الموت طفولة إلى الحياة الأبديّة

الموت طفولة إلى الحياة الأبديّة

الأرشمندريت توما بيطار


باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

يا إخوة، اليوم يوم عظيم جدًّا في تاريخ البشريّة، لأنّ ما حدث للعازر الصِّدّيق لم يسبق له أن حدث في التّاريخ. إنسان مودَع في القبر، وقد مرّ على رقاده أربعة أيّام، وأخذ يُنتنن، أي بدأ العفن يدبّ فيه؛ بكلام آخر، في داخل القبر، لم يعد هناك أثر للحياة البشريّة، كلّ أثر للحياة البشريّة زال تمامًا؛ وإذا بيسوع يُقيمه، أي يُقيم لعازر من بين الأموات!

إذًا، القيامة دخلت في واقع البشريّة! ربّما يقول المرء إنّ الرّبّ يسوع قام من بين الأموات لأنّه ابن الله. إنّ حوادث الإقامة من بين الأموات، الّتي جرت بيسوع، كمثل إقامة ابن أرملة نايين، وإقامة ابنة رئيس المجمع، ربّما تجعل المرء يقول إنّ مثل هذين الشّخصين لم يمرّ وقت على رقادهم؛ لأنّ الإنسان الميت، عند الشّرقيّين، يُوارى الثّرى في اليوم نفسه الّذي يرقد فيه، أو على الأكثر في اليوم الثّاني؛ فقد يخطر في البال أنّ الحياة لا تزال بعد مقيمة في هؤلاء الّذين قيل إنّهم رقدوا وأقامهم يسوع. لكن، أن يُقام إنسان بعد رقاده بأربعة أيّام، فهذا شيء جديد كلّيًّا.
القيامة، إذًا، دخلت في تاريخ الإنسان، لا بل التّاريخ بعد الّذي فعله يسوع صار تاريخًا قياميًّا، أو تاريخ القيامة من بين الأموات. وطبعًا، إذا كان يسوع قد أقام الميت بعد أربعة أيّام، فلا شيء يمنع إطلاقًا، من حيث المبدأ، أن يقيم إنسانًا مرّ على موته شهر من الزّمن، أو ربّما سنة من الزّمن، أو مئة سنة… طالما هناك قيامة، والقيامة هي من الموت الكامل في الجسد وهي بمثابة خلق جديد، فالقيامة يمكن أن تحدث حتّى بعد آلاف السّنين. هذا من جهة.
من جهة ثانية، نقرأ في الإنجيل المبارك ما قاله يسوع، ذات مرّة، في إحدى المناسبات الّتي تحلّق حوله فيها عدد من الأطفال. قال: “إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السّموات”. هذا كلام يستدعي التّأمّل. كيف يعود الإنسان طفلاً؟! أو بالأحرى، كيف عليه أن يصير كالأطفال؟! الطّفل، في وجدان الشّعوب القديمة، كان يمتاز بأمرين: الضّعف والجهل. أي إنّ الطّفل الصّغير، عندما يولد، يكون رمزًا للضّعف، بكلّ معنى الكلمة. لا حول له ولا قوّة. وفي الوقت نفسه، الطّفل أو الولد، عند الأقدمين، كان عنوانًا للجهل. لذلك، المثل لا يزال شائعًا: “فلان لا يزال ولدًا”، أي لم يكتمل نموّه، ولا يزال جاهلاً. الأمر اللاّفت للنّظر أيضًا، أنّ الإنسان إذا كان عليه أن يعود ويصير كالطّفل حتّى يدخل ملكوت السّموات، فهو يحتاج إلى أن يتشبّه بضعف الأطفال وبجهلهم. الإنسان يستطيع أن يتشبّه، إراديًّا، بجهل الأطفال، فيقول تواضعًا: “لا أعرف”. يستطيع أن يعوّد نفسه على القول: “أنا لا أعرف”، أو “لا أعرف تمامًا ما هو الجواب”. هذا يمكن للإنسان أن يفعله. لكن، كيف يمكن له أن يتشبّه بضعف الأطفال؟! هذا ليس في يده! – طبعًا، هناك وضعيّة معيّنة يمرّ فيها الإنسان، يشعر فيها بالضّعف. أو بالأحرى هناك وضعيّات. مثلا، متى يشعر الإنسان بضعفه؟! – يشعر بذلك عندما يكون مريضًا. وعندما يكون مرضه صعبًا وغير قابل للشّفاء، يشعر بمرضه أكثر، وبضعفه أكثر، لأنّ هذا يكون واقعه. وعمليًّا، الإنسان يشعر بالضّعف الأقصى عندما يكون مشرفًا على الموت. لذلك، بمعنًى من المعاني، الموت هو الحالة الّتي يختبر الإنسان فيها منتهى ضعفه. أي إذا ربطنا ذلك بموضوع الطّفولة والتّشبّه بالأطفال، فإنّ الإنسان يتشبّه بالأطفال، طالما هو على قيد الحياة، بجهلهم؛ ويتشبّه بالأطفال بضعفهم، عندما يصبح في ذروة مسار الموت. إذًا، الموت، بمعنًى من المعاني، هو رمز الطّفولة. كيف نفهم ذلك؟!
عند الشّرقيّين، هناك حالتان متشابهتان: الطّفل، عندما يولد، يُقمّط. اليوم، هذا الأمر لم يعد شائعًا. قديمًا، كان التّصوّر، عند النّاس، أنّ قامة الطّفل لا تستقيم ما لم يُلَفّ بالقِماط. كانوا يأتون بالأقمطة ويلفّون الطفّل بها، فلا يعود بإمكانه أن يحرّك لا رجليه ولا يديه، ويتركونه حرًّا قليلاً على مستوى الرّأس. لكن، حتّى الرّأس كانوا يضعون شيئًا عليه يغطّيه. إذا نظرنا إلى أيقونة الميلاد، نرى الرّبّ يسوع المسيح الطّفل موضوعًا في ما يشبه السّرير. عمليًّا، هذا يشبه القبر. هو موضوع في صندوق. وفي الوقت نفسه، هو مُقمَّط. النّاظر يستطيع أن يقول إنّ هذا طفل في السّرير، ويستطيع القول إنّ هذا ميت مكفّن في القبر. إذًا، هناك تشابه بين وضع الطّفل في السّرير، في ذلك الزّمان؛ ووضع الإنسان الرّاقد في القبر.
من هنا، الاستنتاج أنّ طفولة الإنسان، الّتي تكلّم عليها الرّبّ يسوع، عندما قال: “إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السّموات”، تكتمل بالموت. إذًا، المرحلة الأخيرة الّتي تسبق دخول الإنسان ملكوتَ السّموات هي مرحلة القبر، مرحلة الموت. هذه المرحلة، في المسيح، هي مرحلة الطّفولة القصوى، اكتمال الطّفولة. الطّفل يبقى في بطن أمّه تسعة أشهر؛ وعندما يكتمل، يخرج إلى الحياة في العالم. بالنّسبة إلى الرّاقد في المسيح، عندما تكتمل لدى الإنسان طفولة النّضج، ويبلغ المرحلة الأخيرة منها، مرحلة الموت؛ إذ ذاك، يخرج لا إلى العدم، بل إلى ملكوت السّموات. الموت في المسيح، إذًا، هو الطّفولة المكتملة المختصّة بالنّعمة الإلهيّة. في البداية، الطّفل يولد من بطن أمّه. أمّا الميت، فيولد من رحمة الله. هناك أمر طريف جدًّا هو أنّ لفظة “رحمة” لا تعني فقط الإحسان والشّفقة، لا! هذه اللّفظة مرتبطة بالرّحِم الّذي يعني البيت الّذي يسكنه الجنين. فالإنسان، عندما يولد من رحمة الله، يكون كأنّه خرج من رحم الله؛ لأنّ الله محبّة! بمحبّة الله يُعطى الإنسان أن يخرج من حياة مائتة إلى حياة أبديّة في ملكوت السّموات.
لذلك، كانت نظرة المؤمنين بالرّبّ يسوع المسيح إلى الموت مختلفة عن نظرة الشّعوب الأخرى أجمعين. الموت، بالنّسبة إلى الإنسان المؤمن حقّانيًّا بالرّبّ يسوع، هو اكتمال، هو نضج، هو اكتمال في التّشبّه بالطّفولة، هو طفولة إلهيّة! الإنسان، إذ ذاك، يكون في منتهى الضّعف! بشريًّا، تكون حياته قد انتهت. ولكن، إلهيًّا، يكون في وضع آخر، في وضع مختلف تمامًا! تدبّ فيه الحياة ، أي يكون طاقة حياة كامنة في إناء واهٍ ضعيف، في منتهى الضّعف، كأنّه الموت. هكذا يبدأ. وقليلاً قليلاً، تتفتّح الحياة فيه، وينمو ويكبر ليصير ممتلئ القامة في هذا العالم. كذلك الميت، إذا كان مؤمنًا بالرّبّ يسوع، وإذا مات مؤمنًا، فهذا يكون ممتلئًا حياة، الحياة تكون موجودة فيه. نحن، لماذا نتناول؟! ولماذا أصلاً اعتمدنا؟! ألا يُقال إنّنا نولد من جرن المعموديّة؟! إذًا، الحياة الجديدة في الرّبّ يسوع مقيمة فينا، ونحن نتناول باستمرار، ونساهم القدسات باستمرار، ونشترك في الأسرار الكنسيّة الّتي تشير جميعها إلى سكنى حياة الله فينا! لذلك، من المهمّ جدًّا أن ينقّي الإنسان نفسه باستمرار، ويتناول، ويشترك دائمًا في الأسرار الإلهيّة، وفي الصّلوات. هذا يجعله يتملأ من حياة الله. يكون، على مستوى اللّحم والدّم، سائرًا نحو القبر. لكنّه، في طريقه إلى القبر، يتملأ، بصورة متزايدة، من حياة الله؛ فمتى بلغ حدّ الموت في الجسد؛ إذ ذاك، يكون قد بلغ حدّ الحياة المكتملة بالنّعمة الإلهيّة؛ إذ ذاك، يدخل ملكوت السّموات.
إذًا، الطّفل إنسان يولد في الجسد، والميت إنسان يولد في الرّوح. الطّفل إنسان مخلوق، خلقه الله من العدم؛ والميت إنسان حيّ، يخلقه الله بالنّعمة إثر موت الجسد. إذًا، هناك تقابل بين الطّفولة في الجسد والطّفولة في الرّوح الّتي تكتمل في حدّ الموت.
وفقًا لهذه الصّورة الّتي نقلتها لكم، لعازر كان في القبر. بشريًا، كان قد انتهى. لكنّ يسوع بثّ فيه، بالكلمة، روحًا وحياةً. الرّبّ يسوع قال عن كلامه: “الكلام الّذي أكلّمكم به هو روح وحياة”. عندما قال الرّبّ للعازر: “يا لعازر، هلمّ خارجًا”، نفخ في لعازر الميت المودَع في القبر روحًا وحياةً؛ فعاد لعازر إلى الحياة، عاد لعازر إنسانًا حيًّا. الإنسان، عندما خلقه الرّبّ في التّكوين، جبله من تراب، وبثّ فيه نَفَسًا، أي روحًا؛ فصار الإنسان نفسًا حيّةً. الأمر نفسه فعله الرّبّ بلعازر. ولكن، هناك خليقة جديدة. الخليقة الأولى هي خليقة تنتهي بالموت. أمّا الخليقة الجديدة بيسوع المسيح، فهي خليقة تنتهي بالحياة الأبديّة. لهذا السّبب، سرت الأخبار، في زمن لعازر، أنّ هذا الأخير عاش طويلاً، وقيل إنّه لم يمت بعد ذلك. وكان هذا تعبيرًا عن أنّ هناك حياة جديدة يُخرجها الرّبّ الإله بخلقٍ جديد من موت الإنسان في الجسد. هذا كلّه إنّما كان ليشير إلى ما فعله يسوع بلعازر مقدّمةً لقيامته هو، لأنّه قام في اليوم الثّالث في جسد جديد، في جسد ممجَّد، لم يعد خاضعًا للموت. لعازر خضع للموت، بعد أن أُقيم. لكنّ الرّبّ الإله أقامه في اليوم الرّابع ليدلّ على قيامته هو، على قيامة يسوع في اليوم الثّالث. أمّا قيامتنا نحن في جسد ممجّد، فهذه ستأتي في اليوم الأخير.
إذًا، هذا هو العربون. الرّبّ يبيع ويشتري. يشتري منّا توبة، ويبيعنا نعمته. المطلوب هو فقط أن نسلك في وصيّته: “ليكن لي بحسب قولك”. إذا فعلنا ذلك، نكون قد اشترينا نعمة الله. ونعمة الله تُعطى لنا بالكامل ومجّانًا. تُعطى لنا الحياة الأبديّة، ويُعطى لنا الخلاص من دون تعب منّا. المهمّ أن نتمسّك بأذيال يسوع. المهمّ أن نعرف أنّ يسوع قد قام من بين الأموات، وأنّه هو وحده مَن يعطي البشريّة حياة جديدة. لذلك، كما كان النّاس يتبعون يسوع، ويسمعون كلامه، ويعتمدون باسمه؛ كذلك، علينا نحن أيضًا أن نسلك في إثره، أن نتبعه: “مَن أراد أن يتبعني فليحمل صليبه ويأتي ورائي”. أي على ألإنسان أن يقبل أن يحمل صليب جهل الطّفولة وضعفها. عليه أن يقبل أن يكون متّضعًا في حياته، وأن يكون لسان حاله دائمًا القول: “أنا لا أعرف. الله هو الّذي يعرف”. أنا أتعلّم من الله المعرفة. أنا أقول للرّبّ الإله: “علّمني أن أعمل رضاك”! إذ ذاك، أتعلّم. إذ ذاك، أعرف! قبل ذلك، أنا أقرّ بجهلي، وبأنّي لا أعرف شيئًا على الإطلاق. الله هو الّذي يعلّمني! هو المعلّم! بالإضافة إلى ذلك، أنا أسلك في إثر الرّبّ حتّى الموت، وأموت على الرّجاء، أقبل أن أُسلِم نفسي إليه كطفل بين يدي أمّه، وأقول له ما قال الرّبّ يسوع لأبيه السماويّ وهو على الصّليب: “في يديك أستودع روحي”. هذا يستغرق العمر كلّه. يتعلّم الإنسان حكمة الله، وأن يكون جاهلاً كإنسان، ولكن عارفًا بنعمة الله، وأن يحمل صليبه كلّ يوم من أجل يسوع، إلى أن يموت على رجاء القيامة والحياة الأبديّة.
كلّ حياتنا متمحورة في هذا المحور. في غير ذلك لا قيمة لحياتنا إطلاقًا. يسوع حياتنا: “أنا هو القيامة والحياة. مَن آمن بي فلن يرى الموت إلى الأبد”.
فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.

عظة في سبت لعازر، 11 نيسان 2009، حول يوحنا 11: 1- 45

Leave a comment