خلود النفس في اللاهوت الأرثوذكسي

خلود النفس في اللاهوت الأرثوذكسي

المتروبوليت إيروثيوس فلاخوس


(بتصرّف)

كل الكتاب المقدس يتحدّث عن الخلود، كما نصوص التقليد الأرثوذكسي، وتحديداً في الصلوات وتعليم الآباء. ولكن لكلمة “خلود” معنى مختلف تماماً عن الفلسفة، سوف نحاول أن نشرحه باختصار عن طريق عرض المعاني الأربعة المرتبطة بهذه الكلمة.

المعنى الأول للخلود مرتبط بما هو خالد بالطبيعة وليس له بداية ولا نهاية. وفي هذا المعنى، يكون الله وحده هو الخالد بالطبيعة طالما أن الله ليس له بداية ولا نهاية، وهو أبدي، أي أنه فوق الدهور. وبالتالي نرتل في الكنيسة “الخالد المقدس..”. يتكلم بولس الرسول عن المسيح الذي هو الله الحقيقي قائلاً: “الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يدنى منه” (1تي16:6).
المعنى الثاني للخلود يرتبط بما هو خالد بالنعمة، أي ما له بداية وليس له نهاية لأن الله منحه هذه النعمة والإمكانية. وفي هذا الإطار، نتحدث عن خلود المرتبط بالأبدية. وهذا يعني أنه من الضروري أن توجد نهاية أيضاً لما له بداية. فالله خلق نفس الإنسان، وبالتالي تكون لها بداية ملموسة، ولكن عندما خلق الله النفس أراد لها أن تكون بلا نهاية. وهكذا، على حين أن الله خالد بالطبيعة فإن نفس الإنسان على الرغم من أنها مخلوقة إلا أنها خالدة بالنعمة، أي أنها أبدية وبالتالي ليس لها نهاية؛ وهذا لأن الله أراد لها أن تكون هكذا. فعلى الرغم من انفصال النفس عن الجسد بالموت، إلا أن الشخص لا يفنى جوهرياً، ولا تكفّ النفس عن الوجود، ولكنها تحيا وتنتظر مجيء المسيح الثاني لكي تدخل الجسد المقام، بحيث يعيش الإنسان بجملته إلى الأبد.
المعنى الثالث لخلود النفس مرتبط بوجود نعمة الله داخلها. فالنفس موجودة ولكنها أيضاً متحدة بنعمة الله، فهي تعيش في الله. ونفوس الخطاة أيضاً موجودة من المنظور الوجودي، ولكن تنقصها قوة الله المؤلِهة. وهذا يعني أن نفوس الخطأة تحيا إلى الأبد، ولكن بدون الله. وهذا ما يسمى الموت الروحي. وفي هذا المعنى يقول القديس باسيليوس الكبير أن الخطيئة هي “موت غير المائت”، ولا يعني هذا أن النفس تموت وجودياً وتُفقَد، ولكن أنها تعيش دون أن تقتني نعمة الله.
المعنى الرابع للخلود مرتبط بأبدية الإنسان بجملته (النفس والجسد) عندما يشترك أبدياً في قيامة المسيح.
نستطيع أن نقول بوجه عام أن نفوس الأبرار والأشرار أبدية وخالدة بالنعمة. وحيث أن الإنسان يتكون من نفس وجسد (لأن النفس ليست هي جملة الإنسان ولكنها نفس الإنسان، والجسد ليس هو جملة الإنسان ولكنه جسد الإنسان). فبالتالي تنـتظر النفس، بعد أن تترك الجسد، المجيء الثاني للمسيح لكي تدخل في الجسد المقام. ثم بعد ذلك سوف يحيا الإنسان بجملته، نفساً وجسداً، إما حياة خالدة في المسيح أو حياة أبدية بدون الاشتراك في قوة الله المنيرة والمؤلهة. يقول القديس مكسيموس المعترف أن الأبرار سيعيشون “صلاحاً أبدياً”، أي حياة أبدية صالحة، على حين أن الخطأة سيعيشون “شقاءً أبدياً” أي حياة أبدية مأساوية.
يختلف اللاهوت الأرثوذكسي عن الفلسفة في موضوع خلود النفس. فبحسب التقليد الأرثوذكسي، النفس ليست غير مولودة، ولا هي غير مخلوقة، ولم توجد أولاً في عالم الأفكار غير المتغير، ولكنها خُلِقَت في لحظة محددة. والنفس ليست خالدة لأنها وجدت قبل الجسد، ولا بسبب أن هذه هي خاصيتها الطبيعية، ولكن لأن الله أراد لها أن تكون كذلك. فمنذ خلقها، منحها الله الخلود، أي ألا يكون لها نهاية. وبالتالي يكون الخلود خاصية للنفس، ولكن بنعمة الله وليس بالطبيعة.
بالإضافة إلى ذلك، لا يفصل التقليد الأرثوذكسي النفسَ عن الجسد بطريقة جدلية، طالما أنه ليس لدينا ازدواجية، ولكن الإنسان بجملته مصنوع من نفس وجسد. فليست النفس هي جملة الإنسان، ولكنها نفس الإنسان. وهذا هو السبب الذي لا يجعلنا نعطي أولوية للنفس على حساب الجسد.
كل الأسرار الكنسية تقدّس الشخص بجملته أي نفساً وجسداً. نحن لا ننظر للجسد على أنه سجن للنفس، ولكن كشيء مخلوق بالله، وبعد سقوطه ارتدى أقمصة من جلد، أي الفساد والموت. ولكن الإنسان، من خلال قيامة المسيح، اكتسب بجملته (حتى الجسد) إمكانية القيامة.
وبالتالي، من جهة الخلاص، المهم ليس بقاء النفس بعد الموت وخلودها بالنعمة، لأنه حتى الخطأة سوف يبقون أحياءً، ولا قيامة الأجساد هي الشيء المهم، لأن أجساد الخطأة أيضاً ستقوم. فالشيء المهم هو الحياة في المسيح بعد الموت، وبعد قيامة الأجساد. وبالتالي يكتسب خلود النفس والإنسان معنى آخر في الخلاص الأرثوذكسي. فليس المهم طول الحياة، ولا الحياة بعد الموت، ولكن تجاوز الموت الذي يتحقق من خلال الحياة في المسيح.
إن جسد المسيح ودمه هما، كما يقول الآباء، “دواء الخلود”، لأننا بهما نكتسب إمكانية الحياة الأبدية في المسيح. وبالتالي نفهم خلود النفس كعطية من الله، وخلود الجسد كشركة في جسد المسيح القائم من الموت. إذا نظرنا إلى موضوع الخلود من منظار مختلف، نخرج عن اللاهوت الأرثوذكسي، ونتشوّش بالفلسفة التي تترك الإنسان بدون فداء.

Leave a comment