ستيلا عصفورة الله الصغيرة

ستيلا عصفورة الله الصغيرة

متبالهة من أجل المسيح معاصرة*


نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات

هذه قصة ستيلا، سيدة صغيرة يجهلها معظم من هم حولها، قد عاشت حياتها حرة كعصفورة، إلا أنها كرَّست نفسها، كلّياً، لله.

قُتِلت ستيلا الحبيبة في الثالث من حزيران سنة 2005 في حادث سيارة. كل ما فيها يدل على ملامح “المتبالهة من أجل المسيح” مصحوبة بحياة داخلية روحانية. مشيئتها كانت أن تكون متشرّدة؛ عاشت في الأزقّة؛ في الليل- صيفاً وشتاءً- كانت تنام على مقاعد المنتزهات وفي الأكواخ وصالات المستشفيات، إلا أنها كانت دائماً مُفعمة بحبها لله والقديسين والناس التعساء. كانت ثيابُها دائمةَ النظافة. كل ما تَدَّخره كان مخصَّصاً للأعمال الخيرية. كانت تكره المديح. وإذا ما مدحها أحدٌ، كانت تقصد التصرف بطريقة خرقاء …
جاءت ستيلا من القسطنطينية؛ وقد حصَّلت دراسةً لا بأس بها؛ كانت تُتقن اللغة اليونانية بشكل ممتاز، أما الفرنسية فكانت تألفها، وقد حاولت، مؤخراً، تعلُّمَ الإيطالية.
الطريقةُ التي رحلت بها عن هذه الحياة هي، بالضَّبط، ما كانت تتمنّاه. ميتة عنيفة، كغريبة بين غرباء. لم يأتِ أحد للتعرُّف إلى جثَّتها. وقد دفنوها دون أن يُصَلَّى على جثمانها، ذلك أنهم لم يعرفوا من هي. ولكن، بعد سنة، كُشِفَت كلُّ تلك المعلومات بطريقة عجائبية؛ هذا ما حدث أيضاً اثناء خدمة جنّازها. وقد كان لي، أيضاً، شرفُ المشاركة بهذه الخدمة. بعد الجناز، وفي قاعة الإستقبال التابعة لدير السيدة العذراء، رَوَت السيدتان ميليتزا بيسيمي- لوكيدو، وهي محامية، وخريسولا مانداسن وهي طبيبة أسنان، كلَّ ما تعرفانه عن ستيلا التي كانت، بحقّ، قديسة الله.
نضع بين أيديكم نصّاً للسيدة ميليتزا بيسيمي- لوكيدو بالاشتراك مع السيدة خريسولا مانداسن. إني على يقين بأن هذه السيرة سوف تكون مفيدة لكل مَن يعيش بحثاً عن نعمة غير محدودة، وهم مُثقَلون بعقلية عُصابية، ولا ينفكّون عن التَّشَكّي من أشياء يتمنَّون لو كانوا يمتلكونها.
كلمات المسيح التالية تنطبق على حالة ستيلا: “أنظروا إلى طيورِ السماء: إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يَقوتها. ألستم أنتم بالحريّ أفضل منها” (متى6: 26).
في النهاية، ليست قيمة الإنسان في ما يملك، بل في مَن هو. تُشَكّلُ الدّائمةُ الذّكر ستيلا، التي كانت لي بركة التّعرّف إليها بشكل استثنائي، احتجاجاً ذا طابع إيجابي تجاه من يعيشون “بأمان”.

ييروثيوس، مطران نافباكتوس

عصفورةُ الله الصغيرة

بقلم: ميليتزا بيسيمي- لوكيدو (محامية وموظفة في وزارة العمل).

تعرَّفتُ إلى ستيلا في صيف سنة 1979 في معمل الشوكولا. كانت عاملةً عادية تعمل بجِدّ لأكثر من تسع ساعات يومياً. الكلُّ كان يستغلّها ويُصدِرُ إليها الأوامر، وهي كانت تُطيع رأساً، ودائماً بابتسامة. ستيلا، تعالي إلى هنا! ستيلا، اذهبي إلى هناك! كان ربّ عملها يحبّها كثيراً بسبب طاعتها واجتهادها.

كانت، بالنسبة لمعظم العاملين، “ستيلا البَلهاء”. كان مُحيَّاها دائمَ الإشراق، أما شفتاها فدائماً كانتا تتمتمان شيئاً ما. وعندما تُصغي بانتباه، كنتَ تسمع: “المجدُ لك يا الله”.
في أغلب الأحيان تقريباً، كان المُشرف علينا يطلب القيام بعمل يستوجب منا كلتينا القيام به معاً، فكانت تلك فرصتي لأتذوّق لطفها ومحبتها… أذكر أنها كانت تردد الصلاة بدون انقطاع، ثم، فجأةً، تنفجر بالضحك وترفع رأسها الغالي عالياً نحو السماء. وعندها كان يُشرق مُحيّاها.
“المجدُ لك يا الله”، هو ما كان يتناهى إلى مسمعك، إذ تردده شفتاها بدون انقطاع.
كان معمل الشوكولا يُنتجُ أصنافاً متنوعة. أما الأصناف الأقل مستوى فكانت تُصَدّر إلى بلدان إفريقيّة، وهذا ما كان يُزعجُ ستيلاً كثيراً. أذكرُ أنها، في إحدى المرات عندما كنا نعمل سوية في قسم التّوضيب، قامت بالصلاة حاصرةً كلَّ اهتمامها بصناديق الشوكولا تلك وقائلة: “من أجل الصّغار السّود الذين سيتناولون من هذا الشوكولا”.
لم تكن لستيلا أيَّةُ ردة فعل أو احتجاج أو انتقاد للمسؤولين حينما كنا نُظلَم في أجورنا، إذ كان من عادتهم أن يقتطعوا منها بعضَ المبالغ. كانت ستيلا، بالنسبة لي، ميناءَ الراحة لأني كنت دائماً أقاوم كل مَظلَمة. أما تعليقاتي فكانت تُجيب عليها ﺑِ: “آه، ميليتسا!”. لا أذكرُ أنها وضعت في فمها قطعة واحدة من الشوكولا (تذكَّروا أنها تعمل في معمل للشوكولا!). رغم أن معظم العاملين كانوا يعتبرونها “مجنونة”، إلا أنهم كانوا يُكنون لها كلَّ الاحترام متسائلين في أنفسهم كيف تستطيع أن تَعمَلَ بكل تلك الكفاءة.
لم تكن ستيلا تشاركنا في محادثاتنا؛ كانت معنا، لكنها، في الوقت نفسِه، كانت تمتنع عن التعليق على أحاديث هي مضيعة للوقت. كثيراً ما كانت تَتصرّفُ ببلاهة حين كانت تُسأل عن رأيها في موضوع ما. كنت ألاحظ أنها كانت تفعل ذلك عَمْداً. فيما يخص الأمور العالمية كانت بالغة الجنون؛ إلا أنها، عندما تُسألُ المساعدة في العمل، كانت يداها الصغيرتان تتحركان برفقٍ لتقديم تلك المساعدة. ولو كان ذلك بإمكانها، لكانت عرضت عليك إنجاز كل عملك.
هذا هو الجو الذي أصبحنا فيه قريبتين من بعضنا. كنت أُكِنُّ لها كلَّ الاحترام، حتى إني لم أسألْها شيئاً عن حياتها الخاصة. أخبرتني أنها أتت من القسطنطينية. من المدهش أنّ كل مَن عرفها (حتى عَرَضياً) كان ينعتها “بالمجنونة”، غير أنني كنت أشعر بعدم صوابية حكمهم. الحقيقة أنني لاحظتُ، مبكراً وبمرور الوقت، أنها كانت تريد أن يعتبروها “مجنونة”. أحياناً، كان يصدف أن نكون سوية بمفردنا فيكون حديثُنا طبيعياً، إلا أنه، عندما يقترب إلينا أحدُهم، يصبح حديثها مُشَتَّتاً بالكلية. كانت تمنحني شعوراً بالصفاء، مما يجعل حُكمَ الآخرين عليها مختلفاً عن حكمي…
عملتُ في معمل الشوكولا لفترة قصيرةٍ. غالباً ما كنت أصادف ستيلا في الشارع، وكانت دائماً تردد تلك الصلاة في قلبها وعلى شفتيها. عادة ما كانت تتمتم تلك الصلاة بصوت مسموع، ولكن بهدوء. من فترة لأخرى، كانت تزورني في منزلي. في ذلك الوقت، كانت تعيشُ في غرفة الغسيل في ذلك المنزل ذي الطابقين. مرّت السنوات، ولم أعد أعلم عنها شيئاً، لكنني دائماً ما كنتُ أتذكّرها بشعور من العذوبة والحنين.
لاحقاً، وبعد أن تزوجْتُ، صادفتُها في دير ميلاد العذراء في أكريفنيو. كنا قد ذهبنا إلى هناك أنا زوجي، وكنا سنبيت اللّيل في الدير للاشتراك في القداس الإلهي في الصباح الباكر. اعتذرَت الراهبات منّا بكل تأديب شارحات لنا أنه لا يوجدُ مكان لنقيم فيه بسبب أعمال البناء الجارية، وأنه علينا مشاركة الغرفة مع “سيدة غريبة الأطوار”. قبلتُ بذلك. فقادوني إلى الغرفة حيث اكتشفتُ أن “السيدة غريبة الأطوار” ما هي إلا ستيلا العزيزة التي لم أكن قد شاهدتُها منذ سنوات. لم أستطع أن أصف فرحتي. بقينا متعانقتين لفترة طويلة، عندما، فجأةً، سمعنا الراهبات يَصُحنَ: “أيتها الأم ُ الرئيسة، تعالَي وانظري كيف تتعانق ستيلا وميليتزا!” كانت الفرحةُ تَغمرنا جميعاً. في ذلك المساء، كانت ستيلا تتصرّف كفتاة صغيرة بسبب فرحتها البالغة. كانت لا تنقطع عن التصفيق بيديها والضحك ورسم إشارة الصليب… “يا ميليتزا العزيزة. لا تستطيعين إدراك كم أنا مسرورة بزواجك. أتعلمين أنني صليت كثيراً لكي تتزوجي؟ إنني مسورة جداً، جداً. لكنني، فقط، حزينةٌ لأنك تتألّمين من رِجليك. أعرف أن لديك مشكلةً. الصّبر… الصلاة… (عليكم أن تعرفوا بأن ستيلا لم تكن تعرف بأنني كنتُ أُعاني من مرض مزمن ومؤلم في رِجلَيّ). سيتغيّر مركز زوجِك، لكن لا تقلقي- سيكون ذلك للأفضل. (طبعاً، وبدون توَقّع، أُجبِرَ زوجي على تغيير مكان عمله كطبيب بيطري).
تكلمنا في تلك الليلة على أمور كثيرة. في اليوم التالي، وعندما كانت ستيلا بعيدةً، أخبَرتُ الراهبات بإدراكي كم هي قديسة… في اليوم التالي، غادرَت ستيلا الدير. لقد أدركتْ ما قيل ولم تكن ترغب بالمديح. عندما التقينا في وقت لاحق، أَنَّبَتني بصرامة على مدحي إياها. أخذتني المفاجأة، ذلك أنني لم أقل أي شيء بحضورها. ورغم ذلك، فقد علمت أنني قمت بمدحها…
مرة أخرى، أَسَرَّتْ إلي قائلة: “لا أستطيع احتمالَ التكريم الذي تمنحُني إياه الأمُّ الرئيسة. اسمعي ما فعلَتْ: لقد جعلتني أشاركهم العشاء. أنا أشارك العشاء كلَّ أولئك القديسات! من أنا لأفعل هذا…؟ آه، لا، لا، لا، يا ميليتزا!”
فقدنا كلَّ أثر لها، بعد ذلك، لوقت طويل. كانت الأمُّ الرئيسة تُهاتفنا سائلة إذا ما كنا قد شاهدنا ستيلا. في ذلك الحين، أدركتُ أنني إذا ما أردتُ مقابلتَها مرة أخرى فعلي التّوقُّفُ عن الكلام عنها.
أصبحت ستيلا بلا مأوى. فقد أُحيلت للتقاعد، وخَصَّصَ لها مكتبُ الخدمة الاجتماعية راتباً تقاعديّاً بالحدّ الأدنى (حوالى 411 يورو شهرياً)، كانت توزِّعه على الفقراء والمساجين وبعثات التبشير في الخارج… صارت تعيش على مقاعد الحدائق العامّة وفي الأكواخ والكنائس المهجورة في الرّيف والسلالم والبنايات قيد الإنشاء. لقد ائتمنتني، شخصيّاً، على أحوالها هذه.
أقامت عندنا في أيام الشتاء القاسية تحت ضغط من الأم الرئيسة ومني. كانت دائماً تطلب أن تُقيم في أَوضَع الأماكن في البيت.
يَغمرُني الحنين إذ أتذكّر أننا في الأوقات التي كنا نستضيفها، كان الصَّفاء والنور يَحُلاّن، فيسود السلام. عندما كان زوجي ينضم إلينا كانت ترحل؛ ولم تكن تُجيبه عندما يتوجّه إليها بالكلام. كانت تبتهج عندما تتناول حساء البندورة الخاليَ من الزيت. لم تكن تنقطعُ عن تسبيح الله، فكانت نفسُها تَفيض بالشكر، فتقول بدون انقطاع: “الشكر لك، الشكر لك”. كثيراً ما كنتُ أطلب منها، في الليل، أن تتلوَ صلاة النوم، مُدَّعية أنني تعبة. من المستحيل أن أتوصل إلى وصف ما يحدث عندما تبدأ بالصلاة. تبدأ تعابيرُ وجهها بالتَّغيُّرِ شيئاً فشيئاً، فيستنير مُحَيّاها الصغير وتسهو عن نفسها أمام مجد الله. كنت أتركها وأذهب إلى النوم.
مرةً، كنت أفكر بها مُشفقةً كيف أنها “تهيم في الشوارع كالعصفور”، فنظرتْ إليَّ فجأةً وقالت: “لا تقلقي عليَّ. الله يشاء أن أنام على مقاعد الحدائق العامة. هل تعلمين أنني أكوي ثيابي على تلك المقاعد؟ (كانت ستيلا، أيضاً، خيَّاطة ماهرة). مثلاً، لقد قضيتُ وقتاً ممتعاً في عيد الفصح. يومَ سبت النور، اشتريتُ بعضاً من لحم الغنم، ثم وضعتُه في علبة حلوى صغيرة وأخذتُه إلى الفرن حيث قاموا بِشَيّه من أجلي، ثم خبَّأتُه تحت المقعد. وفي اليوم التالي، احتفلتُ بالفصح على ذلك المقعد، وكنت فرحة مسرورة لأن كاهنَ رعيتي قد أعطاني بيضةً حمراء فصحية. لذا، لا تقلقي علي أبداً. فإنني أعيش تحت كَنَفِ وقاية والدة الإله”.
في وقت آخَر، قصَّت عليَّ كيف أنها ذهبت إلى مركز البلدية الصّحّي (أو مستوصف البلدية) وقامت بغسل شعرها، فشاهدها الموظّفون هناك ووبَّخوها بشدة على فعلتها. لم تتقبَّلْ ستيلا توبيخَهم، ودخلت معهم في جدال قالت فيه أنها لم تكن تسرق شيئاً- لا الماء ولا الصابونة- لأنها، كونها عاملةً سابقة، كانت تدفع بانتظام كل ما يستحقُّ عليها للضمان الإجتماعي. كانت طريقتها في الكلام سيِّئةً جداً لدرجة أنهم طلبوا الشرطة التي أخذتها إلى المخفر. إليكم ما قصَّته عليَّ حول ما جرى بينها وبين ضابط الشرطة:
“سيّدي الضابط، إني لا أقتني شيئاً. أنظر لترَ أنني لا أملك سوى بطاقة الضمان الإجتماعي هذه، التي تُثبِتُ أنني سدَّدْتُ كلَّ ما عليَّ من مُستحِقّات. أما المركز الصحي (أو المستوصف)، حيث قمت بغسل شَعري، فهو تابعٌ للضمان الإجتماعي. لذا، ما قمتُ به كان من حقي. عندما كنتُ داخلَ مبنى الضمان الإجتماعي، أحسستُ بأنني في بيتي. أرجو أن تسامحَني”.
قال ضابطُ الشرطة: “تستطيعين الانصراف. لكن، عندما تَغسلين شَعرَكِ في المرة التّالية، تأكدي ألاّ يراكِ أحد. والآن اذهبي في طريقِك”. فغادرت وهي تمجّدُ الله وتشكرُ ضابطَ الشرطة.
كثيراً ما كانت تنام، ليلاً، في صالات المستشفيات. أو بالأحرى، علينا القول بأنها كانت تَدَّعي النوم، ذلك أنه ما أن يسود السكون في المستشفى حتى تهرع إلى المرضى المتروكين وبحاجة للمساعدة. لكن، ما أن تشعر بأن أحدَهم قد لاحظ وجودَها حتى تبدأَ بلعب دور “البلهاء”.
في كثير من أوقات الصباح، وعندما أكون في طريقي للعمل (حوالى الساعة6:30- 7:00)، كنت أهرعُ باتِّجاهها فيما تكون على وشك الرحيل من “المركز الاستشفائي للحوادث”، وعندما أُلحُّ عليها في السؤال لماذا لا تأتي للمكوث عندي، كانت تعترف لي بأنها كانت تحب القديسين جداً؛ حتى أنها تعنتي بهم كأنهم أصدقاؤها أو أقرباؤها، وأنها كانت تُسارع إلى أعيادهم واحتفالاتهم، وتكون في غاية السعادة حينما يوزَّع المأكلُ هناك. كانت تَحُجُّ إلى عدّة أماكن خلال السنة. في أحد حاملات الطّيب، كانت تتواجد في مانتامادوس (في جزيرة ليسفوس) من أجل عيد رئيس الملائكة ميخائيل، ثم في جزيرة آيينا من أجل عيد القديس نكتاريوس، أو في نافباكتوس لعيد القديسة باراسكيفي الخ… ، أرغب، بشكل خاص، أن أَذكر ما يلي: “مرةً، ذهبت إلى عيد القديسة باراسكيفي في نافباكتوس وتصرّفت كالأطفال”، هذا ما تكلمتْ عنه هي نفسُها. كانت مولعةً بالأب إيروثيوس فلاخوس الذي كانت تعتبرُه مقرَّباً جداً إليها؛ كانت تُسَرُّ بمشاهدته يؤدّي الخِدَم وهو في ثيابه الكهنوتية الرائعة وتستمع إليه يتكلم بطريقته الجميلة. كانت تُكِنُّ له بالغَ الاحترام. كانت تتفاخر بأنه تكلم معها ومنحها بركتَه في دير أكريفينو. كانت تبتهج بمرآه، كما كانت تقول.
كلُّ ما كانت ستيلا تتكلم به كان، بالنسبة لي، مصدرَ مسرَّة وراحة. كنت أرى عجوزاً تتصرف وتشعر كأنها بنتٌ صغيرة.
في إحدى المرات، كنا نقيم احتفالاً في بيتِنا مع ضيوفِنا القلائل. فجأةً، ظهرت ستيلا. جلست وأجلستني بقربها. من بين الضيوف، كان هناك زوجان يعانيان من مشاكل عديدة، وكنت على علم بذلك. كانت ستيلا- وبعِباراتها الخاصة- تتمتم صلاة و في الوقت نفسِه تُخبرني، بصوت منخفض، ما كان يجري من مشاكل مع ذلك الزوج، أما مع الضيوف الآخَرين فكانت تتكلم بأمور أخرى أو تبتسم لهم. إلا أنها كانت، دائماً، في تركيز مستمر على الصلاة. ظَنَّ مُعظمُ الحاضرين أنها مَعتوهة، لكن ذلك ما كانت ستيلا تريده، أن لا يفهموها.
في 12 آب سنة 2004، كنتُ في مكتبي وعلى وشك السفر إلى جزيرة ليسفوس لعطلتي السنوية. طوال الصباح، كنت أعاني من فكرة بديهية- أو كما نقول كان عقلي عالقاً. لم يكن لدي علاّقة مفاتيح من أجل مفاتيحي الاحتياطية التي كنت مزمعةً على تسليمها لجيراني حتى يتسنى لهم رَيَّ حديقتي أثناء عطلتي. فجأة، وحوالي وقت الغداء، فُتِحَ بابي ودخلَتْ ستيلا وهي تلهث من التعب. قالت لي: “خذيها. لقد كنتُ في ساحة “أومونيا” حين طلبَتْ مني أن أجلب لك علاقةَ المفاتيح هذه”. أصِبتُ بالصدمة. إذ عندما سألتُ عمّن طلب منها جلب العلاّقة لي، غمغمت: “والدةُ الإله”، ثم بدأت بتصرفها المجنون المشتت المشوش. كانت قد اشترت تلك العلاّقة من الدير، وكان عليها صورةٌ لوالدة الإله. بعد إلحاحي عليها أن تبقى معنا لوقتٍ أطول لكي تأخذ قسطاً من الراحة وتتناول شيئاً من المرطبات، جلسَتْ على الكنبة وصارت تُخبرني أموراً عنها شخصياً. قالت لي: “عزيزتي ميليتزا، سوف أموت في الشارع وحيدة. لن يعرفَ أحدٌ بذلك، لا أحد…”. آلمتني تلك الكلمات في العمق لذا قلت لها، بشيء من القوة: “عزيزتي ستيلا، أرجوك، أخبريني عن ذلك الأمر. أريد أن أعرف عن رحيلك”، ثم ضممتُها. بعد ذلك، أمسكَتْ عن الكلام لدقائق، ثم، فجأةً، استدارت ونظرت إلي نظرةً ملؤها الحب وقالت لي: “عزيزتي ميليتسا، سوف تسمعين بالأمر، سوف تسمعين”.
بقيتْ عندي حتى تشرين الأول سنة 2004. في ذلك الوقت، كانت تعاني من آلام في رجلها مما أثّر على مشيَتها. صدف، في ذلك الوقت، أنني كنت أستضيف شخصاً لم يستسِغ حضورَها، خاصةً أثناء صلواتها المسائية، ذلك أنها كانت تنام باكراً وتستيقظُ في وقت متأخِّرٍ ليلا، ثم تبدأ بالترتيل بصوتٍ عال. غالباً ما كنا نسمعها تردّدُ: “حي هو الرب الإله” لذا، وبسبب هذه المشكلة، عرضَتْ علينا صديقتُنا كريسولا أن تنام ستيلا في شقة خالية كان يستعملها والداها المتوفيان. كان من دواعي سرور ستيلا ان تعيش في بيت بقرب أناس يحبونها ويتفهّمونها، خاصة وأنها كانت قد أصبحت تعاني من قدميها. بقيت هناك حتى أيار سنة 2005. في الأول من حزيران سنة 2005، شاهدتها كريسولا تغادر البيت. بعد ذلك اليوم، لم نعثرْ لها على أي أثر.
بدأ قلقُنا يزداد يوماً بعد يوم، لكننا كنا نتوقّع أن تَظهر ثانية، ذلك أنه كان من عادتها التَّواري. بين وقت وآخر، كنا أنا وكريسولا نتّصل بالأم الرئيسة على أمل أن نعرف شيئاً عن ستيلا. كانت الأم الرئيسة تقول: “اذهبا وفتّشا عنها”. لكننا كنا على اقتناع بأنها قد غادرت في رحلة إلى مكان ما، وبأنها سوف تعود.
ذات مساء، بعد فصح سنة 2006، كانت الوقت متأخّراً والعائلة مستغرقة في النوم، بعد استلقائي سرعان ما نمتُ- وهذا على غير عادتي- لكن حلماً قوياً أيقظني بعد وقت قصير (إذ عرفتُ ذلك من الساعة): رأيتُ ستيلا منتصبةً تحت شجرة جميلة وهي تستند قليلاً على جذعها. كانت تبدو شابّةً وجميلة وعذبةً بشكل استثنائي وهي تنظر إليَّ نظرة دافئة لا يمكن وصفها. أحسست أن صرخةً قد أفلتت مني ممزِّقةً صدري ووصلت إلى السماء: “عزيزتي ستيلا… عزيزتي ستيلا… عزيزتي ستيلا…”، ثم ركضتُ لأعانقَها، ويداي ممدودتان بقوة للأمام. لكنها اختفَتْ، عندما اقتربتُ من الشجرة، ووقفت في مكانَها شمعة فصحية بيضاء نقية، وكانت تُشِعُّ بنورٍ رائعٍ، وكنت أرى لَهَبَها يصعدُ بخط مستقيم إلى السماء. ثم انتبهتُ لوجود قُصاصةِ جريدةٍ على الأرض بقرب الشمعة وعليها صورةُ جسدٍ مُشوّه بشكلٍ مُرَوّع كما لو أنه تعرض لحادث سيارة فظيع…
رسالةٌ لا تُطاق اخترقت كياني: “لقد ماتت ستيلا”. استيقظتُ ومشاعرُ متضاربةٌ تنتابُني: فرحٌ غامرٌ بظهور ستيلا مع نور الشمعة، لكنه مَشوبٌ بتلك الصورة التي رأيتُها في قُصاصةِ الجريدة. رغبتُ في إيقاظ زوجي ديمتري، لكي أرويَ له ما حدث بخصوص ستيلا “العصفورة الصغيرة”، كما كنّا نطلق عليها، ليس فقط لأنها عاشت “كعصفورٍ منفردٍ على السطح”، بل أيضاً لأنها كانت تشبه العصفور (الدّوري) في مشيتِها، إلا أن شيئاً أقوى مني منعني من إيقاظِه. في اليوم التالي، اتّصلتُ بالأم الرئيسة وبكريسولا وأخبرتهما عن حلمي. كان رأي الاثنتين بأنه يجب البحث عن ستيلا. منذ تلك اللحظة، بدأنا بالبحث الطافح بالمُعاناة. سألنا شرطةَ المرور والمستشفيات والشرطة العسكرية وبرَّادات الموتى…
اكتشفَت كريسولا أنه، في الثالث من حزيران سنة 2005 وفي الساعة السادسة وعشر دقائق، قُتِلت امرأةٌ مجهولةُ الهوية (ليس للعصافير أسماء)، قرب بيتها. ميتتُها كانت فورية. كلُّ التّحرِّيات أثبتت أن المرأة المجهولة كانت، بدون شك، ستيلا. بينما كانت تقطع الطريق، دهستها سيارةٌ كان يقودها، بسرعة جنونية، ضابطٌ في الجيش. لقد سُحِقَتْ. فقط وجهُها كان بالإمكان تمييزُه (كما تبيّن من صوَر شرطة المرور).
بقي جثمانُ ستيلا في مستشفى أسكلبيون حتى الثامن عشر من حزيران سنة 2005، ثم تمّ نقلُه إلى معرض الجثث الرئيسي في المستشفى الشعبي في أثينا حيث بقي مع الجثث التي لم يطالب بها أحد حتى العشرين من تموز سنة 2005. بعدها، أُخِذَ للدفن. أبلغَنا مكتبُ دفن الموتى بأنه لم تتم إقامة صلاة الجنّاز، فقط أقيمت صلاة التريصاجيون على القبر(الصلاة القصيرة التي تُقام في البيت قبل الذهاب إلى الكنيسة لإقامة صلاة الجناز).
لا بد أن أشير بأننا، جميع الذين كنا منخرطين في التّفتيش عنها، كنا نتكلم معها في صلواتنا قائلين: “إذا كان باستطاعتِك سماعُنا، أرشدينا وساعدينا…”. وهي قد ساعدتنا؛ لقد أُرشِدنا إلى قبرها “غير الموجود” والذي كانت قد نَبتت عليه الأعشاب في الطّرف الشرقي من مدافن مقاطعة زوغرافو، وقد أُشير إليه بالرقم 8915…
بعد أربعين يوماً من الفصح، أي بعد سنة من رقادها، أقيمت خدمةُ الجنّاز لراحة نفس ستيلا في كنيسة سيدة الينبوع حيث كان من عادتها الصلاة في فترة الفصح. قال الكاهن عن ستيلا: “كان لديها تصرّفاتُها الجنونية، لكنها كانت تقول أشياء صحيحة، ودائما ما كانت تأتي إلى هنا مُحَمَّلةً بالطّعام من أجل الفقراء ومعها أيضاً القربان والزيت والخمر للذبيحة الإلهية… حتى أنها تبَنَّت كلفة رسم أيقونة القديسة مارينا لكنيستنا…”.
في الثالث من حزيران سنة 2006، تمّت إقامةُ ذكراها السنوية، بحضور أسقفها المفضّل بامتياز إيروثيوس (فلاخوس)، في دير ميلاد العذراء في أكريفينو.
في إحدى المرات التي التقينا فيها، قالت ستيلا: “جعلتني هذه الحياة أشعر بالكمال. فقد منحني اللهُ كلَّ شيء. أمنيةٌ واحدةٌ فقط لم تتم: أردتُ أن يكون لي “فليونان” في المعمودية كنت سأُعطيهما إسمَي القديس نكتاريوس ووالدة الإله. لكن لا أحد يرغب بي كعرابة”. عندما أخبرتُها بأنني سأحاول تعميد ولدين نيابةً عنها- والواقع أنهما عندما سيكبُران سأُخبرهما عن “عرابتِهما الحقيقية”- طارت من الفرح وهتفت: “الآن نفسي في سلام، وأنا جاهزةٌ للرحيل”.

ملاحظات لستيلا بخط يدها

لا شيء فعلتُه، في حياتي، صالح وصحيح. إذا كنتُ أعرف وأقرأُ وأَدرس وأَكتب لغةَ وطني، اللغةَ اليونانية، أو أيَّ أمرٍ آخَر عظيم أو صغير، فهل أَفَدْتُ أبناءَ جنسي؟

آخرون غيري قاموا بأمورٍ عديدة صالحة بصمت كلّي وصبر. أمور صالحة بالحقيقة بمعونة الله. حيٌّ هو الله، بعونه لن ينتابَني اليأس- فهو لن يتخلّى عني في يأسي. لم أفكّر بشيء حسن. إني مذنبة، وأستحقُّ عقابات كثيرة.
الله رجائي في كل أمر. لن ينتصر، بأي شكل، عدوُّ نفسي. ستيلياني.
في عناية الله. نعم، عناية المسيح. “غريبةٌ أنا وزائرةٌ مؤقّتة في هذه الأرض. رجائي بكَ يحملني فوق كل الصِّعاب.
إلهي، شكراً لك. يايسوعي. أيتها القديسة كاترينا تشفّعي لأجلي، 25 تشرين الثاني. القديس ستيليانوس، 26 تشرين الثاني”.

*ينتمي “المتبالهون من أجل المسيح” إلى فئة من الناس قرَّرت السير في الطريق الضيّق. رغم أنهم يسكنون في المدينة، إلا أنهم يتظاهرون بالجنون. يقومون بأمورٍ عادةً ما يقوم بها المجانين، لكن تصرفاتهم لها مدلول جوهري (أو ذو قيمة؟) “المتبالهون من أجل المسيح” لديهم طاقةٌ عقلية رفيعةُ المستوى؛ رغم أنه لديهم إمكانيةُ التَّحَكُّم بمَلَكاتهم العقلية، إلا أنهم قد اختاروا طريقةً قاسية للعيش…

طريقة حياة “المتبالهين من أجل المسيح” متطابقة- ربما أيضاً بتطرُّف- مع الجنون في المسيح، الذي هو جوهر روحيّة الكتاب المقدس. ليس بمستطاع الكل أن ينجحوا فيء نمط التَّباله من أجل المسيح- كما لاحظنا سابقاً- ذلك أنها عطيّةٌ خاصّةٌ ونعمة خاصّة من لَدُن الله. على أي حال، من الممكن لأي كان الدخول في خبرة التباله من أجل المسيح بشكل مُعتدل نسبي؛ هذا ندركه في أن حياة الكنيسة- حياة المحبة والإيمان وضبط النفس- تطمح إلى مملكة أخرى هي مصدر إلهام للكنيسة: مملكةٌ تُخالف بوضوح سياسات أهل هذا العالم. هذا النّمط من حياة الكنيسة لا يستطيع أن يَفهمه بسهولة من يتّخذُ المنطقَ والمَلَكات الحسّية محوراً لحياتِه. لا تُلغي الحياةُ المسيحيةُ الَمَنطقَ والحواس، إنها فقط تتجاوزهما.

Leave a comment