السيادة لله وحده!

السيادة لله وحده!

الأرشمندريت توما بيطار


باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

المسيح قام.

يا إخوة، يوحنّا، في تعامله مع الرّبّ يسوع، كان مثاليًّا، لأنّه، كإنسان واقف بإزاء الله، عرف نفسه، ووقف عند حدّه، وارتضى أن يمّحي، ارتضى أن يكون هناك سيّد واحد هو الرّبّ يسوع المسيح؛ فقد قال صراحةً إنّ فرحه مرتبط بصوت الختن. يكفيه أن يسمع كلام الله: “ففرحي هذا قد تمّ. وله [أي للختن] ينبغي أن ينمو، ولي أن أنقص”. يوحنّا كان مجرّد شاهد. قطب الاهتمام هو يسوع؛ فيوحنّا مثاليّ بالنّسبة إلى النّاس، لأنّه يعطي نفسه مثالاً طيّبًا لطبيعة العلاقة الّتي يجب أن يكون عليها كلّ إنسان في تعامله مع ربّه.

يسوع قال مرّة هذا القول: ” لا تدعوا لكم سيّدًا على الأرض لأنّ سيّدكم واحد في السّماء”. قد يظنّ بعضنا أنّ هذا الكلام يشير إلى الملوك والرّئاسات وذوي الرّفعة. هذا صحيح. لكنّ مدى القول الإلهيّ أبعد من ذلك بكثير. كلّ واحد منّا، في الحقيقة، يعاني مشكلة الرّئاسة، مشكلة السّيادة. يريد أن يكون سيّدًا. وهذا شيء من عطب الإنسان منذ السّقوط. ليس المقصود فقط أن يطمح الإنسان إلى الرّئاسات في قومه، بل أن يكون موقف كلّ واحد منّا موقفًا على مثال موقف يوحنّا: موقف الامّحاء بإزاء السّيّد. المتزوّجون، مثلاً، يعانون مشكلة الرّئاسة، يعانون مشكلة السّيادة! في المجتمع الرّجوليّ، الرّجل يعتبر نفسه سيّدًا في بيته: سيّدًا على امرأته، سيّدًا على أولاده! نفسيّته نفسيّة سيادة. لذلك، كلّ إنسان يحتاج، في الحقيقة، إلى أن يتعلّم كيف يُفرغ نفسه من هذا الميل، من هذا الاستعداد لأن يكون سيّدًا.
السّيادة، في الحقيقة، بين النّاس، لها ثلاثة أبعاد:
– أوّلاً، الإنسان الّذي يرمي إلى السّيادة هو إنسان يميل بسهولة إلى الكبرياء. بكلام آخر، يعبد نفسه. نظرته إلى نفسه نظرة عظمة.
– البعد الثّاني، لأنّه كذلك؛ فهو يطلب مشيئة نفسه في كلّ حال. يطلب دائمًا أن يُطاع، يطلب دائمًا أن يُعترَف بفهمه، برجاحة عقله، بحكمته… إذًا، هو إنسان يتمسّك بإرادته.
– والبعد الثّالث، لأنّه متكبّر ويعبد نفسه، ولأنّه متمسّك بفرادته ويطلب أن يُطاع، يقع في أحزان كثيرة.
إذًا، الوقوع في الأحزان، في الحياة، سببه تمسّك الإنسان بصورته عن نفسه أنّه سيّد. المتّضع لا يطلب مشيئة نفسه. وبالتّالي، لا يطلب أن يُطاع، ولا يطلب ما لنفسه، بل ما لسيّده. ولذلك، لا يحزن، يقبل كلّ شيء. الحزن، في الحقيقة، عائد، بالدّرجة الأولى، لكون الإنسان متمسّكًا برأيه. عندما يتوقّف الإنسان عن التّمسّك برأيه، ويصير مستعدًّا لأن يقبل، ويهتمّ بما لربّه؛ إذ ذاك، لا يعود يحزن لشيء، بل يقبل كلّ شيء، ويفرح، لأنّه يستمدّ فرحه من سيّده، لا من ذاته. يوحنّا استمدّ فرحه من يسوع: “فرحي هذا قد تمّ” [لأنّ السّيّد يأخذ محلّه في حياة العالمين، وأنا شهدت لذلك، وأنا كان كلّ همّي أن يُعرف أنّه هو السّيّد، أنا لست بشيء]. ولذلك، يوحنّا سيق إلى قطع الهامة وفي قلبه فرح. حتّى الموت لم يكن، بالنّسبة إليه، مجالاً للحزن، بل مجالاً للفرح. طبعًا، هذا يذكّرنا بما قاله الرّسول المصطفى بولس، مرّةً، إنّه يفرح بآلامه وأتعابه، وإنّه يحتسب الموت ربحًا. لمَ ذلك؟! – لأنّ بولس “أفرغ نفسه وأخذ صورة عبد” على مثال معلّمه. لذلك، لم يعد هناك سبب للحزن. كيف يحزن الإنسان إذا كان كلّ ما يفعله وكلّ ما يأتي عليه يدخل ضمن دائرة معلّمه؟! طالما الأمر مرتبط بإرادة معلّمه، فهو يفرح. يحزن فقط عندما يرتبط الأمر بإرادته هو، عندما لا يحصل على ما يريد، عندما لا يتحقّق ما لا تشتهيه نفسه.
من هنا، يا إخوة، إنّ مشكلة الإنسان الأولى أنّه يظنّ نفسه سيّدًا، ويتصرّف كسيّد، ويريد أن يسود بين النّاس، ولو بين عدد قليل منهم. فالمطلوب، لكي يرتاح الإنسان، أن تكون عيناه مسمّرتين على المعلّم. فرح العبد هو أن يكون سيّده راضيًا عنه. والإنسان الّذي يستعبد نفسه لله يستمدّ فرحه من رضى الرّبّ عنه.
طبعًا، هناك مشكلة، في كنيسة المسيح، هي مشكلة خدّام الكنيسة: البطاركة، الأساقفة، الكهنة، الشّمامسة. هؤلاء، أحيانًا، يتستّرون باسم الله، ويستعملون سيادة الله ليمدّوا، في الحقيقة، سلطانهم هم. بدل أن يستعبدوا أنفسهم ليسوع، يستعملون يسوع، ويستعبدونه لأهوائهم! يتكلّمون بسلطان يدّعونه، في كلّ حال، من عند الله. ليس البطريرك، ولا الأسقف، ولا الكاهن سيّدًا على أحد. هو دائمًا يشير إلى يسوع. هو دائمًا يشهد ليسوع، ويُفرغ نفسه كيوحنّا لكي يُفسح في المجال ليسوع أن تكون له السّيادة على النّاس. لذلك، الخادم، في الكنيسة، هو إنسان سعيُه في كلّ حين لإفراغ نفسه، وطلب ما لسيّده، والتّنقّي من مشيئته الخاصّة. عندما يشعر، في أعماقه، بالفرح لأنّ مشيئة سيّده تتمّ فيه وفي الآخرين؛ إذ ذاك، يكون قد تنقّى. نحن نغرق، أحيانًا كثيرة، في بحر الكلام، نتكلّم بما لا نشعر، ونتداول ما لا يكون، بالضّرورة، حقيقةً في نفوسنا. في أكثر الأحيان، نكون باطنيّين: نفرح بما لأنفسنا، ولا نفرح كثيرًا بما لله. نفرح بالكلام! ولكن، في أعماق القلب، بسبب عدم نقاوتنا، لا نفرح، بل نحزن، لأنّنا نطلب مجد أنفسنا، لا مجد الله. نطلب أن يُقال فينا حسنٌ، لا أن يُسبَّح الله. هذه مشكلة خدّام الكنيسة، أنّهم يصادرون سيادة الله، ويتصرّفون كأسياد، وعليهم أن يفعلوا العكس. عليهم أن يُفرغوا ذواتهم من كلّ كرامة ذاتيّة، وأن يطلبوا، في كلّ حين التّواري حتّى يكون الرّبّ يسوع المسيح وحده هو السّيّد عليهم وعلى كلّ النّاس الّذين يخدمونه.
خلاصة الكلام، أنّ على كلّ واحد منّا، بغضّ النّظر عن الموقع الّذي هو فيه، أن يكون خادمًا ليسوع، وخادمًا ليسوع في الآخرين أيضًا. لذلك، لا يتسيّد على أحد، ولا يطلب مجد نفسه. الإنسان المؤمن بيسوع هو إنسان مبذول. الزّواج النّاجح لا يمكن إلاّ أن يقوم على امّحاء كلٍّ من الزّوجين في تعامله مع شريكه. الزّوج عليه أن يمّحي بإزاء زوجته، يطلب ما هو لها، لا لأهوائها، بل ما هو ليسوع فيها. وهي عليها، بدورها، أن تُلغي نفسها وتطلب ما ليسوع في شريك حياتها. إذا فعل الزّوجان ذلك بأمانة، وكانا يستمدّان أبدًا الكلمة من السّيّد، من الإنجيل الكريم؛ إذ ذاك، يُصبح زواجهما مسيحيًّا. عندما يكون المسيح هو السّيّد في البيت؛ إذ ذاك، يكون الزّواج مسيحيًّا. لا يكون الزّواج مسيحيًّا لأنّ طقوسًا تُجرى. وحيث لا زواج مسيحيّ بمعنى الكلمة، يكون الزّواج بشريًّا، أهوائيًّا، وتكون الحياة بعامّة قائمةً على طلب كلّ إنسان ما لنفسه. وهذا يعني أنّ كلّ إنسان سوف يلقى نفسه مصطدمًا بالآخرين. إذا كان كلّ واحد ليطلب ما لنفسه، فأمر طبيعيّ جدًّا أن يصطدم الواحد بما للآخر: الزّوج بزوجته، والزّوجة بزوجها، والعمّال برئيس العمل، ورئيس العمل بالعمّال… النّاس كلّهم يصطدمون أحدهم بالآخر. وهذا كلّه يولّد حزنًَا. والتّراث، إذ ذاك، يكون تراث حزن. ويحتمل النّاس بعضهم بعضًا! نحن لسنا مدعوّين أبدًا إلى أن نحتمل أحدنا الآخر. نحن مدعوّون إلى أن يحمل أحدنا الآخر. ونحن نحمل بعضنا بعضًا بالحبّ فقط، بامّحاء بإزاء الّذين معنا والّذين لنا. إذ ذاك، نحملهم، نحمل آلامهم وأتعابهم وسعيهم، وهمّنا أن يصير يسوع هو المقيم فيهم.
متى كان قطب الاهتمام، بالنّسبة إلينا، هو يسوع؛ إذ ذاك تستقيم الأمور، وإلاّ لا تستقيم إطلاقًا. ومتى استقامت الأمور، كان لنا فرح، وكان لنا سلام. وإذ ذاك، يكون المسيح معنا وفيما بيننا.

المسيح قام.


عظة في السّبت 25 نيسان 2009 حول يوحنا 3: 22- 22.

Leave a comment