذ صار فاسداً، هكذا أيضاً صار الأولاد الذين أنجبهم”. أمّا القديس كيرلس الإسكندري فيقول الأمر نفسه: “بعد السقوط في ذلك (الموت) أنجبا أطفالاً. ولكونهم ثمرة آتية من فساد، فإنهم أُنجِبوا فاسدين”. فبحسب القديس يوحنا ذهبي الفم نحن نعمّد الأطفال “بالرغم من كونهم بلا خطيئة”، لكي يُضاف “التقديس، والبر، والتبني، والميراث، والعضوية في المسيح، والصيرورة كمسكن للروح”.
الهدف من تجسد المسيح كان تدمير الموت والخطيئة وهزيمة الشيطان. فالمسيح اتخذ جسداً مائتاً وضعيفاً لكي يهزم الموت بصلبه وقيامته، وبهذا أعطى الإنسان أن يغلبه في حياته الشخصية بعد أن يتحد به. ويتحقق هذا الاتّحاد من خلال أسرار الكنيسة التي لا تحرر الإنسان مما يسمى الشعور النفسي بالذنب، ولا هي تستعطف الله عن خطية آدم، ولكنها تهزم الموت. فالإنسان يصبح عضواً في جسد المسيح القائم بالمعمودية، وفي تناوله جسد المسيح ودمه يأخذ دواء عدم الموت. فالنفس لا تتحد بالله وحدها، بل الجسد أيضاً يشعر بالتغيير الداخلي وبتحول النفس. ويظهر هذا بوضوح في رفات قديسي الكنيسة.
أمّا بقاء الموت بعد المعمودية والمناولة المقدسة فهي عميقة المعنى إذ، كما يشرح القديس مكسيموس المعترف، ما حدث في حياة المسيح يحدث هنا أيضاً. ففي ولادة المسيح التي هي بلا خطيئة بقي فساد جسده لكي بآلامه المخلّصة يهزم الموت. وهكذا، تبقى طبيعة الشخص المعمد قابلة للهلاك بعد المعمودية ليس كعقاب لطبيعته الخاطئة بل كوسيلة لإدانة الخطيئة والقضاء عليها. بالمعمودية يصير الإنسان بإرادته قادراً على محاربة الخطيئة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بهلاك وموت جسده. وعليه، خلاص الإنسان هو عملية إلهية وتعاون بشري.
كل ما سبق ذكره يرد بوضوح في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية “فإني أُسَر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطيئة الكائن في أعضائي. ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت. أشكر الله بيسوع المسيح ربنا”(رو7: 22-25).
إنّ دراسة إطار هذا الكلام يقود إلى أن الرسول يشير إلى زمن الناموس أي عندما كان يحاول أن يتحرر نفسه من ناموس الخطيئة من خلال ناموس الله دون أن ينجح من دون قوة المسيح المتجسد. من هنا يظهر أنّ الخلاص ليس بطاعة الناموس بل بالاشتراك في قيامة المسيح في حياتنا الشخصية. من الواضح في النص أن الإنسان الباطني يخدم ناموس الله ويُسرّ به اي أنه يقتني الصلاة الداخلية والاستنارة النوسية ما يوصله إلى تذكر الله الدائم. ولكن بينما يُسَر الإنسان الباطني بناموس الله فإنه يشعر بناموس الخطيئة في أعضائه. فناموس الخطيئة هو الفساد والموت. من هنا أنّ الأمراض والضيقات وعملية الموت تمنح أهواء النفس على التعبير عن نفسها على عكس الطبيعة وتعطي الشيطان فرصة لشنّ الحرب على الإنسان. هذا ما يتحمّله القديسون. وعليه قول الرسول “ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت” يعبّر عن معاناة كل أناس العهد القديم الأبرار الذين وجدوا أنفسهم تحت سلطان الموت عاجزين عن التحرر بواسطة الناموس.
لكن كون التحرر أتى بتجسد المسيح وآلامه وقيامته، التي يختبرها الإنسان في جسد المسيح الكنيسة، ما يجعله محتاجاً إلى تقديم الشكر القلبي لله، يقول الرسول: “لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطيئة والموت”(رو2:8). فالمسيح أنجز ما لم عجز الناموس عن فعله بإدانته الخطيئة والموت في جسده (رو 3:8) وبالتالي صار الإنسان ودُعي “روحانياً”.
ختاماً، الله لم يخلق الموت، أي أنّه لم يخلق الإنسان ككيان مائت. الموت دخل إلى الطبيعة البشرية بعد خطيئة آدم كي لا يبقى الشر خالداً وأبدياً. الموت يُوَرَث بسبب ضعف الطبيعة البشرية وليس كذنب الإنسان وكعقاب الله. وقد منح الله الإنسانَ بتجسد ابنه إمكانية القضاء على الموت، الروحي أولاً باتّحاد الإنسان بجسد المسيح القائم بواسطة الأسرار، ثم بالتحرر من الموت الجسدي أيضاً.

Leave a comment