“نور المسيح يضيء للجميع” و”لتستقم صلاتي”

“نور المسيح يضيء للجميع” و”لتستقم صلاتي”

في خدمة القدسات السابق تقديسها


د. بانايوتيس سكالتسيس


تعريب د. رامي شربك

تُعتَبر البركة المترافقة مع الإعلان “نور المسيح يضيء للجميع” وكذلك ترتيلة “لتستقم صلاتي كالبخور أمامك…”[1] من أجمل عناصر خدمة قداس البروجيازميني.

توجد تفاسير متعددة حول الأهمية اللاهوتية والليتورجية لهذه البركة. أحد هذه التفاسير يتطرق إلى قراءات العهد القديم الواردة في قداس البروجيازميني، والتي استنار وأُلهم كُتَّابُها من نور المسيح. وبالتالي يجب أن ترتبط هذه القراءات بنور معرفة الله الحقيقي النابع من المسيح وأن تُفسَّر بمنظور النور الإنجيلي[2].
يشير اللاهوتي الروسي الكسندر شميمان، في هذا السياق، إلى كمال النبوءات في شخص المسيح[3]. يصير هذا النور المحسوس الذي يُبارَك ويُضاء في تلك الساعة رمزاً للمسيح، حكمة الله، التي تكلّم عنها سفر الأمثال[4]. إنه، كما يقول القديس سمعان التسالونيكي، “رمزُ النور الحقيقي، أعني به يسوع المسيح”[5].
يربط بعض الدارسين عبارة “نور المسيح يضيء للجميع” بالموعوظين والمستنيرين الذين كانوا يستعدّون، ابتداء من منتصف الصوم الكبير، للمعمودية في مساء سبت النور العظيم. نور المسيح إذاً أو نور الإيمان المسيحي “يضيء للجميع” وخاصة للمستنيرين[6]، الذين يطلب لهم أحد الأفاشين استنارة الذهن. أي أنّ نور المعمودية الذي يُتحد الموعوظين بالمسيح، سيفتح أذهانهم لفهم كلماته[7].
يلاحظ الأستاذ يوحنا فوندوليس أن هذا الارتباط ظاهري بالكلية، إذ إنّ «عبارة “نور المسيح يضيء للجميع” كانت تقال في جميع صلوات البروجيازميني حتى تلك التي كانت تُقام قبل أربعاء منتصف الصوم، أي في الأيام التي لم تكن تحضر فيها رتبة المستنيرين، كونها لم تكن قد شُكّلت بعد. من ناحية أخرى، إن التمييز بين رتب الموعوظين لم يكن واضحاً في القرن العاشر الميلادي، الذي ترد فيه العبارة “نور المسيح…” للمرة الأولى في قداس البروجيازميني»[8].
بناء عليه، يجب أن نبحث عن جذور هذه الممارسة الليتورجية في مواضع أخرى، وخاصة في تقليد قديم جداً يترافق خلاله استقبال النور في اجتماع الكنيسة المسائي مع تراتيل وبركات وتسابيح. تُذكَر هذه الممارسة بوضوح من قبل ترتيليانوس[9] وهيبوليطس الرومي[10] وغيرهما[11]. يشهد لها أيضاً القديس باسيليوس الكبير، إذ يذكر أن آباءنا كانوا يستقبلون “نعمة النور المسائي” بشكر وبترتيل “يا نوراً بهياً”، التي كانت تُرتّل من قبل الشعب الحاضر[12]. “نور المسيح يضيء للجميع” كانت أيضاً إحدى هذه التراتيل والهتافات، التي حُفظت إلى يومنا هذا في خدمة البروجيازميني، وهي تعتبر نوعاً من اختصار نشيد الغروب “يا نوراً بهياً”[13].
إن الممارسة القديمة تُظهر أن هذه العبارة، التي نجدها في القرن الرابع-الخامس محفورة على قناديل بشكل كامل أو بالحرف الأول من كل كلمة منها[14]، كانت تُقال من قبل الشماس الذي ينقل القنديل المضاء إلى الكنيسة في صلاة الغروب[15]. كانت، بطريقة ما، إشارة لإضاءة الأنوار المطفأة إلى ما قبل القراءة من سفر الأمثال في البروجيازميني[16].
إن الطريقة القديمة لإشعال النور ونقله من قبل الشماس ومباركة الشعب به في قداس البروجيازميني حُفظت في كثيرٍ من المخطوطات الليتورجية وفي كتابات القديس سمعان التسالونيكي، الذي يشير إلى أن رسم الصليب ومباركة الشعب كانا يتمّان في وسط الكنيسة وليس من الهيكل المقدس. إذ كان الشماس يأخذ بركة النور من الكاهن ويقوم بزياح إلى وسط الكنيسة فيرسم الصليب بالمبخرة ويقول الإعلان: “الحكمة لنستقم، نور المسيح يضيء للجميع”[17].
إن دخول الشماس إلى وسط الكنيسة، بحسب تيبيكون كنيسة الحكمة المقدسة (القسطنطينية، القرن التاسع-العاشر)، لم يكن يتم بين القراءتين وإنما بعدهما مباشرة. «بعد الانتهاء من تلاوة القراءتين، يأخذ الشماس الشمعدان ويقوم بالزياح قائلاً: “نور المسيح يضيء للجميع”، ثم يقول بعدها مباشرة: “الحكمة” ويُكمل الكاهن: “السلام لجميعكم” ثم المرتل: “لتستقم صلاتي كالبخور أمامك”»[18].
يُوضح الترتيب السابق أن عبارة “نور المسيح يضيء للجميع” لا ترتبط بالقراءتين، وإنما بترتيل “لتستقم صلاتي كالبخور أمامك”. أما إدخال العبارة بين القراءتين فقد تمّ لاحقاً بهدف إعطاء الوقت الكافي لإضاءة أنوار الكنيسة، بحيث تكون مضاءة بالكامل أثناء ترتيل “لتستقم صلاتي”[19].
يتغير مسار الخدمة كلها عند هذا الموضع بالذات، إذ نأتي إلى الجزء الأساسي من قداس البروجيازميني، أي المناولة الإلهية. الأمر الذي يسترعي الانتباه هنا هو إعادة الآية الثانية من المزمور 140، أي “لتستقم صلاتي…”، وترتيلها الخشوعي 6 مرات من قبل الكاهن والجوقة[20]، في الوقت الذي يقوم الكاهن فيه بتبخير المائدة المقدسة[21].
إن طريقة ترتيل “لتستقم صلاتي…”، أي بعد الإستيخونات (1، 3، 4 من المزمور) و”الذكصاكانين” ثم ترتيلها مرة أخيرة، يشبه ترتيل الأنديفونات بحسب التيبيكون المرتّل[22]، الأمر الذي يشير إلى صلتها بالغروب المرتّل الذي كان مرتبطاً هو الآخر بخدمة قداس البروجيازميني في الرعايا[23]. تشبه بنيتها أيضاً بنية البروكيمنن، إذ نجد إستيخوناً واحداً بارزاً من المزمور يُرتل أولاً، ثم يرتل بعد كل إستيخون من إستيخونات المزمور كاملة أو بعضاً منها[24].
يمكننا القول إذاً أن “لتستقم صلاتي” توازي البروكيمنن الذي يسبق الرسالة أو “الهللوييا” التي تسبق قراءة الإنجيل[25]. يشير إلى ذلك أيضاً ما تذكره المخطوطات حول عبارات “الحكمة” أو “لنصغ” أو “الحكمة لنستقم. لنصغ. السلام لجميعكم” التي كانت تسبق ترتيل “لتستقم صلاتي”، أي كما يحدث تماماً عند ترتيل البروكيمنن. فيما يخص القراءات الإنجيلية في البروجيازميني، فإننا نجدها في الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع العظيم، كما نجد قراءات من الرسالة والإنجيل في أعياد القديسين الموافقة[26].
إن دراستنا للتطور التاريخي لعلاقة “نور المسيح يضيء للجميع” و “لتستقم صلاتي كالبخور أمامك” بخدمة البروجيازميني، يُظهر، قبل أي شيء، ارتباطهما الوثيق ببعضهما البعض داخل هذه الخدمة. رأينا أولاً بركة نور صلاة الغروب من خلال ترتيل “يا نوراً بهياً…” وبركة أخرى بترتيل “نور المسيح…”. كذلك لاحظنا تقديم البخور أثناء ترتيل المزمور (140) وكذلك عند “لتستقم صلاتي…”، التي كانت تُرتّل، كما ذكرنا، بشكل بروكيمنن لقراءتي الرسالة والإنجيل. يشير إلى هذا الارتباط الوثيق مخطوط قديم جداً يرد فيه أن هذين العنصرين “يأتيان من تقليد ليتورجي قديم جداً ضمن شكل قديم لخدمة مسائية، لم يُحفظ سوى القليل منها في خدمة البروجيازميني”[27].
خلال جوّ الصوم الكبير الخشوعي، والذي يُعتبر قداس البروجيازميني جزءاً منه، ترفع عبارة “نور المسيح يضيء للجميع” ذهننا من نور العالم المخلوق إلى النور غير المخلوق والبهي لمخلصنا، لأن “النور الحقيقي بتجسد يسوع المسيح أنارنا نحن الجالسين في الظلمة، ونور نعمته ملأ المسكونة”[28].
أمّا “لتستقم صلاتي كالبخور أمامك” فهي تُحرّر وتغيّر هيئة قلوبنا، باعتبارها واحدة من أجمل تراتيل التوبة التي تدخلنا إلى القسم الثاني من قداس البروجيازميني[29]. إنها كالدواء الخلاصي المُطَهِّر من الخطايا خلال فترة ومسيرة استعدادنا للفصح المقدس والقيامة.

الحواشي

1. مز 140: 2.

2. Δ. Ν. ΜΩΡΑΙΤΟΥ, ό. π., σ. 95. Ι. Μ. ΦΟΥΝΤΟΥΛΗ, Απαντήσεις εις Λειτουργικάς Απορίας, τ. Β’, «Αποστολική Διακονία», Αθήνα 1989, σ. 217.
3. AL. SCHMEMANN, Μεγάλη Σαρακοστή. Πορεία προς το Πάσχα, Μεράφρ. από το Αγγλικό: Ελένη Γκανούρη, εκδ. «Ακρίτας», Αθήνα 1984, σ. 67.
4. Ι. Μ. ΦΟΥΝΤΟΥΛΗ, Λειτουργία Προηγιασμένων Δώρων, σ. 16.
5. سمعان التسالونيكي، الآباء اليونان 155، 657.
6. Δ. Ν. ΜΩΡΑΙΤΟΥ, ό. π., σ. 95.
7. AL. SCHMEMANN, ό. π., σ. 67.
8. Ι. Μ. ΦΟΥΝΤΟΥΛΗ, Απαντήσεις…, τ. Β’, σ. 217.
9. Απολογία, 1, 39.
10. G. Dix, The Apostolic Tradition of St. Hippolytus of Rome, London: S.P.C.K 1937, σσ. 51-51.
11. N. D. USPENSKY, Evening Worship in the Orthodox Church, New York 1985, σσ. 134-135.
12. باسيليوس الكبير، في الروح القدس، الآباء اليونان 32، 205.
13. Ι. Μ. ΦΟΥΝΤΟΥΛΗ, Λειτουργία Προηγιασμένων Δώρων, σ. 16.
14. Ι. Μ. ΦΟΥΝΤΟΥΛΗ, Απαντήσεις…, τ. Β’, σ. 218-219. N. D. Uspensky, ό. π., σ. 135.
15. I. E. RAHMANI, Testamentum Domini nostril jesu Christi, Mainz 1899, σ. 2, 11.
16. سمعان التسالونيكي، الآباء اليونان 155، 653ب.
17. سمعان التسالونيكي، الآباء اليونان 155، 657أ.
18. J. MATEOS, ό. π., σ. 246.
19. Ι. Μ. ΦΟΥΝΤΟΥΛΗ, Απαντήσεις…, τ. Β’, σ. 220-221.
20. تُعتبر هذه الممارسة حديثة نسبياً، إذ تذكرها المخطوطات ابتداءً من القرن السادس عشر. قبل ذلك الوقت كانت تُرتّل من قبل الشعب.
21. Ι. Μ. ΦΟΥΝΤΟΥΛΗ, Λογική Λατρεία, εκδ. «Αποστολικής Διακονίας», Αθήνα 1984, σ. 53. N. D. USPENSKY, ό. π., σ. 133.
22. S. JANERAS, «La partie vespérale de la liturgie byzantine des présanctifiés», εν Orientalia Christiana Periodica, τ. ΧΧΧ (1964) 207-209.
23. سمعان التسالونيكي، الآباء اليونان 155، 656-660أ.
24. Ι. Μ. ΦΟΥΝΤΟΥΛΗ, Απαντήσεις…, τ. Γ’, σ. 105-106.
25. N. D. USPENSKY, ό. π., σ. 132.
26. Ι. Μ. ΦΟΥΝΤΟΥΛΗ, Η Λειτουργία των Προηγιασμένων Δώρων, σ. 17.
27. S. JANERAS, ό. π. Ι. Μ. ΦΟΥΝΤΟΥΛΗ, Απαντήσεις…, τ. Γ’, σ. 108-109.
28. سمعان التسالونيكي، الآباء اليونان 155، 657ب.
29. AL. SCHMEMANN, ό. π., σ. 67.

Leave a comment