التكريس الكهنوتي

التكريس الكهنوتي


الأرشمندريت توما بيطار

التكريس بعامّة

كلّ معمّد يفترض أن يكون مكرّساً للمسيح. ليس بعدُ لنفسه بل لمن اشتراه بدمه. لا يعيش لنفسه ولا يموت لنفسه. المسيح صار سيّد حياته، محور حياته. إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللربّ نموت.يفترض بالمعمّد أن ينظر إلى نفسه كعبد لله، أن يتعامل مع الناس كعبد للمسيح، هذه صورته عن نفسه. أما المسيح فلا ينظر إليه كعبد ولا يعامله كعبد بل كإبن. والعبد يسأل السؤال ذاته الذي طرحه شاول، أي بولس العتيد، لمّا تراءى له السيّد في طريقه إلى دمشق: “ماذا تريد ان أفعل؟ (أعمال 6:9).

المؤمنون أمة كهنة. هذه موهبتهم. والكاهن هو من يقدم الذبيحة. المسيح كان الذبيحة ومقدّمها. هو المقرِّب والمقرَّب. المؤمن على مثال المسيح. هو المقرِّب والمقرَّب. يقرِّب ذبيحة نفسه. كيف؟ يستعبد نفسه لله. يعتبر كل شيء نفاية من أجل فضل معرفة المسيح. من أجل فضل الدخول في شركة معه. كيف يستعبد نفسه لله؟ بالتخلي عن مشيئته. يتّخذ وصية السيّد كأنها كلمته. يصبح من معدن كلمة الله. يكون مكرّساً لله بالكلية. الإيمان بيسوع أصلاً تكريس أو لا يكون لأنه استيداع الروح بين يديه. “في يديك أستودع روحي” (لوقا 23). حفظ الوصية تكريس لأن الوصية تعبّر عن مشيئة الله. المحبة في المسيح تكريس لأنها بذل الإنسان نفسه عن أحبائه لأجل يسوع. يبذل وقته وماله وأتعابه وفكره وصحته، يكرّس عائلته وكلّ ماله، وصولاً إلى بذل حياته بالكامل، إلى تكريس نفسه بالكامل. المسيح كرّس نفسه لنا لمّا اتخذ بشرتنا لكيما نكرّس نحن أنفسنا له إذا ما آمنّا به. أن يكرّس المؤمن نفسه لله معناه أن يعطي روح الله القيادة بالكامل. فقط الذين ينقادون بروح الله أولئك هم أبناء الله (رومية 14:8).
ولكن، في التكريس كليّة في الموقف الداخلي لا مناص منها. من ليس معي فهو عليّ. فلا يتذرعنَ أحد بالضعف البشري. الضعف البشري يطال القدرة على السلوك بحسب هذا الموقف ولا يجوز أن يطال الموقف الداخليّ بالذات. وهذا أمر طبيعي لأن الضعف واقع الطبيعة البشرية. أما موقفنا الداخلي فمُستمَد من وعد يسوع لنا من إيماننا به، لا من قدرتنا. هو القادر فينا. ولكي نعرف أنه القادر فينا يجب أن نعرف ضعفنا. الإحساس بالضعف مفيد لا بل ضروريّ. مهم جداً أن يعرف المرء حجمه، إذاً ضعفه، وأنّ ما له يأتيه من الله. الخلاص نعمة من فوق تعطى لنا بالإيمان، بالتسليم لله، بالثقة بالله، باليقين أنّه هو القادر فينا. المهم ألا ينعكس الشعور بالضعف إنقياماً في النفس. المهم أن تبقى الإرادة حاضرة عندي. السؤال المطروح عليّ دائماً: أتريد ان تبرأ؟
لا: أتقدر أن تبرأ؟ لا بأس إن لم أجد في نفسي القدرة على أن أفعل الحسنى (رومية7). النعمة الإلهية هي تكمّل الناقصين في كلّ حين. قوة الله بحاجة إلى ضعفنا لتكمل. التجربة التي أتعرض إليها دائماً هي أن أيأس لأني لا أقدر أن أتمّم الوصية. التجربة يسمح بها الرب الإله لأتّضع لئلا أيأس. وإذا آمنت واتضعت عرفت أن كلّ عطية صالحة منحدرة من العلو. فقط المتّضعون رفعة الله. يمكنهم أن يكونوا في شركة حقّانية مع الله. يعطون المجد لله. المجد للآب والإبن والروح القدس. هذا الكلام يخصّنا جميعاً. يخصّ كلّ واحد منّا. فيه نسلك في جدّة الحياة أو نبقى في عتاقة الخطيئة والموت. من لا يسلك فيه يكون قد أنكر الإيمان وهو شرّ من غير المؤمن.
في إطار التكريس بعامّة نطرح التكريس بخاصّة، لهذه الخدمة أو تلك، في هذا الإتجاه أو ذاك. كلّ كلام عن التكريس لا يقابله تكريس فعليّ للمسيح، بالروح والحق، هو لغو.

التكريس الخاص

الكنيسة بحاجة الى خدّام “لتكميل القديسين، لبنيان جسد المسيح” (أفسس 4). بحاجة إلى اساقفة وكهنة وشمامسة ومعلّمين ومبشرين… هؤلاء تفرزهم الكنيسة، تختارهم لسدّ حاجاتها. هناك شروط يجدر توفرها فيهم، عادة ما تكون محدّدة. يصلّى لهم. توضع الأيدي عليهم فيُعطون من فوق نعمة خاصة تكمّلهم وتعينهم. بعض الكنائس أعجز من أن يفي بحاجة نفسه. هذه تستعين بكنيسة شقيقة أكثر إزدهاراً منها. الكنيسة التي تضعف فيها حدّة الغيرة على جسد المسيح تكون في انحطاط، في انفراط، في تآكل. الكنيسة التي يرعى أبناؤها فيها أنفسهم ولا يرعونها تخرب. صدق من قال إن الكنيسة لا تقوى عليها أبواب الجحيم. ولكن هناك كنائس محلية زالت. الكنيسة التي لا تنهض تموت. النهضة في الكنيسة تتمثل في أرعة أمور:

1 – وعي المؤمن لحتمية تكريس نفسه للمسيح.
2 – تكريس المؤمن نفسه فعلياً للمسيح.
3 – الغيرة على بيت الله.
4 – الذود عن كنيسة المسيح.
في أنطاكيا هاجس القداسة خافت. الفرديّة سيدة الموقف. الغيرة على بيت الله واهية. جماعة القديسين المتراصة مفتقدة إلى حدّ بعيد. قلة متناثرة تُغويها القداسة. ليس عندنا تيّار قداسة. لذلك النهضة عندنا بدء نهضة. نهضة خجولة. التكريس الكبير ليس واقعاً. الحسّ المشترك ضعيف. تسعون بالمائة مما يُسمَّون أرثوذكس في أنطاكية، تسعون بالمائة على الأقل، من دون رعاية تُذكر. من تراه يبالي!؟ قلّة تبالي! ليس عندنا ما يكفي ولا لقطاع واحد من قطاعات الخدمة. على سبيل المثال، حاجتنا الى الكهنة بالسرعة التي نسير بها، بمعدل كاهن أو إثنين أو ثلاثة يُسامون في السنة، لا يمكن تلبيتها اليوم إلا بعد مائة أو مائتين أو أكثر من السنوات. مثلاً أبرشية دمشق فيها حوالي 400 ألف شخص أي ما يعادل 80 ألف عائلة. الكاهن الواحد – أللهمّ إذا كان صالحاً – يقدر على أن يرعى ما يعادل مائتي عائلة. فنكون بحاجة إلى أربعمائة كاهن. عندنا منهم عشرون كاهناً. إذاً نحن بحاجة إلى 380 كاهناً لنسد حاجتنا اليوم. إلى كم من السنوات نحتاج لنغطّي هذه الحاجة اليوم؟ أترك ذلك لحساباتكم!
المشكلة كبيرة والخطورة حقيقية. شعبنا، بكلّ بساطة، بلا رعاة. نحن نحسب الرعية لنا، وغيرنا يرعاها. شعبنا متروك للجهل والغربة. إذا ما كان لنا بعدُ شعب اليوم فلعلّ، في ذلك، بشكل أو بآخر، شيء من الرعاية الإلهية المباشرة. ولعلّ للعامل الطائفيّ والتركيبة العائلية شبه القبلية تأثيراً. أولوياتنا عديدة لكن أولوية الأولويات أن نؤَّمن رعاة لهذا الشعب، رعاة على قلب الله. كلّنا بهذا العمل: المجمع، الأساقفة، مجالس الرعايا حيثما وُجدت، المجموعات، الافراد. نحن أيضاً معنيون، ربما أكثر من غيرنا لأنه يُفترض بنا أن نكون عارفين ومطّلعين أكثر من غيرنا. الكنيسة بحاجة إلى مؤمنين غيارى يكرّسون أنفسهم. صحيح أن هناك واقعاً إدارياً أو إقتصادياً بحاجة في إلى تغيير في كنيسة المسيح. لكنّ الحاجة الكبرى هي إلى روح الشهادة، إلى روح التضحية أولاً. المعادلة نحن قادرون على تغييرها بنعمة الله. لا نكن سبحانيين. نحن عاملون مع الله. الله لا يعمل عنا. وهو يطالبنا بذلك. السؤال المطروح على ضمير كلّ واحد منا: هل تترك كنيستك لرحمة الأقدار غير مبال إلا بما هو لنفسك أم تنبري لأداء دورك؟ هل تجلس على كرسيّك الخاصّ مكتّف اليدين تتفرّج وتنتظر وتطلق الأحكام يميناً ويساراً على البطريرك والأساقفة والكهنة فيما يتضور شعب الله وخراف المسيح المهجورة جوعاً إلى الكلمة والرعاية؟ إذا لم أكن مستعداً لأن أقدم نفسي في هذا الوقت الصعب فما المنفعة؟ الربّ يسأل، كما في إشعياء 6: “من أُرسل ومن يذهب لأجلنا”. فبماذا نجيب؟ أنقبع في لامبالاتنا وتبرير أنفسنا أم نقول كأشعياء: “ها أنذا أرسلني”. طبعاً، الاستعداد الطيّب لا يكفي، لكنه مهم جداً. قد لا أصلح للخدمة. ليقرر ذلك ذوو الشأن. إذا لم نكن على هذه الموجة من الغيرة والاستعداد فمعالجتنا موضوع التكريس الكهنوتي اليوم باطلة. كلامنا، والحال هذه، مجرد دردشة.
ولكن ثمّة من يتوقف عند موضوع الدعوة الكهنوتية. يدّعي أو يحب أن يدّعي أنه ليس مدعواً إلى الخدمة الكهنوتية. كيف ننظر إلى هذا الأمر؟

الدعوة والكاهن

إذا كنا نحسب أن السيد الرب يختار من يريده كهنة له، ثم يدعوهم بطرائق هو يعرفها فيستجيبون، فإننا نخطىء. الإختيار الإلهيّ وارد ولكن في حالات خاصّة الله يعرفها. في الأحوال العادية، الكنيسة هي التي تختار من تراه مناسباً للخدمة ولكن في إطار علاقتها الحيّة برأسها المسيح. بدون الله لا نستطيع شيئاً. الكلّ ينبغي أن يكون بروح الله. ولكنّ الله جعل الامور بين يديّ الكنيسة. من هنا المسألة هي مسألة شفافية في العلاقة مع الله. هذه الشفافية لتتحقق تحتاج إلى توبة من قلبنا، إلى نسك، إلى تواضع، إلى صلاة. روح الله، إذاً، نلتمسه في هذا الإطار. قلب الله نستقرئه في هذا الإطار، وإلاّ خرجنا من دائرة المعرفة بالروح إلى دائرة التخمين، إلى دائرة التحليل الفكريّ، إلى دائرة المشاعر والأحاسيس، إلى دائرة القناعات المحكومة بالأهواء. الانتماء للكنيسة، إذ ذاك، ينتفي عن أن يكون بالروح والحقّ. يصبح إنتماء فكرياً نفسياً. فلا يتسرّعن أحد ويدّعي أنه لا يقدر أن يتصور نفسه كاهناً، أنه ليس مدعواً إلى الكهنوت. كيف تعرف؟ كيف تجزم؟ لعلّك تُسقط على الله ما هو منك! كيف تخرج من دائرة نفسك؟ بحفظ الوصية، بالصوم، بالصلاة، لا سيّما بالطاعة للأسقف، لأبِ الاعتراف، للأب الروحي… لا يكلّمن الله، في العادة، مباشرة بل من خلال آخر. الآخر علامة لخروجنا من ذواتنا. مناخك الداخليّ ينبغي أن يتغير أولاً. لا تتمسكّن برأيك. أسلِمْ نفسك للرب يسوع تسلم. كن مستعداً لأن تسمع، لأن تقبل قصد الله لك، في كلّ حال، تجد رأس الخلاص. الموضوع إذ ذاك يطرح ذاته لديك بطريقة جديدة لعلّك لم تختبرها من قبل.

ولكنّ ليس كل من يرغب في الكهنوت يصلح للكهنوت، مع أنه إن اشتهى أحد الكهنوت فإنه يشتهي عملاً صالحاً. للكهنوت حدود، شروط، مقوّمات. ماذا تراها تكون؟

مقوّمات الكهنوت

أولاً: القداسة.


أن تكون القداسة هاجسك المحوري. أن تتمحور حياتك حول يسوع. أن يكون هو همّك الأول والأخير. أن يكون قلبك له. أن يكون سعيك إليه. كاهن لا يسعى إلى القداسة ولا تهمّه القداسة هو موظّف أجير، دخيل، شاهد زور، بائع كلام، تاجر خدمات. يبيع القدسات كما تُباع البطاطا. وهو خير عميل ضد المسيح. همّه في أجره، في ربحه، في مركزه، في مجده، في كرامته، لا في ما للمسيح. يتجلبب بجلباب الواجبات والشكليات والأصول دون ما هو لروح الربّ.

ثانياً: الفقر.


يتبنّى الفقر الطوعيّ. المسيح غناه. يعيش بالقليل. يرضى بالقليل. يُسلم أمره لله. قلبه واثق بالربّ. يؤمن بمن قال “لا أهملك ولا أتركك” (عبرانيين 13). يؤمن بمن قال: “لا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس… لأنّ أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلّها. لكن أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذه كلّها تزاد لكم” (متى 6). يخاف لكنه لا يستسلم للخوف. يلقي نفسه بين يديّ الله الحيّ. الخوف على المعيشة، الخوف على المستقبل يعطّل الإيمان. يفضي إلى الخطيئة. يفرع تبرير الذات. “بدنا نعيش!”. الإستسلام للخوف يأتي بنا الى طلب الغنى. يسقطنا في حبّ المال، في عبادة مامون. لذا تبنّي الفقر، ثقةً بالله وإلتماساً لغناه، علامة أساسية من علامات محبته. ولكن لنفهم: الكاهن هو الذي يطلب الفقر طوعاً ولا يفرضه عليه أحد لا الأسقف ولا وكلاء الكنيسة ولا المتنفذون في القوم. هؤلاء يوفّرون له كلّ ما يحتاج إليه، وبكرم وغيرة إلهية. الفضيلة لا تُفرض. الفضيلة تُقتبل.

ثالثاً: الصلاة والصوم.


أن يكون محباً للصلاة. ملازماً للصلاة. مداوماً على صلاة القلاية. مواظباً على صلاة الجماعة. الصلوات في الكنيسة. الصلوات التقديسية في البيوت. همّ الكاهن أولاً تقديس العالم، تقديس الزمن، تقديس النفوس. يصلّي مع الناس ويصلّي للناس ويصلّي على الناس. كلّ شيء عنده، كلّ مسألة، كلّ قضية، كلّ إهتمام مؤطّر بالصلاة. “لا تهتموا بشيء بل في كلّ شيء، بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتعلم طلباتكم لدى الله” (فيليبي 6:4). ومع الصلاة يكون الصوم. الصوم مساعد على الصلاة. مصاحب للصلاة. الصلاة الحقّانية تأتي من جوع لا من شبع.

رابعاً: مزايا نفسية.


أن يكون قادراً على ضبط نفسه. لطيفاً. سماعاً. محترماً للناس. مكرّماً للناس من دون تملّق. مصلحاً لهم من دون تهجّم. جلوداً. عقله راجحاً مرتباً. قادراً على التعبير الواضح عن نفسه. ذا مزايا قيادية دونما تسلّط. خدوماً دونما ابتذال. يرتاح الناس إليه. غير ضرّاب ولا محباً للمخاصمة. ثابتاً في موقفه دونما تصلّب. مرناً في تعاطيه دونما تلّون. يُتكل عليه. يُؤتمن له. صاحب شخصية سوية دونما عقد بارزة حادة. مثال ذلك أن يكون قد عانى تسلط أبيه المفرط فتقمص شخصيته، أو فقر بيته المدقع فأضحى مسرفاً أو بخيلاً، أو مِن قهر أبيه لأمه فأمسى كارهاً صورة الأب بعامّة، حقوداً. ذوو العقد المستعصية، في العادة، يضفون على عقدهم، في إطار الإلهيات، صبغة إلهية وهم لا يعلمون. له شخصية غَيرية لا انطوائية، تميل إلى الناس، تجد فرحاً ورضىً وإشباعاً في انفتاحها على الناس وتعاطيها معهم.

خامساً: النضج الروحي.


النضج الروحي يلطّف الواقع النفسي والمزاجيّ للشخص لكنه لا يغيّره بالضرورة. النضج الروحيّ والنضج النفسي متداخلان حتماً. من علامات النضج الروحيّ أن يكون المرء ملاحظاً نفسه، ملاحظاً أفكاره وتصرفاته، ضابطاً نفسه، مجاهداً، منقِّحاً ذاته. غير معجب بنفسه. مستعداً أبداً لأن يتّضع، لأن يعترف بخطيئته وتقصيره. لا تهمّه صورة الآخرين عنه بقدر ما تهمّه صورة الله عنه. يسامح بيسرٍ ويطلب الصفح بسهولة. يقبل الآخرين مهما كانوا عليه ويعرف أن يقبل ما يأتي عليه. ليس همّه في تبرير نفسه بل في إصلاح نفسه. متعقّلاً، صبوراً، حليماً، ورعاً، حنوناً، ودوداً، صلباً في تصميمه وعزمه، رقيقاً في مشاعره. الدمعة سهلة في عينيه. محباً للسلام، ساعياً إليه. دافئاً في علاقته بالناس دونما لزاجة، وعلى مسافة من الناس دونما برودة. لا يتصرّف مع الآخرين بدالة الأقران ولا يترك للآخرين مجالاً لأخذه بدالة العشراء. حدوده الشريعة ومحبة الله في الناس. رجل مواجهة. يؤدّب برحمة ويعزّي بنبل. محتشماً في المأكل والملبس والتصرّف. عفيفاً في العين واللسان. له امرأة تقية معينة له، ملتزمة كهنوته. يدبّر بيته حسناً وله أولاد في الخضوع بكل وقار.

سادساً: الثقافة الإلهية.


مطلوبة لغرضين: لأن الحياة الروحية السليمة لا تكون من دون معرفة للإيمان القويم. وثانياً لكي يكون الكاهن قادراً على التعليم والدفاع عن الإيمان بلغة الناس. ثمّة حجم من التحصيل العلميّ لما في الكتب مطلوب. ثمة تلمذة بخبرات الرعاية ضرورية. مطلوب من الكاهن أن يكون مداوماً على القراءة، عارفاً بما في الكتب لكي يتسنّى له أن يعكف على الوعظ ويلازم التعليم. الثقافة الإلهية لازمة ولكن في إطار القداسة والفقر والإتّضاع والصلاة والصوم والسعي الروحي الجادّ. اليوم نحن نعاني تجربتين: إعتبار الثقافة اللاهوتية الشرط الأساسي لإعداد الكهنة الموافقين وغضّ النظر، عملياً لا نظرياً، إلا في حدود العموميات، عن أصول الحياة الروحية والمقوّمات الكهنوتية الأخرى. هذه تجربة أولى، أما التجربة الثانية فهي الإكتفاء بإتمام الطقوس وضرب الصفح عن المعرفة الكتبية والثقافة الإيمانية. كِلا المنحيين خطر على كنيسة المسيح. كذلك ثمة حاجة – في ما بيننا – إلى معرفة للإسلام وسواه من التيّارات الدينية والفكرية – طبعاً ما أمكن – ليكون للكاهن أن يتبين وجه السيّد في ما يجري هنا وثمة لدواعي البشارة ولكي يكون له أن يدافع عن إيمان كنيسته ويقاوم المناقضين. الربّ الإله يعطي خائفيه حكمة. هذا صحيح. لكنّ الكاهن أيضاً يحصّل ما أمكنه بجدّ ونشاط تعاوناً مع ربّه، لئلا يوجد مقصّراً.

خلاصة القول

لعلّ هذه الصورة، للبعض منا، قاتمة ومثالية. الحق أن الكنيسة كشركة مؤمنين مفتقدة عندنا إلى حد بعيد. لدينا بعض الإشراقات، هنا وثمة، بعض الوجوه، لكنّ الفردية، بيننا، سيّدة الموقف. وحدة الكنيسة الأنطاكية تكاد تقتصر على العقيدة، بالمعنى الإيديولوجيّ للكلمة، وعلى الطقوس. وحدة الروح، وحدة القلب، وحدة الفكر، وحدة اليد، وحتّى وحدة القوانين الكنسية مفرّط بها إلى حدّ بعيد. إذا لم يتغير المناخ الروحيّ عندنا فإننا آيلون إلى بؤس لا قرار له. إذا لم نحرّك أنفسنا ويحرّكنا روح الرب إلى توبة صدوق وغيرة أصلية على كنيسة المسيح ووحدة محبية عميقة وشركة بالروح والحق فإن العتمة سوف تتكثف بالاكثر والبلبلة ستزداد والإرتداد سيمتد والضياع سيكون أشمل والإنقسامات ستعمّ. في أزمنة الإنحطاط لا شيء ينهض بالكنيسة إلا روح الشهادة، روح التضحية، روح البذل. هذه وحدها توقظ، تضخّ دماً جديداً. مشكلاتنا أكبر بكثير من أن تُحل بجملة تدابير قانونية أو إدارية أو مالية. لم يعد الموضوع موضوع تغيير أشخاص بل تغييراً في الذهن، في الروح، في القلب. ليقف كلّ واحد منا أمام ضميره، على محرس نفسه، أمام مسؤوليته، أمام ربّه. نحن بحاجة إلى كهنة، إلى رعاة. هذه أولية من جملة أولويات لكنّها أبرزها جميعاً. وإلى أن تتحرك الغيرة في النفوس على خراف المسيح سوف تبقى الصورة قاتمة.

والصورة أيضاً مثالية. هذا لأننا صرنا مشمولين بواقعية دهرية. الإلهيات تبدو لنا، إذ ذاك، مثاليات. ولكن لو عدنا إلى أنفسنا، لو تبنا عن طرقنا، لو أخذنا نسلك في الوصية بأمانة لبان لنا أن الإلهيات ليست مثاليات بل واقعية أخرى، الله فيها حيّ وروحه فاعل وكنيسته نبض حياة جديدة.

عن مجلّة النور

Leave a comment