القداسة المُساء فهمها

القداسة المُساء فهمها

الميتروبوليت يوحنا زيزيولاس


نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

… الإفخارستيا الإلهية هي “شركة قديسين” بامتياز؛ إنها أوج التقديس، ليس فقط لأنها تمنح الإنسان الشركة الأكثر كمالاً وملئاً (جسدياً وروحياً) مع القدّوس الواحد الوحيد، بل لأنها أيضاً تشكّل التصوير الأكثر كمالاً للملكوت…

عبارة “قديس” أو “قداسة” هي شيء غير متّصل بزماننا وغريب عنه وعن حضارة الإنسان المعاصر ومساعيه بالكليّة. مَن هم الأهل الذين يطمحون إلى جعل أبنائهم “قديسين” في هذه الأيام؟ أيّ من مدارسنا وأنظمتنا التربوية ترعى القداسة أو تقدّمها كرؤية ومثال؟ الشخص “الناجح” في أيامنا، كما المثال في تربيتنا وحضارتنا المعاصرتين، ليس بأي شكل الشخص “الصالح والمطبوع على الخير” الذي كان في الأزمنة الماضية. على العكس، إنّه مَن يستطيع أن يحقق الثروة والرفاهية والنقلة الاجتماعية. هذا ما يريده الأهل من أبنائهم وما تتوق إليه أنظمتنا التربوية وما تشجعه وسائل الإعلام وتحلم به غالبية أجيالنا الفتية.
في الواقع، في مجتمع يرى في البطالة أكبر مشاكله ويسوده القلق على رفع مستوى الدخل الفردي، الحديث عن القديسين والقداسة يشكل تحدياً، او بالأحرى سبباً للضحك والسخرية. لقد صارت القداسة اليوم “رؤية منسية”. منسية لأنها وُجدت فعلاً في ما مضى من الزمان؛ لأنها كانت ما ألهَم حضارتنا؛ لأن شعبنا كان معتاداً على الحياة بين القديسين ومنهم كان يستنتج مقياس الحضارة: القديسون كانوا الأبطال، وشخصيات الأساطير العظماء، و”مشاهير كرة القدم” و”نجوم” ذلك الزمان. الآن، وحدها أسماء القديسين باقية، وحتى الأسماء تمّ “تقليمها” وتغييرها بطريقة غريبة، بينما الناس يفضّلون الاحتفال بأعياد ميلادهم الشخصية بدل تذكارات قديسيهم. في أزمنة مثل هذه، كيف يمكن الحديث عن القداسة؟ فالكلمات سوف تقع على آذان لامبالية. من جهة أخرى، كيف يمكن للمرء ألاّ يحكي عن أمر على هذا القدر من الأهمية والأساسية في حياة المسيحي؟ فمن دون قديسين، إيماننا غير موجود: لأننا إن تخليّنا عن القداسة، فلن يبقى شيء من الكنيسة، إلا مماثلتها للعالم. لن يكون من الممكن تلافي دهرنتها.
إلى هذا، القداسة في أيامنا ليست منسية وحسب، بل مُساءٌ فهمها، كلّما وحيثما أُشير إليها. ما معنى القداسة عندما يراها الإنسان كتصوير لملكوت الله، أو كخبرة وتذوّق مسبَق للأزمنة الأخيرة؟

القداسة غير المفهومة

لو سأل أحدهم المارّة في الشارع عن رأيهم في ما هي القداسة، الجواب الغالب سوف يكون التالي: القديس هو إنسان لا يخطأ، يرفع ناموس الله، أخلاقي في شتى الطرق، باختصار بلا خطيئة. في بعض الأحيان، يُضاف عنصر من التصوّف إلى معنى القداسة، كمثل أن القديس هو صاحب الخبرات الباطنية، الذي يتواصل مع الله، الذي يسقط في الغشوة فيرى أموراً لا يراها غيره من الناس، بكلام آخر هو إنسان يختبر حالات فائقة للطبيعة وقادر على القيام بأمور خارقة.

بهذه الطريقة يظهر أن مفهوم القداسة مرتبط في فكر الناس بمعايير أخلاقية ونفسية. بقدر ما يكون الإنسان فاضلاً تزداد قداسته. وبقدر ما يكون مواهبياً، يظهر قدرات لا يمتلكها الباقون عادةً (كقراءة الأفكار، ورؤية المستقبل، وغيرها…) وتكون هذه الأمور دافعة إلى اعتباره قديساً. والأمر نفسه ينطبق عكسياً: عندما نميّز خطأ ما في شخصية أو تصرّف أحدهم (كالنهم أو الغضب أو غيرها) نميل إلى شطبه من لائحة القديسين. أو، إذا كان أحدهم لا يظهِر أيّ قدرات فائقة للطبيعة بشكل او بآخر، فإن مجرد فكرة إمكانية كونه قديساً تبدو لنا منافية للعقل.
هذا الإدراك الشائع المنتشر للقداسة يطرح، على ضوء الإنجيل والإيمان والتقليد، عدداً من الأسئلة الأساسية. سوف نشير إلى بعضها:
1. إذا كانت القداسة بالدرجة الأولى تتعلّق باحترام الأصول الأخلاقية، فلماذا أدان الرب الفريسي فيما العشّار بُرِّئ في المثل نفسه؟ نحن غالباً ما نسمّي الفريسي “مرائياً”، لكن الحقيقة هي أنّه لم يكن يكذب عندما أصرّ على أنّه يلتزم بالناموس بإخلاص، أو أنّه وزّع عشر ثروته للفقراء، أو أنّه لم يهمل أي شيء بل احترم كلّ ما طلبه الرب منه كيهودي مؤمن. كما أنّه لم يكذب عندما وصف العشّار بالخاطئ، كما وصف العشار نفسه بنفسه، لأن العشّار كان بالحقيقة ظالماً ومتعدياً على القوانين الأخلاقية.
2. يطرَح استعمال الرسول بول لعبارة “قديس” في رسائله سؤالاً مشابهاً. عندما يتوجّه إلى مسيحيي كورنثوس، تسالونيكي، غلاطية وغيرها… يسمّيهم بولس “قديسين”. لكنه، في متن هذه الرسائل يشير إلى الآلاف من الخروقات الأخلاقية التي يقوم بها هؤلاء المسيحيون، والتي يدينها بشدة. في الحقيقة، في رسالته إلى الغلاطيين، يبدو أن الوضعية الأخلاقية للقديسين هناك كانت مخيّبة للآمال، حتى أن بولس اضطر إلى أن يكتب إليهم أنّه “فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا” (15:5). إذاً كيف يشير إلى المسيحيين الأوائل بالقديسين فيما هو أكيد أن حياتهم اليومية لم تستوفِ متطلبات إيمانهم؟ أتساءل هنا، هل يفكّر أحد اليوم في دعوة أيّ مسيحي قديساً؟
3. إذا كانت القداسة مرتبطة بمواهب فائقة للطبيعة، فقد يكون ممكناً البحث عنها وإيجادها خارج الكنيسة. معروف أن الأرواح الشريرة لديها القدرة نفسها على الأعمال الفائقة الطبيعة. القديسون ليسوا مستبصرين ولا دراويش، ولا قداستهم تحددها هذه “المواهب”. هناك قديسون في كنيستنا لم يجترحوا أيّ معجزات، فيما هناك مجترحو عجائب لم يُعتَرَف بهم قديسين. من المثير للاهتمام ما يقوله الرسول بولس في رسالته الأولى إلى الكورنثيين، الذين مثل الكثيرين اليوم، تأثّروا بالأعمال الفائقة الطبيعة: “وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَسْتُ شَيْئًا” (2:13). الرب نفسه قال أنّه ممكن أن تقول للجبل لينتقل إذا كان لديك إيمان كحبة الخردل. لكن حتى هذا ليس دليل قداسة. هذا ليس شيئاً إذا كان شرط المحبة ليس مستوفىً، بتعبير آخر، إذا كان شيئاً يمكن أن يمتلكه أيّ إنسان لا يملك قدرات عجائبية. لا علاقة بين اجتراح المعجزات والقداسة ولا يتواجدان معاً بالضرورة.
4. أسئلة مشابهة تُطرَح عندما تُربَط القداسة بخبرات غير عادية صوفية نفسية. كثيرون يتحوّلون إلى الأديان الشرقية لكي يلتقوا بالمعلمين (غوروgurus) المتفوّقين. الغورو رجال اكتسبوا بشكل مميز تنظيماً ذاتياً وتصرفاً نسكياً وصلاة، لكن الكنيسة لا تعتبرهم قديسين، بغضّ النظر عن عمق خبرتهم وتخطيها الطبيعة، أو عن عظمة فضيلتهم.
إذاً، يُطرَح سؤال: هل يوجد قديسون خارج الكنيسة؟ إذا كان معنى كلمة “قديس” هو ما يؤمن به الناس بشكل عام، كما وصفنا سابقاً (أي أسلوب الحياة الأخلاقي، المواهب الفائقة للطبيعة والخبرات غير الطبيعية)، فعلينا الاعتراف بوجود قديسين خارج الكنيسة ولربما أكثر بكثير مما فيها. أمّا إذا قلنا أن القداسة ممكنة فقط في الكنيسة فعلينا عندها أن نلتمس معنى القداسة الذي يتخطّى المعايير التي سبق لنا الإشارة إليها، أي ما بعد الكمال الأخلاقي والقوى والخبرات التي فوق الطبيعة.
لنرَ إذاً كيف تعي الكنيسة القداسةَ.
لعبارة “قديس” تاريخ مثير للاهتمام. أصل العبارة اليونانية (ágios) يُستَخرَج من جزء منها (ág) سلسلة من الكلمات كمثل (agnós) التي تعني الطاهر، و(ágos) التي هي صفة للأشياء التي تُوقّر لأنها ذات طابع توقيري… المعنى الأكثر عمقاً موجود في الفعل (άζεσθαι) الذي يعني الرهبة من قوة غامضة عظيمة، كما الاحترام المُقَدَّم إلى حامل قوة ما… إذاً، في اليونان القديمة، القداسة ارتبطت بالقوة، وبحسب تعبير أوتّو “بما يوحي بالجاذبية والخوف في آن واحد”.
في العهد القديم، العبارة السامية التي نقلها إلى اليونانية آباء الترجمة السبعينية هي ” godes” المرتبطة بشدّة بالكلمة الأشورية “كودوشو” التي تعني “قطع، فصل، تمييز، تطهير” (من هنا ارتباطها بالطهارة والتواضع). الأمور المتعلّقة بالقداسة هي تلك المميّزة من بين الأمور الباقية والمكَرَّسة إلى الله. إذاً، يتخطّى الكتاب المقدّس المعنى المرتبط بعلم النفس الذي نلاحظه عند الإغريق (الرهبة، الخوف، احترام القوة الخارقة) ويربط فكرة “القديس” بشيء آخر مطلَق، الآخر المطلَق، ما يقود الكتاب المقدس في آخر الأمر إلى ربط فكرة “القداسة” بالله نفسه، أي بالتعالي المطلَق، في العلاقة مع العالم. وحده الله قدوس، وبالتالي كل قداسة تنبع منه وترتبط به.
وللتشديد على هذا المعتَقَد، ينادي أشعياء، نبي قداسة الله، في العهد القديم “قدوس قدوس قدوس ربّ الصباؤوت”، حيث في العبرية التكرار الثلاثي يعني “قدوس بشكل مطلَق غير محدود”. بالتالي، القداسة في الكتاب المقدس ترتبط بالله وليس بأيّ شخص أو شيء مقدَّسين، كما في اليونان القديمة. تصير القداسة شخصاً، وبالحقيقة مع آباء الكنيسة تصير مرتبطة بالثالوث القدوس الذي أعادوا إليه تسبيح إشعياء المثلث التقديس. بالنسبة للإيمان المسيحي، لا تتمحور القداسة حول الإنسان بل حول الله، ولا تتوقف على الإنجازات الأخلاقية للإنسان، التي قد تكون عظيمة، بل على مجد الله ونعمته ودرجة ارتباطنا بالإله الشخصي. لهذا السبب نسمّي والدة الإله الثيوطوكوس “فائقة القداسة”، لا لفضائلها بل لأنها أكثر من أي شخص في التاريخ، وحدها وبشكل شخصي، اتّحدت بالله القدوس، عن طريق إعطائها الجسد والدم لابن الله.
بالنسبة للكنيسة، ليست القداسة ملكاً شخصياً لأيٍّ كان، بغضّ النظر عن قداسته في حياته؛ إنّها تتعلّق بعلاقته الشخصية مع الله. الله، بحسب بإرادته الحرّة، يقدّس مَن يختار، من دون أن تكون القداسة متوقّقة على أيّ شيء غير إرادة الشخص المقدَّس. كما يشدد القديس مكسيموس المعترف، نحن البشر لا نساهم بشيء غير إرادتنا فقط، التي لن يعمل الله من دونها. إلى هذا، نسكنا وجهاداتنا لا تؤدّي إلى القداسة كنتيجة من ذلك، إذ يمكن إثبات أنّها قشّ لا قيمة له.
في الإيمان المسيحي، ربط القداسة بالله نفسه يقود إلى ربطها بمجد الله الخاصّ. القداسة تعني الآن تمجيد الله من العالم كلّه. الطلبة في الصلاة الربيّة “ليتقدّس اسمك” ليست بالمصادفة. إذا كففنا عن اعتبار هذه الصلاة اسخاتولوجية (أي أخروية تشير إلى حالة العالم الأخيرة) واضح أن ما نطلبه في الصلاة الربيّة هو أن يكون الله ممجّداً من كلّ العالم، أي أن تأتي اللحظة حين يصرخ العالم بأسره مع الشاروبيم ما رآه أشعياء وسمعه في رؤياه: “قدّوس، قدّوس، قدّوس ربّ الصباؤوت؛ ملآنة السماء والأرض من مجدك، أوصنّا في الأعالي”.
لا يطلب القديسون أيّ مجد شخصي، بل مجد الله. يمجّد الله القديسين، لا بمجدهم بل بمجده هو. القديسون يتقدّسون ويُمَجَّدون، لا بقداسةٍ ومجدٍ نابعَين منهم بل بقداسة الله نفسه ومجده (لاحظوا كيف تصوّر الأيقونات الأرثوذكسية النورَ موجهاً من الخارج نحو ما يتمّ تصويره وعليه). لهذا معنى خاصّ في تمجيد القديسين. كما تمّ شرحه خلال المناظرات الهدوئية في القرن الرابع عشر وعلى عكس اللاهوت الغربي الذي حكى عن نعمة مخلوقة (أي نعمة ومجد عائدين لطبيعة الإنسان، يُفتَرَض أن الله أعطاهما للإنسان عند خلقه)، اللاهوت الأرثوذكسي، كما كشفه القديس غريغوريوس بالاماس وغيره من هدوئيي تلك الحقبة، يدرك النور الذي يراه القديسون كما المجد الذي يغلّفهم على أنّه من قوى الله غير المخلوقة؛ أي أنه نور الله ومجده. القديس الحقيقي هو مَن لا يطلب مجداً شخصياً بأيّ طريقة، بل فقط مجد الله. عندما يسعى الإنسان إلى مجده الذاتي يخسر قداسته، إذ على المدى الطويل، ما من أحد قديس إلا الله. تتضمّن القداسة شركة واشتراكاً في قداسة الله. في النهاية، هذا هو معنى التألّه. كلّ قداسة قائمة على فضائلنا وصفاتنا وجهاداتنا وما إلى ذلك شيطانية ولا علاقة لها بالقداسة في كنيستنا. من هذه الملاحظات، يتّضح أنّ مصدر قداستنا بامتياز موجود في القداس الإلهي. لنتوسّع قليلاً في هذا الموقف.
لقد ذكرنا أنّ ما من قداسة إلا قداسة الله، وأنّ القديسين لا يمتلكون أيّ قداسة من ذواتهم، بل يشتركون في قداسة الله. هذا يعني أن في الكنيسة ليس من قديسين إلا بمعنى أولئك الذين تقدّسوا.
في المناقشات التي دارت في القرن الميلادي الرابع حول موضوع ألوهة الروح القدس، الحجة الرئيسية التي استعملها القديس أثناسيوس ليبرهن أن الروح القدس إله وليس خليقة، كانت أنّ الروح القدس لا يمكن أن يُقَدَّس، بل هو يقدِّس. لو كان ممكناً تقديس الروح القدس، لكان بالحقيقة خليقة، لأن الخلائق ومنها البشر لا يقدِّسون بل يُقَدَّسون. في الصلاة الكهنوتية، كما هي محفوظة في إنجيل يوحنا ونقرؤها في أول قراءة من خدمة أناجيل الخميس العظيم، يردد المسيح هذه العبارة الغنية بالمعنى “… لأَجْلِهِمْ (أي لأجل الرسل ومن بعدهم كل البشر) أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ”. هذه الكلمات صدرت مباشرة قبل الآلام، وعند ربطها بالعشاء الأخير تكتسب معنى إفخارستياً: بتضحيته، المسيح (كإله) يقدّس ذاته (كإنسان) حتى يتقدّس كلّ الناس من خلال الاشتراك بجسده ودمه. في اشتراكنا بالقداس الإلهي، نتقدّس؛ أي نصير قديسين بالمشاركة في الواحد والقدوس الوحيد: المسيح.
قد تكون لحظة رفع الكاهن للكأس المقدسة، قبل المناولة، وإعلانه “القدسات للقديسين” هي اللحظة الأكثر كشفاً في حياة المسيحي لمعنى القداسة؛ بتعبير آخر، جسد المسيح المقدّس ودمه يُقَدَّمان إلى المقدَّسين، أعضاء الكنيسة، ليشتركوا. جواب الشعب على هذه الكلمات غامر (بقدر ما يلخّص كلّ ما سبق قوله) “قدّوس واحد، ربّ واحد، يسوع المسيح لمجد الله الآب”. واحدٌ فقط هو القدّوس بالفعل: يسوع المسيح. نحن كلّنا خطأة. وقداسته لا تتوق إلا إلى تمجيد الله (لمجد الله الآب…). عند تلك اللحظة بالذات تختبر الكنيسة قمّة القداسة. بالاعتراف بأن “قدوس واحد”، تتلاشى كل فضائلنا واستحقاقاتنا أمام قداسة الواحد القدوس الوحيد. هذا لا يعني أنّ بإمكاننا الاقتراب من المناولة من دون استعداد سابق وجهاد من أجل بلوغ مستحق. بالحقيقة هذا يعني أنّه بغض النظر عن كمِّ تهيئتنا لأنفسنا، لا نصير قديسين قبل المناولة. القداسة لا تسبق الشركة الإفخارستية بل تتبعها. لو كنا قديسين قبل المناولة، ما يكون هدفها؟ وحدها مشاركتنا في قداسة الله تقدّسنا، وهذا ما تقدمه لنا المناولة.
من هذه الملاحظة تنبع سلسلة من الحقائق المتعلّقة بموضوعنا:
الأولى هي أنّ بهذه الطريقة، نفهم سبب إشارة الرسول بولس في رسائله إلى كلّ أعضاء الكنيسة بالقديسين، بغضّ النظر عن حقيقة عدم امتلاكهم للكمال الأخلاقي. استناداً إلى أنّ قداسة الناس تفيد ضمناً اشتراكاً في قداسة الله بالطريقة التي يقدمها المسيح، الذي يقدّس ذاته بتضحيته، فكلّ أعضاء الكنيسة الذي يشتركون في ذلك التقديس يمكن تسميتهم قديسين.
على النموذج نفسه، منذ القرون الكنسية الأولى، اكتسبت كلّ عناصر الإفخارستيا اسم “قدسات” (كما ذكرنا “القدسات للقديسين”) مع أنّها بطبيعتها غير مقدسة. ولهذا السبب عينه، منحت الكنيسة في زمن مبكِر لقب “القديس” للأساقفة. الكثيرون يُصدَمون في هذه الأيام عندما نقول “القديس (فلان)”. على سبيل المثال، أحد المراسِلين، وقد جعل مهمته الأولى تسليط الضوء على فضائح الأساقفة، وضع كلمة “قديس” بين هلالين قبل اسم الأسقف. الأساقفة يُنادَون بهذه الطريقة لا كإشارة إلى فضائلهم بل لأنّهم، في الإفخارستيا المقدسة، هم الذين يمثّلون القدّوس الواحد الوحيد، هم صور المسيح الواقفين في مكان الله وسبله، كما يعبّر القديس إغناطيوس. إن ما يبرر لقب “القديس” هو مكان الأسقف في الإفخارستيا المقدّسة. قبل الخضوع لاختبار فساد التقوى الصعب، لم يكن الأرثوذكسيون يجدون أيّ صعوبة مع تسمية الصور، ويرون المسيح نفسه في شخص مَن يمثّله في القداس الإلهي، أي الأسقف.
وهكذا، الإفخارستيا المقدسة هي “شركة قديسين” بامتياز. هذا ما تطمح إليه جهادات النساك، أي أن الجهادات ليست نهاية بحد ذاتها أبداً، بل فقط الوسيلة نحو النهاية، التي هي الشركة الإفخارستية. هذه النقطة منسية ومهمَلة من الكثيرين من اللاهوتيين المعاصرين، حتى الأرثوذكسيين منهم، الذين يميلون، خاصةً في أيامنا هذه، إلى ربط القداسة بالجهادات النسكية. حالة القديسة مريم المصرية هي مثال بليغ. لقد جاهدت لأربعين سنة في الصحراء بكل قدرتها حتى تتطهّر من أهوائها وخطاياها السابقة، لكن عندما تلقّت المناولة من النِعَم الطاهرة بلغت حياتها إلى نهايتها الأرضية، وقد تقدّسَت. غاية نسكها كان الشركة الإفخارستية. هل كانت مريم قديسة لو أنها تطهرّت من أهوائها من دون أن تتناول؟ الجواب هو على الأرجح لا.
من ناحية ثانية، الإفخارستيا الإلهية هي أوج التقديس، ليس فقط لأنها تمنح الإنسان الاتحاد الأكثر كمالاً وملئاً (جسدياً ونفسياً) مع القدوس الواحد الوحيد، بل أيضاً لأنها تشمل التصوير الأكثر كمالاً لملكوت الله، أي الحالة التي فيها سوف تكون كل الخليقة أبدياً وبلا انقطاع مقدِّسة وممجِّدة “قدوس، قدوس، قدوس ربّ الصباؤوت”.

From the book «Sanctity, a forgotten vision», Akritas publications

سبق نشرها في “العربية”

Leave a comment